اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{حَتَّىٰ زُرۡتُمُ ٱلۡمَقَابِرَ} (2)

قوله تعالى : { حتى زُرْتُمُ المقابر } ، «حتَّى » غاية لقوله : «ألْهَاكُم » ، وهو عطف عليه ، والمعنى : أي أتاكم الموت ، فصرتم في المقابر زواراً ، ترجعون فيها كرجوع الزائر إلى منزلة من جنة أو نار .

وقيل : { أَلْهَاكُمُ التكاثر } حتى عددتم الأموات .

وقيل : هذا وعيد ، أي : اشتغلتم بمفاخرة الدنيا حتى تزوروا القبور ، فتروا ما ينزل بكم من عذاب الله - عزَّ وجلَّ - و «المَقابِر » جمع مَقْبَرة ، ومَقْبَرة بفتح الباء وضمها والقبور : جمع قبر ، وسمي سعيد المقبري ؛ لأنه كان يسكن المقابر ، وقبرت الميت أقبَره وأقبُره قبراً ؛ أي : دفنته ، وأقبرته ، أي : أمرت بأن يقبر .

فصل في معنى ألهاكم

قال المفسرون : معنى الآية : ألهاكم حرصكم على تكثير أموالكم عن طاعة ربكم حتى أتاكم الموت ، فأنتم على ذلك .

قال ابن الخطيب{[60774]} : فإن قيل : شأن الزائر أن ينصرف قريباً ، والأموات ملازمون القبور ، فكيف يقال : إنه زار القبر ؟

وأيضاً : فقوله - جل ذكره - : { حتى زُرْتُمُ المقابر } إخبار عن الماضي ، فكيف يحمل على المستقبل ؟

فالجواب عن الأول : أنَّ سكان القبور ، لا بد أن ينصرفوا منها .

وعن الثاني : أن المراد من كان مشرفاً على الموت لكبر أو لغيره كما يقال : إنه على شفير قبره ، وإما أن المراد من تقدمهم ، كقوله تعالى : { وَيَقْتُلُونَ النبيين } [ البقرة : 61 ] .

وقال أبو مسلم : إن الله يتكلم بهذه السورة يوم القيامة تعييراً للكفار ، وهم في ذلك الوقت تقدمت منهم زيارة القبور .

فصل في ذكر المقابر

قال القرطبي{[60775]} : لم يأت في التنزيل ذكر المقابر إلا في هذه السورة .

وفيه نظر ؛ لأنه تعالى قال في سورة أخرى : { ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ } [ عبس : 21 ] .

واعلم أن زيارة القبور من أعظم الأدوية للقلب القاسي ؛ لأنها تذكر الموت والآخرة ، وذلك يحمل على قصر الأمل ، والزُّهد في الدنيا ، وترك الرغبة فيها .

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ القُبُورِ ، فزُوْرُوهَا ، فإنَّها تُزْهِدُ في الدُّنيا ، وتذكرُ الآخِرةَ »{[60776]} .

وروى أبو هريرة " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن زوّارات القبور " {[60777]} .

قال بعض أهل العلم : كان هذا قبل ترخيصه في زيارة القبور ، فلما رخص دخل في الرخصة الرجال والنساء .

وقال بعضهم : إنما كره زيارة القبور للنِّساء ، لقلّة صبرهن ، وكثرة جزعهن .

وقال بعضهم : زيارة القبور للرجال متفق عليه ، وأما النِّساء فمختلف فيه : أما الشوابّ فحرام عليهن الخروج ، وأما القواعد فمباح لهن ذلك ، وجاز لجميعهن ذلك إذا انفردن بالخروج عن الرجال بغير خلاف ، لعدم خشية الفتنة .

فصل في آداب زيارة القبور

ينبغي لمن زار القُبُور أن يتأدب بآدابها ، ويحضر قلبه في إتيانها ، ولا يكون حظّه منها إلا التّطواف فقط ، فإن هذه حالة يشاركه فيها البهائم ؛ بل يقصد بزيارته وجه الله تعالى ، وإصلاح فساد قلبه ، ونفع الميت بما يتلوه عنده من القرآن ، والدعاء ، ويتجنب المشي على القبور ، والجلوس عليها ، ويسلم إذا دخل المقابر ، وإذا وصل إلى قبر ميته الذي يعرفه سلم عليه أيضاً ، وأتاه من تلقاء وجهه ؛ لأنه في زيارته كمخاطبته حياً ، ثم يعتبر بمن صار تحت التراب ، وانقطع عن الأهل والأحباب ، ويتأمل الزائر حال من مضى من إخوانه أنه كيف انقطعت آمالهم ، ولم تغن عنهم أموالهم ، ومحا التراب محاسن وجوههم ، وتفرقت في القبور أجزاؤهم ، وترمَّل من بعدهم نساؤهم ، وشمل ذل اليتم أولادهم ، وأنه لا بد صائر إلى مصيرهم ، وأنَّ حاله كحالهم ، ومآله كمآلهم .


[60774]:الفخر الرازي 32/74.
[60775]:الجامع لأحكام القرآن 20/116.
[60776]:أخرجه مسلم (2/672)، كتاب الجنائز، باب: استئذان النبي صلى الله عليه وسلم ربه في زيارة قبر أمه (106/977)، من حديث بريدة بن الحصيب.
[60777]:أخرجه أحمد (2/337، 356)، والطيالسي (1/171)، رقم (817)، والترمذي (1056)، وابن ماجه (1576)، وابن حبان في "صحيحه" رقم (3175)، والبيهقي (4/78)، وأبو يعلى (10/314)، رقم (5908)، من حديث أبي هريرة. وقال الترمذي هذا حديث حسن صحيح.