فأوجس منهم خيفة : أضمر في نفسه الخوف منهم .
خافَ منهم في نفسِه ، ظناً منه أن امتناعَهم عن الأكل إنما كان لشرّ يريدونه .
{ قَالُواْ لاَ تَخَفْ } وطمأنوه بقولهم : لا تخفْ منا ، إنا رسُل ربك إلى قوم لوطٍ ، كما جاء في قوله تعالى : { لاَ تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إلى قَوْمِ لُوطٍ } [ هود : 70 ] .
ثم زادوا طمأنتهم له : فقالوا : أبْشِر يا إبراهيم بغلامٍ عليم . هذا هو ابنه إسحاق من زوجته سارة .
{ فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً } فأضمر في نفسه منهم خوفاً لما رأى عليه الصلاة والسلام إعراضهم عن طعامه وظن أن ذلك لشر يريدونه فإن أكل الضيف أمنة ؛ ودليل على انبساط نفسه وللطعام حرمة وذمام والامتناع منه وحشة موجبة لظن الشر . وعن ابن عباس أنه عليه السلام وقع في نفسه أنهم ملائكة أرسلوا للعذاب فخاف { قَالُواْ لاَ تَخَفْ } إنا رسل الله تعالى ، عن يحيى بن شداد مسح جبريل عليه السلام العجل بجناحه فقام يدرج حتى لحق بأمه فعرفهم وأمن منهم ، وعلى ما روي عن الخبر أن هذا لمجرد تأمينه عليه السلام ، وقيل : مع تحقيق أنهم ملائكة وعلمهم بما أضمر في نفسه إما باطلاع الله تعالى إياهم عليه ، أو إطلاع ملائكته الكرام الكاتبين عليه وإخبارهم به ، أو بظهور أمارته في وجهه الشريف فاستدلوا بذلك على الباطن { وَبَشَّرُوهُ } وفي سورة الصافات { وبشرناه } أي بواسطتهم { بغلام } هو عند الجمهور إسحاق بن سارة وهو الحق للتنصيص على أنه المبشر به في سورة هود ، والقصة واحدة ، وقال مجاهد : إسماعيل ابن هاجر كما رواه عنه ابن جرير وغيره ولا يكاد يصح { عَلِيمٌ } عند بلوغه واستوائه ، وفيه تبشير بحياته وكانت البشارة بذكر لأنه أسر للنفس وأبهج ، ووصفه بالعلم لأنها الصفة التي يختص بها الإنسان الكامل لا الصورة والجميلة والقوة ونحوهما ، وهذا عند غير الأكثرين من أهل هذا الزمان فإن العلم عندهم لاسيما العلم الشرعي رذيلة لا تعادلها رذيلة والجهل فضيلة لا توازنها فضيلة ، وفي صيغة المبالغة مع حذف المعمول ما لا يخفى مما يوجب السرور ، وعن الحسن { عَلِيمٌ } نبي ووقعت البشارة بعد التأنيس ، وفي ذلك إشارة إلى أن درء المفسدة أهم من جلب المصلحة ، وذكر بعضهم أن علمه عليه السلام بأنهم ملائكة من حيث بشروه بغيب .
قوله : { فأوجس منهم خيفة } أي أحس إبراهيم منهم في نفسه خوفا . أو أضمر في نفسه الخوف منهم لعدم أكلهم { قالوا لا تخف وبشروه بغلام عليم } بينوا له أنهم ملائكة الرحمان فما ينبغي أن يخاف منهم وذلك ليأمن ويطمئن ثم بشروه بولد يولد له من زوجته سارة وهو ولد صالح وعليم . أي كائن بعد البلوغ من أهل العلم بدين الله .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وقوله:"فَقَرّبهُ إلَيْهِمْ قالَ ألا تَأْكُلُونَ "وفي الكلام متروك استغني بدلالة الظاهر عليه منه وهو فقرّبه إليهم، فأمسكوا عن أكله، فقال: ألا تأكلون؟
"فأوجس منهم"، يقول: فأوجس في نفسه إبراهيم من ضيفه خيفة وأضمرها "قالُوا لا تَخَفْ وَبَشرُوهُ بغُلامٍ عَلِيمٍ" يعني: بإسحاق، وقال: عليم بمعنى عالم إذا كبر، وذكر الفراء أن بعض المشيخة كان يقول: إذا كان للعلم منتظرا قيل: إنه لعالم عن قليل وغاية، وفي السيد سائد، والكريم كارم. قال: والذي قال حسن. قال: وهذا أيضا كلام عربيّ حسن قد قاله الله في عليم وحكيم وميت...
وإنما قلت: عنى به إسحاق، لأن البشارة كانت بالولد من سارّة، وإسماعيل لهاجرَ لا لسارّة.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{قالوا لا تخف} لذلك أُرسلنا، والله أعلم.
وقوله تعالى: {وبشّروه بغلام عليم} يحتمل قوله: {عليم} وجهين:
أحدهما: أي بشّروه بغلام، يصير عليما إذا كَبِر.
والثاني: {وبشّروه بغلام} بولد {عليم} يُؤتيه الله تعالى علما في بطن أمه، أو إذا وُلد يؤتيه علما في صغره. ولله أن يُؤتيَ العلم من يشاء في حال الصِّغر والكِبر. ألا ترى أنه قال: عز وجل في عيسى عليه السلام: {وآتيناه الحُكم صبيًّا}؟ [مريم: 12]. فعلى ذلك الغلام، هو إسحاق عليه السلام لأنه بيّن في آية أخرى في من كانت البشارة حين قال: {وبشّرناه بإسحاق} [الصافات: 112] دلّ أن البِشارة إنما كانت بإسحاق. ثم ذكر في سورة هود عليه السلام البشارة لامرأته حين قال: {فبشّرناها بإسحاق} [الآية: 71] وذكر في هذه السورة البشارة لإبراهيم عليه السلام بقوله: {وبشّروه بغلام عليم} [الذاريات: 28]. لكن جائز أنه لما بشّرها بالولد بشّرها بالولد منه، وإذا بشّروا إبراهيم عليه السلام بالولد بشّروه بالولد منها. فإذا بُشّر أحدهما بالولد من الآخر فتكون البشارة لهما جميعا، والله أعلم...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
"لا تخف " يا إبراهيم فإنا رسل الله وملائكته أرسلنا الله إلى قوم لوط لنهلكهم.
تفسير القرآن للسمعاني 489 هـ :
(فأوجس منهم خيفة) أي: دخل في نفسه منهم خيفة. وفي التفسير: أن السبب في ذلك أن الرجل كان إذا طرقه ضيف فقدّم إليه شيئا وأكله أمِن منه، وإن لم يأكل خاف شره...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
فلما استمروا على ترك الأكل {أوجس منهم خيفة}. والوجيس: تحسيس النفس وخواطرها في الحذر. وذلك أن أكل الضيف أمنة ودليل على انبساط نفسه، والطعام حرمة و ذمام، والامتناع منه وحشة. فخشي إبراهيم عليه السلام أن امتناعهم من أكل طعامه إنما هو لشر يريدونه، فقالوا له: {لا تخف} وعرفوه أنهم ملائكة. ويروى أنه إنما عرف كونهم ملائكة استدلالاً من بشارتهم إياه بغيب.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{عليم} أي مجبول جبلة مهيأة للعلم ولا يموت حتى يظهر علمه بالفعل في أوانه.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
الفاء في {فأوجس منهم خيفة} فصيحة لإفصاحها عن جملة مقدرة يقتضيها ربط المعنى، أي فلم يأكلوا فأوجس منهم خيفة...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{قَالُواْ لاَ تَخَفْ} فلسنا بشراً لنأكل كما يأكل البشر، بل نحن من الملائكة المرسلين إليك من قبل الله، {وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلَيمٍ} فزال خوفه منهم، وتقبَّل البشارة بوعي رسوليّ إيمانيّ مؤمن بقدرة الله، أما امرأته، فقد هزتها المفاجأة بشدة، لأنها لم تكن تنتظر هذا الحدث.