( إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا . إنا نخاف من ربنا يوما عبوسا قمطريرا ) . .
فهي الرحمة الفائضة من القلوب الرقيقة الرفيقة ، تتجه إلى الله تطلب رضاه . ولا تبتغي بها جزاء من الخلق ولا شكرا ، ولا تقصد بها استعلاء على المحتاجين ولا خيلاء . كما تتقي بها يوما عبوسا شديد العبوس ، تتوقعه وتخشاه ، وتتقيه بهذا الوقاء . وقد دلهم رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] عليه وهو يقول : " اتق النار ولو بشق تمرة " . .
وقد كان إطعام الطعام هكذا مباشرة هو وسيلة التعبير عن هذه العاطفة النبيلة الكريمة ، ووسيلة الإشباع لحاجات المحاويج . ولكن صور الإحسان ووسائله قد تتغير بحسب البيئات والظروف ، فلا تظل في هذه الصورة البدائية المباشرة . إلا أن الذي يجب الاحتفاظ به هو حساسية القلوب ، وحيوية العاطفة ، والرغبة في الخير ابتغاء وجه الله ، والتجرد عن البواعث الأرضية من جزاء أو شكر أو نفع من منافع الحياة !
ولقد تنظم الضرائب ، وتفرض التكاليف ، وتخصص للضمان الاجتماعي ، ولإسعاف المحاويج ، ولكن هذا إنما يفي بشطر واحد من مزايا الاتجاه الإسلامي الذي ترمز إليه تلك الآيات ، والذي توخاه بفريضة الزكاة . . هذا الشطر هو كفاية حاجة المحتاجين . . هذا شطر . . والشطر الآخر هو تهذيب أرواح الباذلين ، ورفعها إلى ذلك المستوى الكريم . وهو شطر لا يجوز إغفاله ولا التهوين من شأنه فضلا على أن تنقلب المعايير فيوصم ويقبح ويشوه ، ويقال : إنه إذلال للآخذين وإفساد للواهبين .
إن الإسلام عقيدة قلوب ، ومنهج تربية لهذه القلوب . والعاطفة الكريمة تهذب صاحبها وتنفع من يوجهها إليه من إخوانه . فتفي بشطري التربية التي يقصد إليها هذا الدين .
{ إنا نخاف من ربنا . . . } أي القائلين : إنا نخاف من ربنا عذاب يوم شديد الهول ، عظيم الأمر ، تعبس فيه الوجوه وتكلح ؛ من شدة مكارهه وطول بلائه [ آية 22 المدثر ص 481 ] . ووصف اليوم بالعبوس – وهو وصفه لأهله – مجاز في الإسناد ؛ من باب : نهاره صائم . { قمطريرا } شديدا كريها . يقال : اقمطرّ يومنا ، اشتد . ويوم مقمطر وقمطرير : إذا كان شديدا غليظا . أو شديدا في العبوس ، يقبض ما بين العينين لشدته .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{إنا نخاف من ربنا يوما عبوسا} يعني يوم الشدة. قال الفراء، وأبو عبيدة: هو المنتهى في الشدة.
{قمطريرا} يعنى إذا عرق الجبين فسال العرق بين عينيه من شدة الهول، فذلك قوله: {قمطريرا}.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره مخبرا عن هؤلاء القوم الذين وصف صفتهم أنهم يقولون لمن أطعموه من أهل الفاقة والحاجة: ما نطعمكم طعاما نطلب منكم عوضا على إطعامناكم جزاء ولا شكورا، ولكنا نطعمكم رجاء منا أن يؤمننا ربنا من عقوبته في يوم شديد هوله، عظيم أمره، تعبِس فيه الوجوه من شدّة مكارهه، ويطول بلاء أهله، ويشتدّ. والقمطرير: هو الشديد، يقال: هو يوم قمطرير، وذلك أشدّ الأيام وأطوله في البلاء والشدّة، فقال بعضهم: هو أن يعبِس أحدهم، فيقبض بين عينيه حتى يسيل من بين عينيه مثل القطران. يوم يقبّض فيه الرجل ما بين عينيه ووجهه. يُقْبّض الوجه بالبسور.
وقال آخرون: العبوس: الضيق، والقمطرير: الطويل.
وقال آخر: العَبوس: الشرّ، والقَمْطَرير: الشديد.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
[{يوما عبوسا قمطريرا}]؛ فمنهم من جعل هذا نعتا لذلك اليوم، فيكون معناه: أن هذا اليوم، وهو يوم القيامة من بين سائر الأيام، كالإنسان العبوس من بين غيره. ومنهم من صرفه إلى الخلائق، فيكون معنى قوله تعالى: {يوما عبوسا قمطريرا} أي يوما تعبس فيه وجوه الخلائق، لا أن يكون اليوم نفسه عبوسا.
{إنا نخاف من ربنا} يحتمل وجهين:
(أحدهما): أن إحساننا إليكم للخوف من شدة ذلك اليوم لا لإرادة مكافأتكم.
(والثاني): أنا لا نريد منكم المكافأة لخوف عقاب الله على طلب المكافأة بالصدقة. فإن قيل: إنه تعالى حكى عنهم الإيفاء بالنذر وعلل ذلك بخوف القيامة فقط، ولما حكى عنهم الإطعام علل ذلك بأمرين بطلب رضاء الله وبالخوف عن القيامة فما السبب فيه؟
قلنا: الإيفاء بالنذر دخل في حقيقة طلب رضاء الله تعالى، وذلك لأن النذر هو الذي أوجبه الإنسان على نفسه لأجل الله فلما كان كذلك لا جرم ضم إليه خوف القيامة فقط، أما الإطعام، فإنه لا يدخل في حقيقة طلب رضا الله، فلا جرم ضم إليه طلب رضا الله وطلب الحذر من خوف القيامة.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا. إنا نخاف من ربنا يوما عبوسا قمطريرا).. فهي الرحمة الفائضة من القلوب الرقيقة الرفيقة، تتجه إلى الله تطلب رضاه. ولا تبتغي بها جزاء من الخلق ولا شكرا، ولا تقصد بها استعلاء على المحتاجين ولا خيلاء. كما تتقي بها يوما عبوسا شديد العبوس، تتوقعه وتخشاه، وتتقيه بهذا الوقاء. وقد دلهم رسول الله [صلى الله عليه وسلم] عليه وهو يقول: "اتق النار ولو بشق تمرة".. وقد كان إطعام الطعام هكذا مباشرة هو وسيلة التعبير عن هذه العاطفة النبيلة الكريمة، ووسيلة الإشباع لحاجات المحاويج. ولكن صور الإحسان ووسائله قد تتغير بحسب البيئات والظروف، فلا تظل في هذه الصورة البدائية المباشرة. إلا أن الذي يجب الاحتفاظ به هو حساسية القلوب، وحيوية العاطفة، والرغبة في الخير ابتغاء وجه الله، والتجرد عن البواعث الأرضية من جزاء أو شكر أو نفع من منافع الحياة! ولقد تنظم الضرائب، وتفرض التكاليف، وتخصص للضمان الاجتماعي، ولإسعاف المحاويج، ولكن هذا إنما يفي بشطر واحد من مزايا الاتجاه الإسلامي الذي ترمز إليه تلك الآيات، والذي توخاه بفريضة الزكاة.. هذا الشطر هو كفاية حاجة المحتاجين.. هذا شطر.. والشطر الآخر هو تهذيب أرواح الباذلين، ورفعها إلى ذلك المستوى الكريم. وهو شطر لا يجوز إغفاله ولا التهوين من شأنه فضلا على أن تنقلب المعايير فيوصم ويقبح ويشوه، ويقال: إنه إذلال للآخذين وإفساد للواهبين. إن الإسلام عقيدة قلوب، ومنهج تربية لهذه القلوب. والعاطفة الكريمة تهذب صاحبها وتنفع من يوجهها إليه من إخوانه. فتفي بشطري التربية التي يقصد إليها هذا الدين. ومن ثم كان ذلك التصوير الكريم لذلك الشعور الكريم.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
وجملة {إنا نخاف من ربنا} إلى آخرها واقعة موقع التعليل لمضمون جملة {لا نريد منكم جزاء ولا شكوراً}. والمعنى: إنهم يقولون ذلك لهم تأنيساً لهم ودفعاً لانكسار النفس الحاصل عند الإِطعام، أي ما نطعمكم إلاّ استجابة لما أمر الله، فالمطعم لهم هو الله. فالقول قول باللسان، وهم ما يقولونه إلاّ وهو مضمر في نفوسهم.
ولما كانت الأنفس مجبولة على حب الجزاء والثناء ، فكان لا يكاد يصدق أحد أن أحداً{[70617]} يفعل ما لا يقصد{[70618]} به شيئاً من ذلك ، {[70619]}وكان{[70620]} الله سبحانه وتعالى قد منَّ علينا بأن جعل العبادة لأجل خوفه ورجائه لا يقدح{[70621]} في الإخلاص{[70622]} ، عللوا قولهم هذا على وجه التأكيد بقولهم : { إنا نخاف } ولما كان الخوف من المحسن بالنظر إلى إحسانه موجباً للخوف منه بالنظر إلى عزه وجبروته وسلطانه من باب الأولى قالوا : { من ربنا } أي الخالق لنا المحسن إلينا-{[70623]} { يوماً } أي أهوال يوم هو -{[70624]} في غاية العظمة ، وبينوا عظمته بقولهم : { عبوساً } أي ضيقاً - قاله ابن عباس رضي الله عنهما{[70625]} ، نسبوا العبوس إليه لأنه في شدته كالأسد الغضوب ، فهو موجب لعبوس الوجوه فيه أو هو-{[70626]} لعبوسة أهله ك " ليله قائم ونهاره صائم وعيشة راضية " { قمطريراً * } أي طويلاً - قاله ابن عباس{[70627]} رضي الله عنهما ، أو شديد {[70628]}العبوس مجتمع{[70629]} الشر كالذي يجمع ما-{[70630]} بين عينيه - مأخوذ من القطر لأن يومه يكون عابساً ، وزيد فيه الميم وبولغ فيه بالصيغة ، وهو يوم القيامة ، يقال : اقمطر اليوم فهو مقمطر - إذا كان صعباً شديداً .
قوله : { إنا نخاف من ربنا يوما عبوسا قمطريرا } وصف اليوم بالعبوس على سبيل المجاز . والمراد صفة أهله من الأشقياء . ففي هذا اليوم العصيب تعبس الوجوه من شدة الأهوال والكروب . قال ابن عباس : يعبس الكافر يومئذ حتى يسيل منه عرق كالقطران . والقمطرير ، معناه الطويل . وقيل : الشديد . أو كلا الوصفين يتصف به يوم القيامة . فهو يوم بالغ الطول ، عظيم الشدة .