تيسير التفسير لإبراهيم القطان - إبراهيم القطان  
{وَكَذَٰلِكَ نُصَرِّفُ ٱلۡأٓيَٰتِ وَلِيَقُولُواْ دَرَسۡتَ وَلِنُبَيِّنَهُۥ لِقَوۡمٖ يَعۡلَمُونَ} (105)

نصرّف الآيات : نأتي بها متواترة حالا بعد حال ، مفسرين لها في كل مقام بما يناسبه .

درس الكتابَ والعلم يدرسه درسا ودراسة ومدارسة : قرأه وتعلمه .

يتجه الخطاب هنا إلى الرسول الكريم ، فيتحدث عن تصريف الآيات على مستوى لا يمكن أن يأتي به النبي الأُمّيّ من عنده . وفي ذلك إشارة إلى أن المشركين يعلمون حق العلم أن النبيّ محمداً عاش بينهم ولم يدخل مدرسة ، ولم يجلس إلى معلم ومع هذا فهم يعاندون فيقولون : إن محمداً درس هذه القضايا العقيدية والكونية مع أحد أهل الكتاب .

كيف هذا وما كان شيء من حياتك يا محمد خافياً عليهم ، لا قبل الرسالة ولا بعدها ! وكيف هذا وليس مِن أهل الكتاب من يعلم شيئاً على هذا المستوى ! إن كتب أهل الكتاب موجودة قائمة ، والمسافة شاسعة بين ما فيها وما في هذا القرآن الكريم .

ولا نريد أن نقول في هذه الكتب التي بين أيديهم شيئا ، لكن علماءهم وكتابهم انتقدوها وبيّنوا كثيرا من زيفها وتحريفها . وقد صدر حديثا كتاب لعالم وطبيب فرنسي كبير هو الدكتور «موريس بوكاي » جعل اسمَه «القرآن والتوراة والإنجيل والعلم » . وفيه بيّن هذا العالم الكبير بعد دراسته التحليلية أن القرآن لا يتناقض مع الحقائق العلمية والتاريخية ، خلافاً للتوراة والإنجيل . وهو يقول : «لقد اعتبر الإسلام دائماً أن هناك اتفاقاً بين معطيات كتابه المقدس والواقع العلمي . ولم تكشف دارسة نص القرآن في العصر الحديث عن الحاجة إلى إعادة النظر في هذا . وسوف نرى فيما بعد أن القرآن يثير وقائع ذات صفة علمية . وهي وقائع كثيرة جدا ، خلافاً لقلّتها في التوراة . وليس هناك أي وجه للمقارنة بين القليل جداً لما أثارته التوراة من الأمور ذات الصفة العلمية ، وبين تعدّد الموضوعات ذات السمة العلمية وكثرتها في القرآن . . .

وعلى سبيل المثال ، نحن نجهل التاريخ التقريبي لظهور الإنسان على الأرض . . . لكنّنا لا نستطيع علمياً قبول صحة نص سفر التكوين الذي يورد أنساباً وتواريخ تحدّد أصل ظهور الإنسان ( خلق آدم ) بحوالي 37 قرنا قبل المسيح . . . هذا فيما نستطيع أن نطمئن إلى أنه لن يمكن أبداً إثبات أن الإنسان قد ظهر على الأرض منذ 5736 سنة كما يقول التاريخ العبري في 1975 . وبناء على ذلك فإن معطيات التوراة الخاصة بقدم الإنسان غير صحيحة .

وإن الدارسة التي نقدمها الآن تختص بما تُنبئنا به الكتب المقدسة فيما يتعلق بالظاهرات الطبيعية المتنوعة الكثيرة ، والتي تحيطها تلك الكتب بقليل أو بكثير من التعليقات والشروح . ولا بد من الملاحظة أن الوحي القرآني غني جداً في تعدُّد هذه المواضيع ، وذلك على خلاف ندرتها في العهدين القديم والجديد .

لقد قمتُ أولاً بدارسة القرآن الكريم ، وكان ذلك دون أي فكر مسبق وبموضوعية تامة ، باحثاً عن درجة اتفاق نص القرآن ومعطيات العلم الحديث . وكنت أعرف قبل هذه الدراسة ، وعن طريق الترجمات ، أن القرآن يذكر أنواعا كثيرة من الظاهرات الطبيعية ، ولكن معرفتي وجيزة . وبفضل الدراسة الواعية للنص العربي استطعت أن أحقق قائمة أدركت بعد الانتهاء منها أن القرآن لا يحتوي على أية مقولة قابلة للنقد من وجهة نظر العلم في العصر الحديث .

وبنفس الموضوعية قمتُ بنفس الفحص على العهد القديم والأناجيل : أما بالنسبة للعهد القديم فلم تكن هناك حاجة للذهاب إلى أبعد من الكتاب الأول ، أي سِفر التكوين ، حيث وجدت مقولاتٍ لا يمكن التوفيق بينها وبين أكثر معطيات العلم رسوخاً في عصرنا .

وأما بالنسبة للأناجيل فما نكاد نفتح الصفحة الأولى منها حتى نجد أنفسنا دفعة واحدة في مواجهة مشكلة خطيرة ، ونعني بها شجرة أنساب المسيح . ذلك أن نص إنجيل متّى يناقض بشكل جلي إنجيلَ لوقا . إذ أن هذا الأخير يقدم لنا صراحة أمراً لا يتفق مع المعارف الحديثة الخاصة بقدَم الإنسان على الأرض . غير أن وجود هذه الأمور المتناقضة وتلك التي لا يحتملها التصديق ، وتلك الأخرى التي لا تتفق والعلم ، لا يبدو لي أنها تستطيع أن تضعِف الإيمان بالله . ولا تقع المسئولية فيها إلا على البشر . ولا يستطيع أحدا أن يقول كيف كانت النصوص الأصلية ، وما نصيب الخيال والهوى في عملية تحريرها ، أو ما نصيب التحريف المقصود من قِبَل كتبةِ هذه النصوص ، أو ما نصب التعديلات غير الواعية التي أدخلت على الكتب المقدسة .

إن ما يصدمنا حقاً في أيامنا هذه أن نرى المتخصصين في دراسة النصوص يتجاهلون ذلك التناقض والتعارض مع الحقائق العلمية الثابتة ، أو نراهم يكشفون عن بعض نقاط الضعف ليحاولوا التستّر عليها ، مستعينين في ذلك ببهلوانيات جدلية .

وسنقدم في هذا الكتاب أمثلة لاستخدام وسائل التستّر على التناقض أو على أمر بعيد التصديق ، مما يسمونه «صعوبةً » استحياءً منهم ، وأنه كان ناجحا في كثير من الأحيان . وهذا ما يفسر لنا كيف أن كثيراً من المسيحيين ظلوا يجهلون نقاط الضعف الخطيرة في كثير من المقاطع في العهد القديم وفي الأناجيل . وسيجد القارئ ، في الجزئين الأول والثاني من هذا الكتاب أمثلة صحيحة في ذلك .

أما الجزء الثالث فسيجد فيه القارئ أمثلة توضيحية لتطبيق العلم على دارسة أحد الكتب المقدسة ، وهو تطبيق لم يكن يتوقعه الإنسان . كما سيجد القارئ في ذلك بياناً لما قد جاء به العلم الحديث الذي هو في متناول كل يد ، من أجل فهمٍ أكملَ لبعض الآيات القرآنية التي ظلت حتى الآن مستغلقة أو غير مفهومة . ولا عجب في هذا إذا عرفنا أن الإسلام قد اعتبر دائما أن الدين والعلم توأمان متلازمان . فمنذ البدء كانت العناية بالعلم جزءاً لا يتجزأ من الواجبات التي أمر بها الإسلام . والواقع أن تطبيق هذا الأمر هو الذي أدى إلى ذلك الازدهار العظيم للعلوم في عصر الحضارة الإسلامية . تلك الحضارة التي اقتات منها الغرب نفسه قبل عصر النهضة في أوربا . إن التقدم الذي تمّ اليوم ، بفضل المعارف العلمية ، في شرح بعض ما لم يكن مفهوما ، أو بعض ما قد أسيء تفسيره حتى الآن ، من آيات القرآن ، ليشكّل قمةَ المواجهة بين العلم والكتب المقدسة » .

هذه مقتطفات مختصرة جداً من مقدمة هذا الكتاب الرائع الذي يقدّم لنا شهادة صادقة صادرة عن دراسة وبحثٍ بأمانة وحياد وشجاعة بدون تحيز ولا تعصب .

{ وكذلك نُصَرِّفُ الآيات وَلِيَقُولُواْ دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ } .

وبمثل هذا التنويع في عرض الدلائل الكونية ، نعرض آياتنا في القرآن منّوعة مفصّلة ، لنقيم الحجة بها على الجاحدين ، فلا يَجِدوا إلا اختلاق الكذب ، فيتهموك بأنك تعلّمت من الناس لا من الله .

هكذا بين سبحانه لرسوله أن الناس في شأن القرآن فريقان : فريق فسدت فطرتهم ولم يبقَ لديهم استعداد لهدية ، ولا للعلم بما فيه من تصريف الآيات ، ومن ثم كان نَصيبهم منه الجحود والإنكار . وفريق آخر اهتدى به وعمل بما فيه . . . من ثَم أمر رسوله أن يتبع ما أوحي إليه من ربه ، وأن يُعرض عن المشركين ، ولا يشغل باله بتكذيبهم وعنادهم .

قراءات :

قرأ ابن كثير وأبو عمرو «دارست » وابن عامر ويعقوب «درستْ » . بصيغة الماضي .