السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{حَتَّىٰ زُرۡتُمُ ٱلۡمَقَابِرَ} (2)

{ حتى زرتم المقابر } أي : ألهاكم التكاثر بالأموال والأولاد إلى أن متم وقبرتم ، منفقين أعماركم في طلب الدنيا ، والاستباق إليها ، والتهالك عليها ، إلى أن أتاكم الموت ، لا همّ لكم غيرها عما هو أولى بكم من السعي لعاقبتكم ، والعمل لآخرتكم . وزيارة القبر عبارة عن الموت . قال الأخطل :

لن يخلص العام خليل عشراً *** ذاق الضماد أو يزور القبرا

تنبيه : حتى غاية ، لقوله تعالى : { ألهاكم } وهو عطف عليه ، والمعنى : حتى أتاكم الموت ، فصرتم في المقابر زواراً ، ترجعون منها كرجوع الزائر إلى منزله من جنة أو نار ، يقال لمن مات : قد زار قبره .

فإن قيل : شأن الزائر أن ينصرف قريباً ، والأموات ملازمون للقبور ، فكيف يقال : إنه زار القبر ؟ وأيضاً حتى زرتم إخبار عن الماضي ، فكيف يحمل على المستقبل ؟

أجيب عن الأول : بأن سكان القبور لا بد أن ينصرفوا عنها ، فإن كل آت قريب ، وعن الثاني : لتحققه عبر عنه بالماضي ، كقوله تعالى : { أتى أمر الله } [ النحل : 10 ] ، وقال أبو مسلم : إنّ الله تعالى يتكلم بهذه السورة يوم القيامة تعبيراً للكفار ، وهم في ذلك الوقت قد تقدّمت منهم زيارة القبور . وقال مقاتل والكلبي : نزلت في حيين من قريش : بني عبد مناف وبني سهم ، تفاخروا أيهم أكثر عدداً ، فكثرهم بنو عبد مناف ، وقالت بنو سهم : إنّ البغي أهلكنا في الجاهلية ، فعادّونا بالأحياء والأموات فكثرهم بنو سهم بثلاثة أبيات ؛ لأنهم كانوا في الجاهلية أكثر عدداً ، والمعنى : أنكم تكاثرتم بالأحياء حتى استوعبتم عددهم ، ثم صرتم إلى المقابر ، فتكاثرتم بالأموات ، عبر عن بلوغهم ذكر الموتى بزيارة القبور تهكماً بهم ، وإنما حذف الملهى عنه وهو ما يعنيهم من أمر الدين للتعظيم والمبالغة .

وقال قتادة : في اليهود ، قالوا : نحن أكثر من بني فلان ، وبنو فلان أكثر من بني فلان ، شغلهم ذلك حتى ماتوا ضلالاً ، أو أنهم كانوا يزورون المقابر فيقولون : هذا قبر فلان ، وهذا قبر فلان ، عند تفاخرهم . والمعنى : ألهاكم ذلك وهو مما لا يعينكم ، ولا يجدي عنكم في دنياكم وآخرتكم عما يعينكم من أمر الدين الذي هو أهمّ وأعنى من كل مهمّ من المقابر . والمقابر : جمع مقبرة ، بفتح الباء وضمها . ويسمى سعيد المقبري ؛ لأنه كان يسكن المقابر . قال القرطبي : لم يأت في التنزيل ذكر المقابر إلا في هذه السورة ، واعترضه ابن عادل بأنّ الله تعالى قال في سورة أخرى : { ثم أماته فأقبره } [ عبس : 21 ] ، وهذا ممنوع ، فإنه قال المقابر ، فلفظ هذه الآية غير لفظ تلك . وزيارة القبور من أعظم الأدوية للقلب القاسي ؛ لأنها تذكر الموت والآخرة ، وذلك يحمل على قصر الأمل ، والزهد في الدنيا ، وترك الرغبة فيها ، قال صلى الله عليه وسلم :«كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها ، فإنها تزهد في الدنيا وتذكر الآخرة » . وروى أبو هريرة أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم «لعن زوّارات القبور » . فتكره لهنّ لقلة صبرهنّ ، وكثرة جزعهنّ ، نعم زيارة النبيّ صلى الله عليه وسلم سنة لهنّ ، ويلحق به بقية الأنبياء والعلماء ، وينبغي لمن زار القبور أن يتأدّب بآدابها ، ويحضر قلبه في إتيانها ، ولا يكون حظه منها الطواف عليها فقط ، فإنّ هذه حالة يشاركه فيها البهائم ؛ بل يقصد بزيارته وجه الله تعالى ، وإصلاح فساد قلبه ، ونفع الميت بما يتلوه عنده من القرآن والدعاء ، ويتجنب الجلوس عليها ، ويسلم إذا دخل المقابر فيقول : «السلام عليكم دار قوم مؤمنين ، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون » . وإذا وصل على قبر ميته الذي يعرفه سلم عليه أيضاً ، وأتاه من قبل وجهه ؛ لأنه في زيارته كمخاطبه حياً ، ثم يعتبر بمن صار تحت التراب ، وانقطع عن الأهل والأحباب ، ويتأمّل حال من مضى من إخوانه كيف انقطعت آمالهم ، ولم تغن عنهم أموالهم ، ومجيء التراب على محاسنهم ووجوههم ، وافترقت في التراب أجزاؤهم ، وترمل من بعدهم نساؤهم ، وشمل ذل اليتم أولادهم ، وأنه لا بدّ صائر إلى مصيرهم ، وأنّ حاله كحالهم ، ومآله كمآلهم .

وعن مطرف بن عبد الله بن الشخير عن أبيه قال : «انتهيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ هذه الآية ، قال : " يقول ابن آدم : مالي مالي ، وهل لك من مالك إلا ما تصدّقت فأمضيت ، أو أكلت فأفنيت ، أو لبست فأبليت » . وعن مالك قال : «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يتبع الميت ثلاثة ، فيرجع اثنان ، ويبقى واحد : يتبعه أهله وماله وعمله ، فيرجع أهله وماله ، ويبقى عمله » . وقرأ ( ألهاكم ) حمزة والكسائي بالإمالة محضة ، وقرأ ورش بالفتح ، وبين اللفظين ، والباقون بالفتح .