الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي  
{حَتَّىٰ زُرۡتُمُ ٱلۡمَقَابِرَ} (2)

الثانية- قوله تعالى : { حتى زرتم المقابر } أي حتى أتاكم الموت ، فصرتم في المقابر زوارا ، ترجعون منها كرجوع الزائر إلى منزله من جنة أو نار . يقال لمن مات : قد زار قبره . وقيل : أي ألهاكم التكاثر حتى عددتم الأموات ، على ما تقدم . وقيل : هذا وعيد . أي أشغلتم بمفاخرة الدنيا ، حتى تزوروا القبور ، فتروا ما ينزل بكم من عذاب الله عز وجل .

الثالثة- " المقابر " جمع مقبرة ومقبرة ( بفتح الباء وضمها ) . والقبور : جمع القبر ، قال :

أرى أهل القصور إذا أُمِيتُوا *** بَنَوْا فوقَ المقابِرِ بالصُّخُورِ

أبوا إلا مباهاةً وفخرا *** على الفقراءِ حتى في القبورِ

وقد جاء في الشعر ( المَقْبَر ) قال :

لكل أناس مَقبَر بفِنائهم *** فهم ينقُصُونَ والقبورُ تَزِيدُ{[16333]}

وهو المقبَري والمقبُري{[16334]} لأبي سعيد المقبري ، وكان يسكن المقابر . وقبرت الميت أقبره وأقبره قبرا ، أي دفنته . وأقبرته أي أمرت بأن يقبر . وقد مضى في سورة " عبس " القول فيه{[16335]} . والحمد لله .

الرابعة- لم يأت في التنزيل ذكر المقابر إلا في هذه السورة . وزيارتها من أعظم الدواء للقلب القاسي ؛ لأنها تذكر الموت والآخرة . وذلك يحمل على قصر الأمل ، والزهد في الدنيا ، وترك الرغبة فيها . قال النبي صلى الله عليه وسلم : " كنت نهيتكم عن زيارة القبور ، فزوروا القبور ، فإنها تزهد في الدنيا ، وتذكر الآخرة " ، رواه ابن مسعود ، أخرجه ابن ماجه . وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة : " فإنها تذكر الموت " . وفي الترمذي عن بريدة : " فإنها تذكر الآخرة " . قال : هذا حديث حسن صحيح ، وفيه عن أبي هريرة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم " لعن زوارات القبور " . قال : وفي الباب عن ابن عباس وحسان بن ثابت . قال أبو عيسى : وهذا حديث حسن صحيح . وقد رأى بعض أهل العلم أن هذا كان قبل أن يرخص النبي صلى الله عليه وسلم في زيارة القبور ، فلما رخص دخل في رخصته الرجال والنساء . وقال بعضهم : إنما كره زيارة القبور للنساء لقلة صبرهن ، وكثرة جزعهن .

قلت : زيارة القبور للرجال متفق عليه عند العلماء ، مختلف فيه للنساء . أما الشواب فحرام عليهن الخروج ، وأما القواعد فمباح لهن ذلك . وجائز لجميعهن ، ذلك إذا انفردن بالخروج عن الرجال ، ولا يختلف في هذا إن شاء الله . وعلى هذا المعنى يكون قوله : " زوروا القبور " عاما . وأما موضع أو وقت يخشى فيه الفتنة من اجتماع الرجال والنساء ، فلا يحل ولا يجوز . فبينا الرجل يخرج ليعتبر ، فيقع بصره على امرأة فيفتتن ، وبالعكس فيرجع كل واحد من الرجال والنساء مأزورا غير مأجور . والله أعلم .

الخامسة- قال العلماء : ينبغي لمن أراد علاج قلبه وانقياده بسلاسل القهر إلى طاعة ربه ، أن يكثر من ذكر هاذم{[16336]} اللذات ، ومفرق الجماعات ، وموتم البنين والبنات ، ويواظب على مشاهدة المحتضرين ، وزيارة قبور أموات المسلمين . فهذه ثلاثة أمور ، ينبغي لمن قسا قلبه ، ولزمه ذنبه ، أن يستعين بها على دواء دائه ، ويستصرخ بها على فتن الشيطان وأعوانه ، فإن انتفع بالإكثار من ذكر الموت ، وانجلت به قساوة قلبه فذاك ، وإن عظم عليه ران قلبه ، واستحكمت فيه دواعي الذنب ، فإن مشاهدة المحتضرين ، وزيارة قبور أموات المسلمين ، تبلغ في دفع ذلك ما لا يبلغه الأول ؛ لأن ذكر الموت إخبار للقلب بما إليه المصير ، وقائم له مقام التخويف والتحذير ، وفي مشاهدة من احتضر ، وزيارة قبر من مات من المسلمين معاينة ومشاهدة ؛ فلذلك كان أبلغ من الأول . قال صلى الله عليه وسلم : " ليس الخبر كالمعاينة " رواه ابن عباس . فأما الاعتبار بحال المحتضرين ، فغير ممكن في كل الأوقات ، وقد لا يتفق لمن أراد علاج قلبه في ساعة من الساعات . وأما زيارة القبور فوجودها أسرع ، والانتفاع بها أليق وأجدر . فينبغي لمن عزم على الزيارة ، أن يتأدب بآدابها ، ويحضر قلبه في إتيانها ، ولا يكون حظه منها التطواف على الأحداث فقط ، فإن هذه حاله تشاركه فيها بهيمة ، ونعوذ بالله من ذلك . بل يقصد بزيارته وجه الله تعالى ، وإصلاح فساد قلبه ، أو نفع الميت بما يتلو عنده من القرآن والدعاء ، ويتجنب المشي على المقابر ، والجلوس عليها ، ويسلم إذا دخل المقابر ، وإذا وصل إلى قبر ميته الذي يعرفه سلم عليه أيضا ، وأتاه من تلقاء وجهه ، لأنه في زيارته كمخاطبته حيا ، ولو خاطبه حيا لكان الأدب استقباله بوجهه ، فكذلك ها هنا . ثم يعتبر بمن صار تحت التراب ، وانقطع عن الأهل والأحباب ، بعد أن قاد الجيوش والعساكر ، ونافس الأصحاب والعشائر ، وجمع الأموال والذخائر ، فجاءه الموت في وقت لم يحتسبه ، وهول لم يرتقبه . فليتأمل الزائر حال من مضى من إخوانه ، ودرج من أقرانه الذين بلغوا المال ، وجمعوا الأموال ، كيف انقطعت آمالهم ، ولم تغن عنهم أموالهم ، ومحا التراب محاسن وجوههم ، وافترقت في القبور أجزاؤهم ، وترمل من بعدهم نساؤهم ، وشمل ذل اليتم أولادهم ، واقتسم غيرهم طريفهم وتلادهم . وليتذكر ترددهم{[16337]} في المآرب ، وحرصهم على نيل المطالب ، وانخداعهم لمواتاة الأسباب ، وركونهم إلى الصحة والشباب . وليعلم أن ميله إلى اللهو واللعب كميلهم ، وغفلته عما بين يديه من الموت الفظيع ، والهلاك السريع ، كغفلتهم ، وأنه لا بد صائر إلى مصيرهم ، وليحضر بقلبه ذكر من كان مترددا في أغراضه ، وكيف تهدمت رجلاه . وكان يتلذذ بالنظر إلى ما خوله وقد سالت عيناه ، ويصول ببلاغة نطقه وقد أكل الدود لسانه ، ويضحك لمواتاة دهره وقد أبلى التراب أسنانه ، وليتحقق أن حاله كحاله ، ومآل كمآله ، وعند هذا التذكر والاعتبار تزول عنه جميع الأغيار الدنيوية ، ويقبل على الأعمال الأخروية ، فيزهد في دنياه ، ويقبل على طاعة مولاه ، ويلين قلبه ، وتخشع جوارحه .


[16333]:ذكر البيت صاحب تاج العروس مع بيت بعده، (قبر) ونسبهما إلى عبد الله بن ثعلبة الحنفي.
[16334]:قال ابن قتيبة في المعارف: أبو سعيد المقبري: اسمه كيسان روى عن عمر. وتوفي سنة مئة.
[16335]:راجع جـ 19 ص 217.
[16336]:هاذم (بالذال المعجمة) بمعنى قاطع؛ والمراد الموت ، إما لأن ذكره يزهد فيها، وإما لأنه إذا جاء لا يبقى من لذائذ الدنيا شيئا.
[16337]:في نسخة؛ "تزودهم المآب".