فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{وَكَذَٰلِكَ نُصَرِّفُ ٱلۡأٓيَٰتِ وَلِيَقُولُواْ دَرَسۡتَ وَلِنُبَيِّنَهُۥ لِقَوۡمٖ يَعۡلَمُونَ} (105)

{ وكذلك نصرف الآيات } أي مثل ذلك التصريف البديع نصرفها في الوعد والوعيد والوعظ والتنبيه ليعتبروا { وليقولوا درست } أي نصرف الآيات لتقوم الحجة وليقولوا درست أو ليقولوا درست صرفناها ، وعلى هذا تكون اللام للعاقبة أو للصيرورة ، والمعنى مثل ذلك التصريف نصرف الآيات وليقولوا درست فإنه لا احتفال بقولهم ولا اعتداد لهم ، فيكون معناه الوعيد والتهديد لهم وعدم الاكتراث بقولهم ، وقد أشار إلى مثل هذا الزجاج .

وقال النحاس : وفي المعنى قول آخر حسن وهو أن يكون معنى نصرف الآيات يأتي بها آية بعد آية ليقولوا درست علينا فيذكرون الأول بالآخر ، فهذا حقيقة ، والذي قاله الزجاج مجاز ، والجمهور على كسر اللام وهي لام كي ، وجوز أبو البقاء فيها الوجهين .

وفي درست قراآت دارست كفاعلت ودرست كفرحت ودرست كضربت ، فعلى الأولى المعنى دارست أهل الكتاب ودارسوك أي ذاكرتهم وذاكروك ، ويدل على هذا ما وقع في الكتاب العزيز من إخبار الله عنهم بقوله : { وأعانه عليه قوم آخرون } أي أعان اليهود النبي صلى الله عليه وسلم على القرآن ومثله قولهم [ أساطير الأولين اكتتبها فهي تملي عليه بكرة وأصيلا ] ، وقولهم [ إنما يعلمه بشر ] .

والمعنى على الثانية قدمت هذه الآيات وعفت وانقطعت وهو كقولهم أساطير الأولين ، وعلى الثالثة مثل المعنى على الأول قال الأخفش : هي بمعنى دارست إلا أنه أبلغ ، وقرأ المبرد : وليقولوا بإسكان اللام فيكون بمعنى التهديد أي وليقولوا ما شاءوا فإن الحق بين .

وهذا اللفظ أصله يدرس دراسة فهو من الدرس وهو القراءة وقيل من درسته أي ذللته بكثرة القراءة ، وأصله درس الطعام أي داسه والدياس الدرس بلغه أهل الشام ، وقيل أصله من درست الثوب أدرسه أي أخلقته ودرست المرأة درسا أي حاضت ، ويقال : إن فرج المرأة يكنى أبا دراس وهو من الحيض ، والدرس أيضا الطريق الخفي ، وحكى الأصمعي بعير لم يدرس أي لم يركب .

وقرأ جمع من الصحابة درس أي محمد الآيات وقرئ درست أي الآيات على البناء للمفعول ودارست أي اليهود محمدا ، قال ابن عباس : درست قرأت وتعلمت ودارست خاصمت جادلت تلوت .

{ ولنبينه } اللام فيه لام كي أي نصرف الآيات لكي نبينه ، والضمير راجع إلى الآيات لأنها في معنى القرآن أو إلى القرآن وإن لم يجر له ذكر لأنه معلوم من السياق أو إلى التبيين المدلول عليه بالفعل { لقوم يعلمون } الحق من الباطل ، قال ابن عباس : يريد أولياءه الذين هداهم إلى سبيل الرشاد وقيل المعنى نصرف الآيات ليسعد بها قوم ويشقى بها آخرون ، فمن أعرض عنها وقال للنبي صلى الله عليه وسلم درست فهو شقي ، ومن تبين له الحق وفهم معناها وعمل بها فهو سعيد ، وفي هذا دليل قاطع على أن الله جعل تصريف الآيات سببا لضلالة قوم وشقائهم وسعادة قوم وهدايتهم .