في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ مَا ٱسۡتَطَعۡتُمۡ وَٱسۡمَعُواْ وَأَطِيعُواْ وَأَنفِقُواْ خَيۡرٗا لِّأَنفُسِكُمۡۗ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفۡسِهِۦ فَأُوْلَـٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ} (16)

ويهتف للذين آمنوا بتقوى الله في حدود الطاقة والإستطاعة ، وبالسمع والطاعة :

( فاتقوا الله ما استطعتم - واسمعوا وأطيعوا ) . .

وفي هذا القيد : ( ما استطعتم )يتجلى لطف الله بعباده ، وعلمه بمدى طاقاتهم في تقواه وطاعته . وقد قال رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] : " إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم وما نهيتكم عنه فاجتنبوه " فالطاعة في الأمر ليس لها حدود ، ومن ثم يقبل فيها ما يستطاع . أما النهي فلا تجزئة فيه فيطلب بكامله دون نقصان . ويهيب بهم إلى الإنفاق :

( وأنفقوا خيرا لأنفسكم ) . .

فهم ينفقون لأنفسهم . وهو يأمرهم أن ينفقوا الخير لأنفسهم . فيجعل ما ينفقونه كأنه نفقة مباشرة لذواتهم ، ويعدها الخير لهم حين يفعلون .

ويريهم شح النفس بلاء ملازما . السعيد السعيد من يخلص منه ويوقاه ؛ والوقاية منه فضل من الله :

( ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون ) . .

 
صفوة البيان لحسين مخلوف - حسنين مخلوف [إخفاء]  
{فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ مَا ٱسۡتَطَعۡتُمۡ وَٱسۡمَعُواْ وَأَطِيعُواْ وَأَنفِقُواْ خَيۡرٗا لِّأَنفُسِكُمۡۗ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفۡسِهِۦ فَأُوْلَـٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ} (16)

{ فاتقوا الله ما استطعتم } ابذلوا في تقواه جهدكم وطاقتكم . { ومن يوق شح نفسه } أي من يكفه الله شح نفسه فيفعل في ماله جميع ما أمر الله به ، طيب النفس به . { فأولئك هم المفلحون } الفائزون [ آية 9 الحشر 417 ] .

 
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ مَا ٱسۡتَطَعۡتُمۡ وَٱسۡمَعُواْ وَأَطِيعُواْ وَأَنفِقُواْ خَيۡرٗا لِّأَنفُسِكُمۡۗ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفۡسِهِۦ فَأُوْلَـٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ} (16)

{ 16-18 } { فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ * عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ }

يأمر تعالى بتقواه ، التي هي امتثال أوامره واجتناب نواهيه ، ويقيد{[1130]}  ذلك بالاستطاعة والقدرة .

فهذه الآية ، تدل على أن كل واجب عجز عنه العبد ، أنه يسقط عنه ، وأنه إذا قدر على بعض المأمور ، وعجز عن بعضه ، فإنه يأتي بما يقدر عليه ، ويسقط عنه ما يعجز عنه ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : " إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم " .

ويدخل تحت هذه القاعدة الشرعية من الفروع ، ما لا يدخل تحت الحصر ، وقوله : { وَاسْمَعُوا } أي : اسمعوا ما يعظكم الله به ، وما يشرعه لكم من الأحكام ، واعلموا ذلك وانقادوا له { وَأَطِيعُوا } الله ورسوله في جميع أموركم ، { وَأَنْفِقُوا } من النفقات الشرعية الواجبة والمستحبة ، يكن ذلك الفعل منكم خيرًا لكم في الدنيا والآخرة ، فإن الخير كله في امتثال أوامر الله تعالى وقبول نصائحه ، والانقياد لشرعه ، والشر كله ، في مخالفة ذلك .

ولكن ثم آفة تمنع كثيرًا من الناس ، من النفقة المأمور بها ، وهو الشح المجبولة عليه أكثر النفوس ، فإنها تشح بالمال ، وتحب وجوده ، وتكره خروجه من اليد غاية الكراهة .

فمن وقاه الله شر شح نفسه بأن سمحت نفسه بالإنفاق النافع لها { فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } لأنهم أدركوا المطلوب ، ونجوا من المرهوب ، بل لعل ذلك ، شامل لكل ما أمر به العبد ، ونهي عنه ، فإنه إن كانت نفسه شحيحة . لا تنقاد لما أمرت به ، ولا تخرج ما قبلها ، لم يفلح ، بل خسر الدنيا والآخرة ، وإن كانت نفسه نفسًا سمحة ، مطمئنة ، منشرحة لشرع الله ، طالبة لمرضاة ، فإنها ليس بينها وبين فعل ما كلفت به إلا العلم به ، ووصول معرفته إليها ، والبصيرة بأنه مرض لله تعالى ، وبذلك تفلح وتنجح وتفوز كل الفوز .


[1130]:- في ب: وقيد.
 
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي [إخفاء]  
{فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ مَا ٱسۡتَطَعۡتُمۡ وَٱسۡمَعُواْ وَأَطِيعُواْ وَأَنفِقُواْ خَيۡرٗا لِّأَنفُسِكُمۡۗ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفۡسِهِۦ فَأُوْلَـٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ} (16)

فيه خمس مسائل :

الأولى- قوله تعالى : " فاتقوا الله ما استطعتم " ذهب جماعة من أهل التأويل إلى أن هذه الآية ناسخة لقوله تعالى : " اتقوا الله حق تقاته{[15053]} " [ آل عمران : 102 ] منهم قتادة والربيع بن أنس والسدي وابن زيد . ذكر الطبري : وحدثني يونس بن عبدالأعلى قال أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله تعالى : " يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته " [ آل عمران : 102 ] قال : جاء أمر شديد ، قالوا : ومن يعرف قدر هذا أو يبلغه ؟ فلما عرف الله أنه قد اشتد ذلك عليهم نسخها عنهم وجاء بهذه الآية الأخرى فقال : " اتقوا الله ما استطعتم " . وقيل : هي محكمة لا نسخ فيها . وقال ابن عباس : قوله تعالى : " اتقوا الله حق تقاته " [ آل عمران : 102 ] إنها لم تنسخ ، ولكن حق تقاته أن يجاهد لله حق جهاده ، ولا يأخذه في الله لومة لائم ، ويقوموا لله بالقسط ولو على أنفسهم وآبائهم وأبنائهم . وقد تقدم .

الثانية- فإن قيل : فإذا كانت هذه الآية محكمة غير منسوخة فما وجه قوله في سورة التغابن : " فاتقوا الله ما استطعتم " وكيف يجوز اجتماع الأمر باتقاء الله حق تقاته ، والأمر باتقائه ما استطعنا . والأمر باتقائه حق تقاته إيجاب القرآن بغير خصوص ولا وصل بشرط ، والأمر باتقائه ما استطعنا أمر باتقائه موصولا بشرط ؟ قيل له : قوله : " فاتقوا الله ما استطعتم " بمعزل مما دل عليه قوله تعالى : " اتقوا الله حق تقاته " [ آل عمران : 102 ] وإنما عنى بقوله : " فاتقوا الله ما استطعتم " فاتقوا الله أيها الناس وراقبوه فيما جعل فتنة لكم من أموالكم وأولادكم أن تغلبكم فتنتهم ، وتصدكم عن الواجب لله عليكم من الهجرة من أرض الكفر إلى أرض الإسلام ، فتتركوا الهجرة ما استطعتم ، بمعنى وأنتم للهجرة مستطيعين . وذلك أن الله جل ثناؤه قد كان عذر من لم يقدر على الهجرة بتركها بقوله تعالى : " إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم " إلى قوله " فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم{[15054]} " [ النساء : 97 ] . فأخبر أنه قد عفا عمن لا يستطيع حيلة ولا يهتدي سبيلا بالإقامة في دار الشرك ، فكذلك معنى قوله : " فاتقوا الله ما استطعتم " في الهجرة من دار الشرك إلى دار الإسلام أن تتركوها بفتنة أموالكم وأولادكم . ومما يدل على صحة هذا أن قوله : " فاتقوا الله ما استطعتم " عقيب قوله : " يا أيها الذين آمنوا إن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم فاحذروهم " .

ولا خلاف بين السلف من أهل العلم بتأويل القرآن أن هذه الآيات نزلت بسبب قوم كفار تأخروا عن الهجرة من دار الشرك إلى دار الإسلام بتثبيط أولادهم إياهم عن ذلك ، حسب ما تقدم . وهذا كله اختيار الطبري . وقيل : " فاتقوا الله ما استطعتم " فيما تطوع به من نافلة أو صدقة ، فإنه لما نزل قوله تعالى : " اتقوا الله حق تقاته " [ آل عمران : 102 ] اشتد على القوم فقاموا حتى ورمت عراقيبهم وتقرحت جباههم ، فأنزل الله تعالى تخفيفا عنهم : " فاتقوا الله ما استطعتم " فنسخت الأولى ، قاله ابن جبير . قال الماوردي : ويحتمل إن لم يثبت هذا النقل أن المكره على المعصية غير مؤاخذ بها ؛ لأنه لا يستطيع اتقاءها .

الثالثة- قوله تعالى : " واسمعوا وأطيعوا " أي اسمعوا ما توعظون به وأطيعوا فيما تؤمرون به وتنهون عنه . وقال مقاتل : اسمعوا " أي اصغوا إلى ما ينزل عليكم من كتاب الله ، وهو الأصل في السماع . " وأطيعوا " لرسوله فيما أمركم أو نهاكم . وقال قتادة : عليهما بويع النبي صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة . وقيل : " واسمعوا " أي اقبلوا ما تسمعون ، وعبر عنه بالسماع لأنه فائدته .

قلت : وقد تغلغل في هذه الآية الحجاج حين تلاها وقصرها على عبدالملك بن مروان فقال : " فاتقوا الله ما استطعم واسمعوا وأطيعوا " هي لعبدالملك بن مروان أمين الله وخليفته ، ليس فيها مثنوية ، والله لو أمرت رجلا أن يخرج من باب المسجد فخرج من غيره لحل لي دمه . وكذب في تأويلها بل هي للنبي صلى الله عليه وسلم أولا ثم لأولي الأمر من بعده . دليله " أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم{[15055]} " [ النساء : 59 ] .

الرابعة- قوله تعالى : " وأنفقوا " قيل : هو الزكاة ، قاله ابن عباس . وقيل : هو النفقة في النفل . وقال الضحاك : هو النفقة في الجهاد . وقال الحسن : هو نفقة الرجل لنفسه . قال ابن العربي : وإنما أوقع قائل هذا قوله : " لأنفسكم " وخفي عليه أن نفقة النفل والفرض في الصدقة هي نفقة الرجل على نفسه ، قال الله تعالى : " إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها{[15056]} " . [ الإسراء : 7 ] . وكل ما يفعله الرجل من خير فإنما هو لنفسه . والصحيح أنها عامة . وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه فال له رجل : عندي دينار ؟ قال : ( أنفقه على نفسك ) قال : عندي آخر ؟ قال : ( أنفقه على عيالك ) قال : عندي آخر ؟ قال : ( أنفقه على ولدك ) قال : عندي آخر ؟ قال : ( تصدق به ) فبدأ بالنفس والأهل والولد وجعل الصدقة بعد ذلك . وهو الأصل في الشرع .

الخامسة- قوله تعالى : " خيرا لأنفسكم " " خيرا " نصب بفعل مضمر عند سيبويه ، دل عليه " وأنفقوا " كأنه قال : ايتوا في الإنفاق خيرا لأنفسكم ، أو قدموا خيرا لأنفسكم من أموالكم . وهو عند الكسائي والقراء نعت لمصدر محذوف ، أي : أنفقوا إنفاقا خيرا لأنفسكم . وهو عند أبي عبيدة خبر كان مضمرة ؛ أي : يكن خيرا لكم . ومن جعل الخير المال فهو منصوب ب " أنفقوا " . " ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون " تقدم الكلام فيه{[15057]} .


[15053]:راجع جـ 4 ص 157.
[15054]:راجع جـ 5 ص 354.
[15055]:راجع جـ 5 ص 258.
[15056]:راجع جـ 10 ص 217.
[15057]:راجع ص 29 من هذا الجزء.