ولما ذكر التبتل وهو الانقطاع عما عدا الله ، ذكر بعده ما يفيد أنه ليس هناك إلا الله ، يتجه إليه من يريد الاتجاه :
( رب المشرق والمغرب ، لا إله إلا هو ، فاتخذه وكيلا ) . .
فهو رب كل متجه . . رب المشرق والمغرب . . وهو الواحد الأحد الذي لا إله إلا هو . فالانقطاع إليه هو الانقطاع للحقيقة الوحيدة في هذا الوجود ؛ والتوكل عليه هو التوكل على القوة الوحيدة في هذا الوجود . والاتكال على الله وحده هو الثمرة المباشرة للاعتقاد بوحدانيته ، وهيمنته على المشرق والمغرب ، أي على الكون كله . . والرسول الذي ينادى : قم . . لينهض بعبئه الثقيل ، في حاجة ابتداء للتبتل لله والاعتماد عليه دون سواه . فمن هنا يستمد القوة والزاد للعبء الثقيل في الطريق الطويل .
واتخذْه وكيلا : فوض كل أمورك إليه .
ثم بين له أنه ليس هناك إلا اللهُ وحدَه ، فاتجهْ إليه بالعبادة ، هو مالكُ هذا الكون العجيب الكبير ، { فاتخذه وَكِيلاً } وفوِّض أمورك إليه ، واستمدَّ القوةَ والعون منه لتحملَ العِبء الثقيلَ الذي ألقي عليك .
قرأ أهل الكوفة غير حفص ويعقوب : رب المشرق ، بكسر الباء . والباقون : رب المشرق برفع الباء .
{ رَّبُّ المشرق والمغرب } مرفوع على المدح وقيل على الابتداء خبره { لاَ إله إِلاَّ هُوَ } وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما رب بالنصب على الاختصاص والمدح وهو يؤيد الأول وقرأ الأخوان وابن عامر وأبو بكر ويعقوب رب بالجر على أنه بدل من { ربك } وقيل على إضمار حرف القسم وجوابه لا إله إلا هو وفيه حذف حرف القسم من غير ما يسد مسده وإبقاء عمله وهو ضعيف جداً كما بين في العربية وقد نقل هذا عن ابن عباس وتعقبه أبو حيان بقوله لعله لا يصح عنه إذ فيه إضمار الجار في القسم ولا يجوز عند البصريين إلا في لفظة الجلالة الكريمة نحو الله لأفعلن كذا ولا قياس عليه ولأن الجملة المنفية في جواب القسم إذا كانت اسمية تنفي بما لا غير ولا تنفي بلا إلا الجملة المصدرة بمضارع كثيراً وبماض في معناه قليلاً انتهى وظاهر كلام ابن مالك في التسهيل إطلاق وقوع الجملة المنفية جواباً للقسم وقال في شرح الكافية أن الجملة الاسمية تقع جواباً للقسم مصدرة بلا النافية لكن يجب تكرارها إذا تقدم خبرها أو كان المبتدا معرفة نحو والله لا في الدار رجل ولا امرأة ووالله لازيد في الدار ولا عمرو ومنه يعلم أن المسألة خلافية بين هذين الإمامين وقرأ ابن عباس وعبد الله وأصحابه رب المشارق والمغارب وبجمعهما وقد تقدم الكلام في وجه الإفراد والجمع والفاء في قوله تعالى : { فاتخذه وَكِيلاً } لترتيب الأمر وموجبه على اختصاص الألوهية والربوبية به عز وجل ووكيل فعيل بمعنى مفعول أي موكول إليه والمراد من اتخاذه سبحانه وكيلاً أن يعتمد عليه سبحانه ويفوض كل أمر إليه عز وجل وذكر أن مقام التوكل فوق مقام التبتل لما فيه من رفع الاختيار وفيه دلالة على غاية الحب له تعالى وأنشدوا :
هواي له فرض تعطف أم جفا *** ومنهله عذب تكدر أم صفا
وكلت إلى المعشوق أمري كله *** فإن شاءا حياني وإن شاء أتلفا
ومن كلام بعض السادة من رضي بالله تعالى وكيلاً وجد إلى كل خير سبيلاً .
قوله : { رب المشرق والمغرب لا إله إلا هو } رب ، مرفوع على الابتداء وخبره { لا إله إلا هو } فالله مالك كل شيء ، وهو المتصرف في ملكوت المشارق والمغارب ، وهو سبحانه الإله الأحد المتفرّد بالإلهية والربوبية { فاتّخذه وكيلا } أي قائما بأمورك ، وعوّل عليه في أمرك كله{[4673]} .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
ثم عظّم الرب نفسه، فقال: {رب المشرق} يعني حيث تطلع الشمس،
{و} رب {والمغرب} حيث تغرب الشمس.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
ومعنى الكلام: ربّ المشرق والمغرب وما بينهما من العالم.
"لا إلَهَ إلاّ هُوَ": لا ينبغي أن يُعبد إله سوى الله الذي هو ربّ المشرق والمغرب. "فاتّخِذْهُ وَكِيلاً" فيما يأمرك، وفوّض إليه أسبابك.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
ثم خص المشرق والمغرب بالذكر، وإن كان هو مالكهما ومالك الخلائق أجمع، لأن ذكر المشرق يقضي ذكر السماوات والأرضين وفي ذكر السماوات والأرضين ذكر أعلى العلّيّين وأسفل السافلين... فكان في ذكر المشرق والمغرب دلالة وحدانيته تعالى وإظهار قوته وسلطانه والوقوف على عجائب حكمته ولطائف تدبيره.
وقوله تعالى: {لا إله إلا هو} أي لا معبود يستحق العبادة إلا هو، لأن الذي يحمل الإنسان على عبادة المعبود الخوف والرجاء. وإذا عرفهم بذكر المشرق والمغرب أن تدبير الخلائق كلها راجع إليه، وأنه هو القاهر عليهم والقادر عليهم، وبيده الخزائن والمنافع أجمع، علموا أنه هو الإله الحق والرب القاهر، وأن من سواه مربوب مقهور، لا يملك نفعا ولا ضرا، فكيف يستوجب العبادة والإلهية؟.
وقوله تعالى: {فاتخذه وكيلا}... أراد أن كل أمورك، كِلها إلى الله تعالى، حتى يكون هو الذي يدبر، ويحكم، ولا ترى لنفسك فيها تدبيرا.
والوكيل في الشاهد، هو الذي يدخل في أمر آخر على جهة التبرع لينصره فيه، ويعينه، فيكون قوله تعالى: {فاتخذه وكيلا} أي اطلب من عنده النصر والمعونة. والمرء في الشاهد إنما يفزع إلى الوكيل ليزيح عنه علله، ويقضي عنه حوائجه، ويقوم عنه في النوائب؛ والله أعلم.
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
{فاتّخِذْهُ وَكيلاً} فيه ثلاثة أوجه:
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
الوكيلُ مَنْ تُوكَلُ إليه الأمورُ؛ أي: تَوَكَّلْ عليه وكِلْ أمورَك إليه، وثِقْ به.
{فاتخذه وكيلا} المعنى أنه لما ثبت أنه لا إله إلا هو لزمك أن تتخذه وكيلا وأن تفوض كل أمورك إليه، وهاهنا مقام عظيم، فإنه لما كانت معرفة أنه لا إله إلا هو توجب تفويض كل الأمور إليه دل هذا على أن من لا يفوض كل الأمور إليه، فإنه غير عالم بحقيقة لا إله إلا هو.
وقال بعضهم: {وكيلا} أي كفيلا بما وعدك من النصر والإظهار.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{فاتخذه} أي خذه بجميع جهدك وذلك بإفرادك إياه بكونه تعالى {وكيلاً} أي على كل من خالفك بأن تفوض جميع أمورك إليه فإنه يكفيكها كلها ويكلأها غاية الكلاءة فإنه المتفرد بالقدرة عليها، ولا شيء أصلاً في يد غيره، فلا تهتم بشيء أصلاً، وليس ذلك بأن يترك الإنسان كل عمل، فإن ذلك طمع فارغ بل بالإجمال في طلب كل ما ندب الإنسان إلى طلبه، ليكون متوكلاً في السبب لا من دون سبب، فإنه يكون حينئذ كمن يطلب الولد من غير زوجة، وهو مخالف لحكمة هذه الدار المبنية على الأسباب.
ولو لم يكن في إفراده بالوكالة إلا أنه يفارق الوكلاء بالعظمة والشرف والرفق من جميع الوجوه؛ فإن وكيلك من الناس- دونك، وأنت تتوقع أن يكلمك كثيراً في مصالحك، وربك أعظم العظماء، وهو يأمرك أن تكلمه كثيراً في مصالحك وتسأله طويلاً.
ووكيلك من الناس -إذا حصّل مالك سألك الأجرة وهو سبحانه يوفر مالك ويعطيك الأجر.
ووكيلك من الناس ينفق عليك من مالك وهو سبحانه يرزقك وينفق عليك من ماله.
ومن تمسك بهذه الآية عاش حراً كريماً، ومات خالصاً شريفاً، ولقي الله تعالى عبداً صافياً مختاراً تقياً، ومن شرط الموحد أن يتوجه إلى الواحد ويقبل على الواحد ويبذل له نفسه عبودية ويأتمنه على نفسه ويفوض إليه أموره ويترك التدبير ويثق به ويركن إليه ويتذلل لربوبيته، ويتواضع لعظمته ويتزين ببهائه ويتخذه عدة لكل نائبة دنيا وآخرة.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ولما ذكر التبتل وهو الانقطاع عما عدا الله، ذكر بعده ما يفيد أنه ليس هناك إلا الله، يتجه إليه من يريد الاتجاه: (رب المشرق والمغرب، لا إله إلا هو، فاتخذه وكيلا).. فهو رب كل متجه.. رب المشرق والمغرب.. وهو الواحد الأحد الذي لا إله إلا هو. فالانقطاع إليه هو الانقطاع للحقيقة الوحيدة في هذا الوجود؛ والتوكل عليه هو التوكل على القوة الوحيدة في هذا الوجود. والاتكال على الله وحده هو الثمرة المباشرة للاعتقاد بوحدانيته، وهيمنته على المشرق والمغرب، أي على الكون كله.. والرسول الذي ينادى: قم.. لينهض بعبئه الثقيل، في حاجة ابتداء للتبتل لله والاعتماد عليه دون سواه. فمن هنا يستمد القوة والزاد للعبء الثقيل في الطريق الطويل.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
ثمّ ينتهي إلى الأمر الثّالث فيقول: (ربّ المشرق والمغرب لا إله إلاّ هو فاتّخذه وكيلا) وهنا تأتي مسألة إيداع الأمور إلى اللّه، وذلك بعد مرحلة ذكر اللّه والإخلاص، إيداع الأمور للربّ الذي بيده الحاكمية والرّبوبية على المشرق والمغرب والمعبود الوحيد المستحق للعبادة، وهذا التعبير في الحقيقة هو بمنزلة الدليل على موضوع التوكل على اللّه، فكيف لا يتوكل الإنسان عليه، ولا يودعه أعماله، وليس في العالم الواسع من حاكم وآمر ومنعم ومولى ومعبود غيره.