( ولقد فتنا قبلهم قوم فرعون ) . .
وابتليناهم بالنعمة والسلطان ، والتمكين في الأرض ، والإملاء في الرخاء ، واسباب الثراء والاستعلاء .
وكان هذا طرفاً من الابتلاء ، ينكشف به نوع استجابتهم للرسول الكريم ، الذي لا يطلب منهم شيئاً لنفسه ؛ إنما يدعوهم إلى الله ، ويطلب إليهم أن يؤدوا كل شيء لله ، وألا يستبقوا شيئاً لا يؤدونه من ذوات أنفسهم يضنون به على الله :
{ 17-33 } { وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ }إلى آخر القصة
{[781]} لما ذكر تعالى تكذيب من كذب الرسول محمدا صلى الله عليه وسلم ذكر أن لهم سلفا من المكذبين ، فذكر قصتهم مع موسى وما أحل الله بهم ليرتدع هؤلاء المكذبون عن ما هم عليه فقال : { وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ } أي : ابتليناهم واختبرناهم بإرسال رسولنا موسى بن عمران إليهم الرسول الكريم الذي فيه من الكرم ومكارم الأخلاق ما ليس في غيره .
أي ابتليناهم . ومعنى هذه الفتنة والابتلاء الأمر بالطاعة . والمعنى عاملناهم معاملة المختبر ببعثة موسى إليهم فكذبوا فأهلكوا ، فهكذا أفعل بأعدائك يا محمد إن لم يؤمنوا . وقيل : فتناهم عذبناهم بالغرق . وفي الكلام تقديم وتأخير ، والتقدير : ولقد جاء آل فرعون رسول كريم وفتناهم ، أي أغرقناهم ؛ لأن الفتنة كانت بعد مجيء الرسول . والواو لا ترتب . ومعنى " كريم " أي كريم في قومه . وقيل : كريم الأخلاق بالتجاوز والصفح . وقال الفراء : كريم على ربه إذ اختصه بالنبوة وإسماع الكلام .
ولما كان التقدير : لفقد فتناهم بإرسالك إليهم ليكشف ذلك لمن لا يعلم الشيء إلا بعد وقوعه عما نعلمه{[57394]} في الأزل ، وفيما لا يزال{[57395]} ولم يزل ، من بواطن أمورهم ، فتقوم الحجة على من خالفنا على مقتضى عاداتكم{[57396]} ، عطف عليه محذراً لقريش ومسلياً للنبي صلى الله عليه وسلم قوله : { ولقد فتنا } أي فعلنا على ما لنا من العظمة فعل الفاتن وهو المختبر{[57397]} الذي يريد أن يعلم حقيقة الشيء بالإملاء والتمكين ثم الإرسال{[57398]} .
ولما كان من المعلوم أن قوم فرعون لم يستغرقوا الزمان ولا كانوا أقرب الناس زماناً إلى قريش ، نزع الجار قبل الظرف لعدم{[57399]} الإلباس أو أنه عظم فتنتهم لما كان لهم من العظمة والمكنة ، فجعلها لذلك كأنها مستغرقة لجميع الزمان فقال : { قبلهم } أي قبل هؤلاء العرب ليكون ما مضى من خبرهم عبرة لهم وعظة .
ولما كان فرعون من أقوى من جاءه رسول قبلهم بما كان له من الجنود والأموال والمكنة ، {[57400]}وكان{[57401]} الرسول الذي أتاه قد جمع له - صلى الله عليه وسلم - {[57402]}الآيات التي اشتملت على التصرف في العناصر الأربعة . فكان{[57403]} فيها الماء والتراب والنار والهواء ، وكانوا إذا{[57404]} أتتهم الآية قالوا : يا أيها الساحر ! ادع لنا ربك بما عهد عندك إننا لمهتدون ، فإذا{[57405]} كشف عنهم ذلك عادوا{[57406]} إلى ما كانوا عليه كما أخبر تعالى عن هؤلاء عند مجيء الدخان - إلى [ غير-{[57407]} ] ذلك مما شابهوهم فيه من الأسرار{[57408]} التي كشفها هذا المضمار ، وكان آخر ذلك أن{[57409]} أهلكهم أجمعين ، فكانوا أجلى مثل لقوله تعالى في التي قبلها
{ فأهلكنا أشد منهم بطشاً }[ الزخرف : 8 ] خصهم بالذكر من [ بين-{[57410]} ] المفتونين قبل فقال : { قوم فرعون } أي مع فرعون لأن ما كان فتنة لقومه كان فتنة له{[57411]} لأن الكبير أرسخ في الفتنة بما أحاط{[57412]} به من الدنيا{[57413]} ، وسيأتي التصريح به في آخر القصة { وجاءهم } أي المضافين والمضاف إليه{[57414]} في [ زيادة-{[57415]} ] فتنتهم { رسول كريم } أي يعلمون شرفه نسباً وأخلاقًا وأفعالاً ، ثم زاد بيان كرمه بما {[57416]}ظهر لله{[57417]} به من العناية بما أيده به من المعجزات .