{ حتى زرتم المقابر } أي : ألهاكم التكاثر بالأموال والأولاد إلى أن متم وقبرتم ، منفقين أعماركم في طلب الدنيا ، والاستباق إليها ، والتهالك عليها ، إلى أن أتاكم الموت ، لا همّ لكم غيرها عما هو أولى بكم من السعي لعاقبتكم ، والعمل لآخرتكم . وزيارة القبر عبارة عن الموت . قال الأخطل :
لن يخلص العام خليل عشراً *** ذاق الضماد أو يزور القبرا
تنبيه : حتى غاية ، لقوله تعالى : { ألهاكم } وهو عطف عليه ، والمعنى : حتى أتاكم الموت ، فصرتم في المقابر زواراً ، ترجعون منها كرجوع الزائر إلى منزله من جنة أو نار ، يقال لمن مات : قد زار قبره .
فإن قيل : شأن الزائر أن ينصرف قريباً ، والأموات ملازمون للقبور ، فكيف يقال : إنه زار القبر ؟ وأيضاً حتى زرتم إخبار عن الماضي ، فكيف يحمل على المستقبل ؟
أجيب عن الأول : بأن سكان القبور لا بد أن ينصرفوا عنها ، فإن كل آت قريب ، وعن الثاني : لتحققه عبر عنه بالماضي ، كقوله تعالى : { أتى أمر الله } [ النحل : 10 ] ، وقال أبو مسلم : إنّ الله تعالى يتكلم بهذه السورة يوم القيامة تعبيراً للكفار ، وهم في ذلك الوقت قد تقدّمت منهم زيارة القبور . وقال مقاتل والكلبي : نزلت في حيين من قريش : بني عبد مناف وبني سهم ، تفاخروا أيهم أكثر عدداً ، فكثرهم بنو عبد مناف ، وقالت بنو سهم : إنّ البغي أهلكنا في الجاهلية ، فعادّونا بالأحياء والأموات فكثرهم بنو سهم بثلاثة أبيات ؛ لأنهم كانوا في الجاهلية أكثر عدداً ، والمعنى : أنكم تكاثرتم بالأحياء حتى استوعبتم عددهم ، ثم صرتم إلى المقابر ، فتكاثرتم بالأموات ، عبر عن بلوغهم ذكر الموتى بزيارة القبور تهكماً بهم ، وإنما حذف الملهى عنه وهو ما يعنيهم من أمر الدين للتعظيم والمبالغة .
وقال قتادة : في اليهود ، قالوا : نحن أكثر من بني فلان ، وبنو فلان أكثر من بني فلان ، شغلهم ذلك حتى ماتوا ضلالاً ، أو أنهم كانوا يزورون المقابر فيقولون : هذا قبر فلان ، وهذا قبر فلان ، عند تفاخرهم . والمعنى : ألهاكم ذلك وهو مما لا يعينكم ، ولا يجدي عنكم في دنياكم وآخرتكم عما يعينكم من أمر الدين الذي هو أهمّ وأعنى من كل مهمّ من المقابر . والمقابر : جمع مقبرة ، بفتح الباء وضمها . ويسمى سعيد المقبري ؛ لأنه كان يسكن المقابر . قال القرطبي : لم يأت في التنزيل ذكر المقابر إلا في هذه السورة ، واعترضه ابن عادل بأنّ الله تعالى قال في سورة أخرى : { ثم أماته فأقبره } [ عبس : 21 ] ، وهذا ممنوع ، فإنه قال المقابر ، فلفظ هذه الآية غير لفظ تلك . وزيارة القبور من أعظم الأدوية للقلب القاسي ؛ لأنها تذكر الموت والآخرة ، وذلك يحمل على قصر الأمل ، والزهد في الدنيا ، وترك الرغبة فيها ، قال صلى الله عليه وسلم :«كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها ، فإنها تزهد في الدنيا وتذكر الآخرة » . وروى أبو هريرة أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم «لعن زوّارات القبور » . فتكره لهنّ لقلة صبرهنّ ، وكثرة جزعهنّ ، نعم زيارة النبيّ صلى الله عليه وسلم سنة لهنّ ، ويلحق به بقية الأنبياء والعلماء ، وينبغي لمن زار القبور أن يتأدّب بآدابها ، ويحضر قلبه في إتيانها ، ولا يكون حظه منها الطواف عليها فقط ، فإنّ هذه حالة يشاركه فيها البهائم ؛ بل يقصد بزيارته وجه الله تعالى ، وإصلاح فساد قلبه ، ونفع الميت بما يتلوه عنده من القرآن والدعاء ، ويتجنب الجلوس عليها ، ويسلم إذا دخل المقابر فيقول : «السلام عليكم دار قوم مؤمنين ، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون » . وإذا وصل على قبر ميته الذي يعرفه سلم عليه أيضاً ، وأتاه من قبل وجهه ؛ لأنه في زيارته كمخاطبه حياً ، ثم يعتبر بمن صار تحت التراب ، وانقطع عن الأهل والأحباب ، ويتأمّل حال من مضى من إخوانه كيف انقطعت آمالهم ، ولم تغن عنهم أموالهم ، ومجيء التراب على محاسنهم ووجوههم ، وافترقت في التراب أجزاؤهم ، وترمل من بعدهم نساؤهم ، وشمل ذل اليتم أولادهم ، وأنه لا بدّ صائر إلى مصيرهم ، وأنّ حاله كحالهم ، ومآله كمآلهم .
وعن مطرف بن عبد الله بن الشخير عن أبيه قال : «انتهيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ هذه الآية ، قال : " يقول ابن آدم : مالي مالي ، وهل لك من مالك إلا ما تصدّقت فأمضيت ، أو أكلت فأفنيت ، أو لبست فأبليت » . وعن مالك قال : «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يتبع الميت ثلاثة ، فيرجع اثنان ، ويبقى واحد : يتبعه أهله وماله وعمله ، فيرجع أهله وماله ، ويبقى عمله » . وقرأ ( ألهاكم ) حمزة والكسائي بالإمالة محضة ، وقرأ ورش بالفتح ، وبين اللفظين ، والباقون بالفتح .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.