{ زرتم المقابر } : مِتُّم ودخلتم القبور لوقتٍ محدَّد كأنه زيارة .
حتى نَسِيتم أنكم ستموتون وتُدفَنون في القبور ، وغفلتُم عن أنكم إنما تمكثون فيها وقتاً محدَّداً ، ثم تُخْرَجون منها يومَ القيامة إلى الحسابِ والجزاء .
ولذلك جاء التعبيرُ بقوله { حتى زُرْتُمُ المقابر } يعني أن دُخولكم في القبرِ أشبهُ ما يكونُ بالزِيارة ، ثم منه تُخْرَجون .
ويفهم كثيرٌ من الناس من قوله { حتى زُرْتُمُ المقابر } أنه حضٌّ على زيارة القبور ، وليس هذا هو المقصود .
وفي صحيح مسلم : قرأ النبي صلى الله عليه وسلم : ألهاكُم التكاثُر ، ثم قال : " يقولُ ابنُ آدم : مالي ومالُك . يا ابنَ آدم ، ليس لك من مالِكَ إلا ما أكلتَ فأفنيت ، أو لبستَ فأبْلَيتَ ، أو تصدَّقتَ فأمضيت ، وما سوى ذلك فذاهبٌ وتاركُه للناس " .
فاستمرت غفلتكم ولهوتكم [ وتشاغلكم ] { حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ } فانكشف لكم حينئذ الغطاء ، ولكن بعد ما تعذر عليكم استئنافه .
ودل قوله : { حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ } أن البرزخ دار مقصود منها النفوذ إلى الدار الباقية{[1474]} ، أن الله سماهم زائرين ، ولم يسمهم مقيمين .
{ حتى زرتم المقابر } حتى متم ودفنتم في المقابر . قال قتادة : نزلت في اليهود ، قالوا : نحن أكثر من بني فلان ، وبنو فلان أكثر من بني فلان ، شغلهم ذلك حتى ماتوا ضلالاً . وقال مقاتل والكلبي : نزلت في حيين من قريش ، بني عبد مناف بن قصي ، وبني سهم بن عمرو ، كان بينهم تفاخر ، فتعادوا السادة والأشراف أيهم أكثر عدداً ؟ فقال بنو عبد مناف : نحن أكثر سيداً ، وأعز عزيزاً ، وأعظم نفراً ، وأكثر عدداً ، وقال بنو سهم مثل ذلك ، فكثرهم بنو عبد مناف ، ثم قالوا : نعد موتانا ، حتى زاروا القبور فعدوهم ، فقالوا : هذا قبر فلان ، وهذا قبر فلان ، فكثرهم بنو سهم بثلاثة أبيات ؛ لأنهم كانوا في الجاهلية أكثر عدداً ، فأنزل الله هذه الآية .
أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي ، أنبأنا أبو بكر أحمد بن الحسين الحيري ، أنبأنا حاجب بن أحمد الطوسي ، حدثنا عبد الرحيم بن منيب ، حدثنا النضر بن شميل ، عن قتادة عن مطرف بن عبد الله بن الشخير ، عن أبيه قال : " انتهيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ هذه الآية : { ألهاكم التكاثر } ، قال : يقول ابن آدم : مالي مالي ، وهل لك من مالك ، إلا ما أكلت فأفنيت ، أو لبست فأبليت ، أو تصدقت فأمضيت " .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنبأنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا الحميد ، حدثنا سفيان ، حدثنا عبد الله بن أبي بكر بن عمرو بن حزم أنه سمع أنس بن مالك يقول : " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يتبع الميت ثلاثة ، فيرجع اثنان ويبقى معه واحد : يتبعه أهله وماله وعمله ، فيرجع أهله وماله ، ويبقى عمله " .
الثانية- قوله تعالى : { حتى زرتم المقابر } أي حتى أتاكم الموت ، فصرتم في المقابر زوارا ، ترجعون منها كرجوع الزائر إلى منزله من جنة أو نار . يقال لمن مات : قد زار قبره . وقيل : أي ألهاكم التكاثر حتى عددتم الأموات ، على ما تقدم . وقيل : هذا وعيد . أي أشغلتم بمفاخرة الدنيا ، حتى تزوروا القبور ، فتروا ما ينزل بكم من عذاب الله عز وجل .
الثالثة- " المقابر " جمع مقبرة ومقبرة ( بفتح الباء وضمها ) . والقبور : جمع القبر ، قال :
أرى أهل القصور إذا أُمِيتُوا *** بَنَوْا فوقَ المقابِرِ بالصُّخُورِ
أبوا إلا مباهاةً وفخرا *** على الفقراءِ حتى في القبورِ
وقد جاء في الشعر ( المَقْبَر ) قال :
لكل أناس مَقبَر بفِنائهم *** فهم ينقُصُونَ والقبورُ تَزِيدُ{[16333]}
وهو المقبَري والمقبُري{[16334]} لأبي سعيد المقبري ، وكان يسكن المقابر . وقبرت الميت أقبره وأقبره قبرا ، أي دفنته . وأقبرته أي أمرت بأن يقبر . وقد مضى في سورة " عبس " القول فيه{[16335]} . والحمد لله .
الرابعة- لم يأت في التنزيل ذكر المقابر إلا في هذه السورة . وزيارتها من أعظم الدواء للقلب القاسي ؛ لأنها تذكر الموت والآخرة . وذلك يحمل على قصر الأمل ، والزهد في الدنيا ، وترك الرغبة فيها . قال النبي صلى الله عليه وسلم : " كنت نهيتكم عن زيارة القبور ، فزوروا القبور ، فإنها تزهد في الدنيا ، وتذكر الآخرة " ، رواه ابن مسعود ، أخرجه ابن ماجه . وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة : " فإنها تذكر الموت " . وفي الترمذي عن بريدة : " فإنها تذكر الآخرة " . قال : هذا حديث حسن صحيح ، وفيه عن أبي هريرة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم " لعن زوارات القبور " . قال : وفي الباب عن ابن عباس وحسان بن ثابت . قال أبو عيسى : وهذا حديث حسن صحيح . وقد رأى بعض أهل العلم أن هذا كان قبل أن يرخص النبي صلى الله عليه وسلم في زيارة القبور ، فلما رخص دخل في رخصته الرجال والنساء . وقال بعضهم : إنما كره زيارة القبور للنساء لقلة صبرهن ، وكثرة جزعهن .
قلت : زيارة القبور للرجال متفق عليه عند العلماء ، مختلف فيه للنساء . أما الشواب فحرام عليهن الخروج ، وأما القواعد فمباح لهن ذلك . وجائز لجميعهن ، ذلك إذا انفردن بالخروج عن الرجال ، ولا يختلف في هذا إن شاء الله . وعلى هذا المعنى يكون قوله : " زوروا القبور " عاما . وأما موضع أو وقت يخشى فيه الفتنة من اجتماع الرجال والنساء ، فلا يحل ولا يجوز . فبينا الرجل يخرج ليعتبر ، فيقع بصره على امرأة فيفتتن ، وبالعكس فيرجع كل واحد من الرجال والنساء مأزورا غير مأجور . والله أعلم .
الخامسة- قال العلماء : ينبغي لمن أراد علاج قلبه وانقياده بسلاسل القهر إلى طاعة ربه ، أن يكثر من ذكر هاذم{[16336]} اللذات ، ومفرق الجماعات ، وموتم البنين والبنات ، ويواظب على مشاهدة المحتضرين ، وزيارة قبور أموات المسلمين . فهذه ثلاثة أمور ، ينبغي لمن قسا قلبه ، ولزمه ذنبه ، أن يستعين بها على دواء دائه ، ويستصرخ بها على فتن الشيطان وأعوانه ، فإن انتفع بالإكثار من ذكر الموت ، وانجلت به قساوة قلبه فذاك ، وإن عظم عليه ران قلبه ، واستحكمت فيه دواعي الذنب ، فإن مشاهدة المحتضرين ، وزيارة قبور أموات المسلمين ، تبلغ في دفع ذلك ما لا يبلغه الأول ؛ لأن ذكر الموت إخبار للقلب بما إليه المصير ، وقائم له مقام التخويف والتحذير ، وفي مشاهدة من احتضر ، وزيارة قبر من مات من المسلمين معاينة ومشاهدة ؛ فلذلك كان أبلغ من الأول . قال صلى الله عليه وسلم : " ليس الخبر كالمعاينة " رواه ابن عباس . فأما الاعتبار بحال المحتضرين ، فغير ممكن في كل الأوقات ، وقد لا يتفق لمن أراد علاج قلبه في ساعة من الساعات . وأما زيارة القبور فوجودها أسرع ، والانتفاع بها أليق وأجدر . فينبغي لمن عزم على الزيارة ، أن يتأدب بآدابها ، ويحضر قلبه في إتيانها ، ولا يكون حظه منها التطواف على الأحداث فقط ، فإن هذه حاله تشاركه فيها بهيمة ، ونعوذ بالله من ذلك . بل يقصد بزيارته وجه الله تعالى ، وإصلاح فساد قلبه ، أو نفع الميت بما يتلو عنده من القرآن والدعاء ، ويتجنب المشي على المقابر ، والجلوس عليها ، ويسلم إذا دخل المقابر ، وإذا وصل إلى قبر ميته الذي يعرفه سلم عليه أيضا ، وأتاه من تلقاء وجهه ، لأنه في زيارته كمخاطبته حيا ، ولو خاطبه حيا لكان الأدب استقباله بوجهه ، فكذلك ها هنا . ثم يعتبر بمن صار تحت التراب ، وانقطع عن الأهل والأحباب ، بعد أن قاد الجيوش والعساكر ، ونافس الأصحاب والعشائر ، وجمع الأموال والذخائر ، فجاءه الموت في وقت لم يحتسبه ، وهول لم يرتقبه . فليتأمل الزائر حال من مضى من إخوانه ، ودرج من أقرانه الذين بلغوا المال ، وجمعوا الأموال ، كيف انقطعت آمالهم ، ولم تغن عنهم أموالهم ، ومحا التراب محاسن وجوههم ، وافترقت في القبور أجزاؤهم ، وترمل من بعدهم نساؤهم ، وشمل ذل اليتم أولادهم ، واقتسم غيرهم طريفهم وتلادهم . وليتذكر ترددهم{[16337]} في المآرب ، وحرصهم على نيل المطالب ، وانخداعهم لمواتاة الأسباب ، وركونهم إلى الصحة والشباب . وليعلم أن ميله إلى اللهو واللعب كميلهم ، وغفلته عما بين يديه من الموت الفظيع ، والهلاك السريع ، كغفلتهم ، وأنه لا بد صائر إلى مصيرهم ، وليحضر بقلبه ذكر من كان مترددا في أغراضه ، وكيف تهدمت رجلاه . وكان يتلذذ بالنظر إلى ما خوله وقد سالت عيناه ، ويصول ببلاغة نطقه وقد أكل الدود لسانه ، ويضحك لمواتاة دهره وقد أبلى التراب أسنانه ، وليتحقق أن حاله كحاله ، ومآل كمآله ، وعند هذا التذكر والاعتبار تزول عنه جميع الأغيار الدنيوية ، ويقبل على الأعمال الأخروية ، فيزهد في دنياه ، ويقبل على طاعة مولاه ، ويلين قلبه ، وتخشع جوارحه .
ولما كانوا ينكرون البعث ، ويعتقدون دوام الإقامة في القبور ، عبر بالزيارة إشارة إلى أن البعث لا بد منه ، ولا مرية فيه ، وأن اللبث في البرزخ وإن طال فإنما هو كلبث الزائر عند مزوره في جنب الإقامة بعد البعث في دار النعيم أو غار الجحيم ، وأن الإقامة فيه محبوبة للعلم بما بعده من الأهوال والشدائد والأوجال ، فقال : { حتى } أي استمرت مباهاتكم ومفاخرتكم إلى أن { زرتم المقابر * } أي بالموت والدفن ، فكنتم فيها عرضة للبعث ، لا تتمكنون من عمل ما ينجيكم ؛ لأن دار العمل فاتت ، كما أن الزائر ليس بصدد العلم عند المزور ، لا يمكثون بها إلا ريثما يتكمل المجموعون بالموت ، كما أن الزائر معرض للرجوع إلى داره ومحل قراره ، فلو لم يكن لكم وازع عن الإقبال على الدنيا إلا الموت لكان كافياً ، فكيف والأمر أعظم من ذلك ؟ فإن الموت مقدمة من مقدمات العرض . قال أبو حيان : سمع بعض الأعراب الآية فقال : بعث القوم للقيامة ورب الكعبة ، فإن الزائر منصرف لا مقيم . وروى ابن أبي الدنيا عن عمر بن عبد العزيز أنه قرأها ثم قال : ما أرى المقابر إلا زيارة ، ولا بد لمن زار أن يرجع إلى بيته ، إما إلى الجنة أو إلى النار .
وقال الإمام أبو جعفر ابن الزبير : لما تقدم ذكر القارعة وعظيم أهوالها ، أعقب بذكر ما شغل وصد عن الاستعداد لها ، وألهى عن ذكرها ، وهو التكاثر بالعدد والقرابات والأهلين فقال : { ألهاكم التكاثر } ، وهو في معرض التهديد والتقريع ، وقد أعقب بما يعضد ذلك ، وهو قوله { كلا سوف تعلمون ثم كلا سوف تعلمون } ثم قال : { كلا لو تعلمون علم اليقين } ، وحذف جواب " لو " ، والتقدير : لو تعلمون علم اليقين لما شغلكم التكاثر ، قال صلى الله عليه وسلم : " لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً " الحديث ، وقوله تعالى " لترون الجحيم " ، جواب لقسم مقدر ، أي والله لترون الجحيم ، وتأكد بها التهديد ، وكذا ما بعد إلى آخر السورة - انتهى .