الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{وَكَذَٰلِكَ نُصَرِّفُ ٱلۡأٓيَٰتِ وَلِيَقُولُواْ دَرَسۡتَ وَلِنُبَيِّنَهُۥ لِقَوۡمٖ يَعۡلَمُونَ} (105)

قوله تعالى : { وَكَذلِكَ } : الكاف في محل نصب نعتاً لمصدر محذوف ، فقدَّره الزجاج : " ونُصَرِّفُ الآياتِ مثلَ ما صَرَّفناها فيما تُلي عليكم " ، وقدَّره غيرُه : نُصَرِّف الآيات في غير هذه السورة تصريفاً مثل التصريف في هذه السورة .

قوله : " ولِيقولوا " الجمهور على كسرِ اللامِ ، وهي لام كي ، والفعلُ بعدها منصوب بإضمار " أَنْ " فهو في تأويل مصدر مجرور بها على ما عُرِف غيرَ مرة ، وسمَّاها أبو البقاء وابن عطية لام الصيرورة كقوله تعالى :

{ فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً } [ القصص : 8 ] وكقوله :

لِدُوا للموتِ وابنُوا للخَراب *** . . . . . . . . . . . . . . . . . .

أي : لمَّا صار أمرُهم إلى ذلك عبَّر بهذه العبارة ، والعلة غير مرادة في هذه الأمثلة ، والمحققون يأبَوْن جَعْلَها للعاقبة والصيرورة ، ويُؤَوِّلون ما وَرَدَ من ذلك على المجاز . وجَوَّز أبو البقاء فيها الوجهين : أعني كونَها لامَ العاقبة أو العلة حقيقةً فإنه قال : " واللام لام العاقبة أي : إن أمرَهم يَصير إلى هذا " وقيل : إنه قصد بالتصريف أن يقولوا دَرَسَتْ عقوبةً لهم " يعني فهذه علة صريحة وقد أوضح بعضهم هذا فقال : " المعنى : يُصَرِّف هذه الدلائل حالاً بعد حال ليقولَ بعضُهم دارَسَتْ فيزدادوا كفراً ، وتنبيهٌ لبعضهم فيزدادوا إيماناً ، ونحو : { يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً }

[ البقرة : 2 ] . وأبو علي جعلها في بعض القراءات لام الصيرورة ، وفي بعضها لام العلة فقال : " واللام في ليقولوا في قراءة ابن عامر ومَنْ وافقه بمعنى : لئلا يقولوا أي : صُرِفَت الآيات وأُحْكِمَتْ لئلا يقولوا هذه أساطير الأولين قديمة قد بَلِيَتْ وتكرَّرَتْ على الأسماع ، واللام على سائر القراءات لام الصيرورة " . قلت : قراءة ابن عامر دَرَسَتْ بوزن أَكَلَتْ وسَرَقتْ فعلاً ماضياً مسنداً لضمير الآيات ، وسيأتي تحقيق القراءات في هذه الكلمة متواتِرها وشاذِّها . قال الشيخ " وما أجازه من إضمارِ " لا " بعد اللام المضمر بعدها " أَنْ " هو مذهب لبعض الكوفيين كما أضمروها بعد " أَنْ " المظهرة في { أَن تَضِلُّواْ } [ النساء : 176 ] ، ولا يجيز البصريون إضمار " لا " إلا في القسم على ما تبيَّن فيه " .

ثم هذه اللام لا بدَّ لها من مُتَعَلَّق ، فقدَّره الزمخشري وغيره متأخراً . قال الزمخشري : " وليقولوا جوابه محذوف تقديره : وليقولوا دَرَسَتْ نُصَرِّفها . فإن قلت : أيُّ فرق بين اللامين في لِيَقُولوا ولنبيِّنه ؟ قلت : الفرق بينهما أن الأولى مجاز والثانية حقيقة ، وذلك أن الآيات صُرِفَت للتبيين ، ولم تُصْرَفْ ليقولوا دارست ، ولكن لأنه لمَّا حصل هذا القولُ بتصريف الآيات كما حصل للتبيين شَبَّهَ به فَسِيْق مَساقَه ، وقيل : ليقولوا كما قيل لنبيِّه " . قلت : فقد نص هنا على أن لام " ليقولوا " علة مجازية .

وجَوَّز بعضهم أن تكون هذه اللام نسقاً على علةٍ محذوفة . قال ابن الأنباري : " دخلت الواو في " وليقولوا " عطفاً على مضمر ، التقدير : وكذلك نصرف الآيات لنُلْزِمَهم الحجةَ وليقولوا " . قلت : وعلى هذا فاللامُ متعلقةٌ بفعلِ التصريف من حيث المعنى ولذلك قَدَّره مَنْ قدَّره متأخراً ب " نُصَرِّف " . وقال الشيخ : " ولا يتعيَّن ما ذكره المُعْرِبون والمفسِّرون من أن اللامَ لامُ كي أو لامُ الصيرورة ، بل الظاهر أنها لام الأمر والفعل مجزوم بها ، ويؤيده قراءة مَنْ سكن اللام ، والمعنى عليه يتمكن ، كأنه قيل : وكذلك نُصَرِّف الآياتِ وليقولوا هم ما يقولون مِنْ كونها دَرَسْتَها وَتَعَلَّمتها أو دَرَسَت هي أي : بَلِيَتْ وقَدُمَتْ ، فإنه لا يُحْتَفَلُ بهم ولا يُلْتفت إلى قولهم ، وهو أمرٌ معناه الوعيدُ والتهديدُ وعدمُ الاكتراث بقولهم أي : نُصَرِّفها وليدَّعُوا فيها ما شاؤوا ، فإنه لا اكتراث بدعواهم " .

وفيه نظر من حيث إن المعنى على ما قاله الناس وفهموه ، وأيضاً فإنَّ بعده/ ولنبيِّنَه وهو نصٌّ في لام كي ، وأمَّا تسكين اللام في القراءة الشاذة فلا يدلُّ لاحتمال أن تكون لام كي سُكِّنت إجراءً للكلمة مُجْرى كَتِف وكَبِد . وقد ردَّ الشيخ على الزمخشري حيث قال : " وليقولوا جوابه محذوف " فقال : " وتسميتُه ما يتعلَّق به قوله " وليقولوا " جواباً اصطلاحٌ غريب ، لا يقال في " جئتَ " من قولك " جئت لتقوم " إنه جواب " . قلت : هذه العبارة قد تكررت للزمخشري وسيأتي ذلك في قوله { وَلِتَصْغَى }

[ الأنعام : 113 ] أيضاً . وقال الشيخ هناك : " وهذا اصطلاحٌ غريب " ، والذي يظهر أنه إنما يُسَمِّي هذا النحوَ جواباً لأنه يقع جواباً لسائل . تقول : أين الذي يتعلَّق به هذا الجارُّ ؟ فيُجاب به ، فسُمِّي جواباً بهذا الاعتبار ، وأضيف إلى الجارِّ في قوله " وليقولوا " جوابه ، لأن الإِضافة [ تقع ] بأدنى ملابسة وإلا فكلامُ إمامٍ يتكرَّر لا يُحمل على فساد .

وأمَّا القراءات التي في " دَرَسَتْ " فثلاث في المتواتر : فقرأ ابن عامر " دَرَسَتْ " بزنة ضَرَبَتْ ، وابن كثير وأبو عمرو " دارَسْتَ " بزنة قابلْتَ أنت ، والباقون " درسْتَ " بزنة ضربْت أنت . فأمَّا قراءة ابن عامر فمعناها بَلِيَتْ وقَدُمَتْ وتكرَّرَتْ على الأسماع يُشيرون إلى أنها من أحاديث الأولين كما قالوا أساطير الأولين .

وأمَّا قراءة ابن كثير أبي عمرو فمعناها دارسْتَ يا محمدُ غيرَك من أهل الأخبار الماضية والقرون الخالية حتى حفظتها فقلتَها ، كما حَكى عنهم فقال : { إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ } [ النحل : 103 ] وفي التفسير : أنهم كانوا يقولون : هو يدارس سَلْمَان وعَدَّاساً . وأمَّا قراءة الباقين فمعناها حَفِظْتَ وأَتْقَنْتَ بالدرس أخبارَ الأولين كما حكى عنهم

{ وَقَالُواْ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً }

[ الفرقان : 5 ] أي تكرَّر عليها بالدَّرْس ليحفظها . وقرئ هذا الحرف في الشاذ عشر قراءاتٍ أُخَرَ فاجتمع فيه ثلاثَ عشرةَ قراءة : فقرأ ابن عباس بخلاف عنه وزيد بن علي والحسن البصري وقتادة " دُرِسَتْ " فعلاً ماضياً مبنياً للمفعول مسنداً لضمير الآيات ، وفَسَّرها ابن جني والزمخشري بمعنيين ، في أحدهما إشكال . قال أبو الفتح : " يُحتمل أن يراد عَفَتْ أو بَلِيَتْ " . وقال أبو القاسم : " بمعنى قُرِئت أو عُفِيَتْ " . قال الشيخ : " أما معنى قُرِئَتْ وبَلِيَتْ فظاهرٌ ؛ لأن دَرَسَ بمعنى كرَّر القراءة متعدٍّ ، وأمَّا " دَرَس " بمعنى بَلِي وانمحى فلا أحفظه متعدياً ولا وَجَدْنا فيمن وَقَفْنا على شعره من العرب إلا لازماً " . قلت : لا يحتاج هذا إلى استقراء فإن معناه [ لا ] يحتمل أن يكون متعدِّياً إذ حَدَثُه لا يتعدَّى فاعلُه فهو كقام وقعد ، فكما أنَّا لا نحتاج في معرفة قصور قام وقعد إلى استقراء بل نَعْرِفُه بالمعنى فكذا هذا .

وقرئ " دَرَّسْتَ " فعلاً ماضياً مشدداً مبنياً للفاعل المخاطب ، فيحتمل أن يكون للتكثير أي : دَرَّسْتَ الكتب الكثيرة كذبَّحْتُ الغنم وقَطَّعْتُ الأثواب ، وأن تكون للتعدية ، والمفعولان محذوفان أي : دَرَّسْتَ غيرَك الكتب وليس بظاهر ، إذ التفسير على خلافه . وقُرِئ دُرِّسْتَ كالذي قبله إلا أنه مبني للمفعول أي : دَرَّسك غيرُك الكتبَ ، فالتضعيف للتعدية لا غير . وقرئ " دُوْرِسْتَ " مسنداً لتاء المخاطب مِنْ دارَسَ كقاتل ، إلا أنه بني للمفعول فقلبت ألفه الزائدة واواً ، والمعنى : دارَسَكَ غيرك .

وقرئ " دارسَتْ " بتاء ساكنة للتأنيث لحقت آخر الفعل ، وفي فاعله احتمالان ، أحدهما : أنه ضمير الجماعة أُضْمِرَتْ وإن لم يَجْرِ لها ذِكْرٌ لدلالة السياق عليها أي : دارستك الجماعة ، يُشيرون لأبي فكيهة وسلمان ، وقد تقدم ذلك في قراءة ابن كثير وأبي عمرو ، والثاني : ضمير الإِناث على سبيل المبالغة أي : إن الآيات نفسها دارَسَتْكَ وإن كان المراد أهلها .

وقرئ " دَرُسَتْ " بفتح الدال وضم الراء مسنداً إلى ضمير الآيات وهو مبالغة في دَرَسَتْ بمعنى بَلِيَتْ وقَدُمَتْ وانمحت أي اشتد دُروسُها وبِلاها . وقرأ أُبَيّ/ " دَرَسَ " وفاعله ضمير النبي صلى الله عليه وسلم أو ضمير الكتاب بمعنى قرأه النبي وتلاه وكُرِّرَ عليه ، أو بمعنى بلي الكتاب وامَّحى ، وهكذا في مصحف عبد الله درس .

وقرأ الحسن في رواية " دَرَسْنَ " فعلاً ماضياً مسنداً لنون الإِناث هي ضمير الآيات ، وكذا هي في بعض مصاحف ابن مسعود . وقرئ " دَرَّسْنَ " الذي قبله إلا أنه بالتشديد بمعنى اشتد دُروسها وبِلاها كما تقدَّم . وقرئ " دارسات " جمع دارسة بمعنى قديمات ، أو بمعنى ذات دُروس نحو : عيشة راضية ، وماء دافق ، وارتفاعُها على خبر ابتداء مضمر أي : هنَّ دارسات ، والجملة في محلّ نصب بالقول قبلها .

وقوله { وَلِنُبَيِّنَهُ } تقدَّم أن هذا عطفٌ على ما قبله فحكمه حكمه . وفي الضمير المنصوب أربعةُ احتمالات ، أحدها : أنه يعود على الآيات ، وجاز ذلك وإن كانت مؤنثة لأنها بمعنى القرآن . الثاني : أنه يعود على الكتاب لدلالة السياق عليه ، ويُقَوِّي هذا أنه فاعل لدَرَسَ في قراءةِ مَنْ قرأه كذلك . الثالث : أنه يعود على المصدر المفهوم مِنْ نُصَرِّف أي نبيِّن التصريف . الرابع : أن يعود على المصدر المفهوم من " لنبينه " أي : نبيِّن التبيين نحو : ضَرَبْتُه زيداً أي ضربت الضرب زيداً . و " لقوم " متعلق بالفعلِ قبلَه . و " يَعْلَمُون " في محل جر صفة للنكرة قبلها .