( يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم . والله متم نوره ولو كره الكافرون ) . .
وهذا النص القرآني يعبر عن حقيقة ، ويرسم في الوقت ذاته صورة تدعو إلى الرثاء والاستهزاء ! فهي حقيقة أنهم كانوا يقولون بأفواههم : ( هذا سحر مبين ) . . ويدسون ويكيدون محاولين القضاء على الدين الجديد . وهي صورة بائسة لهم وهم يحاولون إطفاء نور الله بنفخة من أفواههم وهم هم الضعاف المهازيل !
( والله متم نوره ولو كره الكافرون ) . . وصدق وعد الله . أتم نوره في حياة الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] فأقام الجماعة الإسلامية صورة حية واقعة من المنهج الإلهي المختار . صورة ذات معالم واضحة وحدود مرسومة ، تترسمها الأجيال لا نظرية في بطون الكتب ، ولكن حقيقة في عالم الواقع . وأتم نوره فأكمل للمسلمين دينهم وأتم عليهم نعمته ورضي لهم الإسلام دينا يحبونه ، ويجاهدون في سبيله ، ويرضى أحدهم أن يلقى في النار ولا يعود إلى الكفر . فتمت حقيقة الدين في القلوب وفي الأرض سواء . وما تزال هذه الحقيقة تنبعث بين الحين والحين . وتنبض وتنتفض قائمة - على الرغم من كل ما جرد على الإسلام والمسلمين من حرب وكيد وتنكيل وتشريد وبطش شديد . لأن نور الله لا يمكن أن تطفئه الأفواه ، ولا أن تطمسه كذلك النار والحديد ، في أيدي العبيد ! وإن خيل للطغاة الجبارين ، وللأبطال المصنوعين على أعين الصليبيين واليهود أنهم بالغو هذا الهدف البعيد !
نور الله : دينه الذي يدعو إليه الرسول الكريم .
بأفواههم : يعني بأكاذيبهم وأباطيلهم .
والله متم نوره : والله مظهرٌ دينَه ، وقد صدق .
ثم بين الله تعالى أنهم حاولوا إبطالَ الدِين وردَّ المؤمنين عنه ، لكنّهم لم يستطيعوا وخابوا في سعيهم فقال : { يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُواْ نُورَ الله بِأَفْوَاهِهِمْ } .
إن هؤلاء الجاحدين من قريشٍ ، وبني إسرائيل في المدينة ، والمنافقين معهم ، حاولوا القضاءَ على الإسلام بالدسائس والأكاذيب فخذلَهم الله تعالى ، وأظهر دِينه فهو الدينُ القيم الذي أنار الكون ، وخاب سعيهم .
{ والله مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الكافرون } .
قرأ ابن كثير وحمزة والكسائي وحفص وخلف : متم نوره بضم الميم والإضافة بجر نوره . والباقون : متم نوره بتنوين متم ، ونصب نوره .
قوله تعالى : { يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم } الإطفاء هو الإخماد ، يستعملان في النار ، ويستعملان فيما يجري مجراها من الضياء والظهور . ويفترق الإطفاء والإخماد من وجه ، وهو أن الإطفاء يستعمل في القليل والكثير ، والإخماد إنما يستعمل في الكثير دون القليل ؛ فيقال : أطفأت السراج ، ولا يقال أخمدت السراج .
وفي { نور الله } هنا خمسة أقاويل : أحدها : أنه القرآن ، يريدون إبطاله وتكذيبه بالقول ، قاله ابن عباس وابن زيد . والثاني : إنه الإسلام ، يريدون دفعه بالكلام ، قاله السدي . الثالث : أنه محمد صلى الله عليه وسلم ، يريدون هلاكه بالأراجيف ، قاله الضحاك . الرابع : حجج الله ودلائله ، يريدون إبطالها بإنكارهم وتكذيبهم ، قاله ابن بحر . الخامس : أنه مثل مضروب ، أي من أراد إطفاء نور الشمس بفيه فوجده مستحيلا ممتنعا فكذلك من أراد إبطال الحق ، حكاه ابن عيسى . وسبب نزول هذه الآية ما حكاه عطاء عن ابن عباس : أن النبي صلى الله عليه وسلم أبطأ عليه الوحي أربعين يوما ، فقال كعب بن الأشرف : يا معشر اليهود ، أبشروا ! فقد أطفأ الله نور محمد فيما كان ينزل عليه ، وما كان ليتم أمره ، فحزن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله تعالى هذه الآية واتصل الوحي بعدها ، حكى جميعه الماوردي رحمه الله .
{ والله متم نوره } أي بإظهاره في الآفاق . وقرأ{[14943]} ابن كثير وحمزة والكسائي وحفص عن عاصم " والله متم نوره " بالإضافة على نية الانفصال ، كقوله تعالى : " كل نفس ذائقة الموت " [ آل عمران : 185 ] وشبهه ، حسب ما تقدم بيانه في " آل عمران{[14944]} " . الباقون " متم نوره " لأنه فيما يستقبل ، فعمِل . { ولو كره الكافرون } من سائر الأصناف .
ولما أخبر عن ردهم للرسالة ، علله بقوله : { يريدون } أي يوقعون إرادة ردهم للرسالة بافترائهم { ليطفئوا } أي لأجل أن يطفئوا { نور الله } أي الملك الذي لا شيء يكافيه { بأفواههم } أي بما يقولون من الكذب{[65047]} لا منشأ له غير الأفواه لأنه لا اعتقاد له في القلوب لكونه{[65048]} لا يتخيله عاقل ، فهم في ذلك كالنافخين في الشمس إرادة أن يمحو نفخهم عينها و{[65049]}ينقص شينهم زينها ، فمثل إرادتهم لإخفاء القرآن بتكذيبهم وجميع كيدهم بمن{[65050]} يريد إطفاء الشمس بنفخه فهو في أجهد وأضل الضلال :
وفي تعب من يحسد الشمس ضوءها *** ويجهد أن يأتي لها{[65051]} بضريب
فأفاد قصر الفعل أن إرادتهم كلها مصروفة لهذا الغرض وأنه لا إرادة لهم غير ذلك وأنه لا ينبغي أن يكون لهم{[65052]} إرادة لأنهم عبيد ، والإرادة لا ينبغي{[65053]} إلا للسيد ليكون إرادة العبد تابعة لها ، فتكون امتثالاً لإرادته ، فكأنه لا إرادة له ، فهو أبلغ {[65054]}مما في براءة{[65055]} لأن هذه نتيجتها .
ولما أخبر بعلة إرادتهم وأشار إلى وهي أمرهم بعد أن أخبر بردهم للحق وجرأ عليهم بالإخبار بإضلالهم{[65056]} ، زاد ذلك بقوله مظهرا غير مضمر تنبيهاً على جميع{[65057]} صفات الجلال والإكرام : { والله } أي الذي لا مدافع له{[65058]} لتمام عظمته . ولما كانت هذه السورة نتيجة سورة براءة التي أخبر فيها بأنه يأبى إلا إتمام نوره ، أخبر في هذه بنتيجة ذلك وهي ثبات تمام النور ودوامه ، لأن هذا شأن الملك الذي لا كفوء له إذا أراد شيئاً فكيف إذا أرسل{[65059]} رسولاً فقال : { متم } وهذا المعنى يؤيد قول الجمهور أنها{[65060]} مدينة بعد التأييد بذكر الجهاد ، فإن فرضه كان{[65061]} بعد الهجرة من والظاهر من ترتيبها على الممتحنة التي نزلت في غزوة الفتح أنها بعد براءة في النزول أيضاً .
ولما كان النور لإظهار صور الأشياء بعد انطماسها سبباً لوضع الأشياء في أتقن مواضعها ، وكان ما أتى من عند الله من العلم كذلك ، جعل عينه فأطلق عليه اسمه فقال : { نوره } فلا يضره{[65062]} ستر أحد له بتكذيبه ولا إرادة إطفائه ، وزاد ذلك بقوله : { ولو كره } أي إتمامه له{[65063]} { الكافرون * } أي الراسخون في صفة الكفر{[65064]} المجتهدون في المحاماة عنه .
قوله : { يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم } ذلك تهكم بالكافرين السفهاء في إرادتهم القضاء على الإسلام بافتراءاتهم وأكاذيبهم عليه وبإثارة الظنون والأقاويل والأباطيل من حوله . وقد شبّه حالهم من الكيد للإسلام لإذهابه واستئصاله من الأرض بمن ينفخ في نور الشمس بفيه ليطفئه . فما يستطيع النافخ بفيه أن يطفئ ضياء الشمس المشرق المشعشع الذي يملك بسطوعه وشديد إشراقه آفاق الدنيا .
على أن المراد بنور الله ، القرآن أو الإسلام أو نبي الإسلام محمد صلى الله عليه وسلم ، أو آيات الله من الدلائل والحجج الظاهرة . والأظهر أن يكون المراد بنور قرآنه الحكيم وما يصدر عنه من دين عظيم شامل وهو الإسلام بعقيدته الراسخة السمحة ، ونظامه الوارف الشاسع الذي جاء متضمنا لكل معاني الخير والرحمة والعدل والبر والفضيلة وفيه من أسباب العلاج والهداية والتوفيق ما تهتدي به البشرية على مرّ الزمن ، لتكون آمنة سالمة راضية مطمئنة . وذلكم هو نور الله الذي يريد الظالمون الخاسرون من دعاة الشر والرذيلة والباطل أن يطفئوه بأفواههم لتتبدد حقيقته ومعالمه ، وتنمحي عينه وظواهره وآثاره ، وتنكسر شوكته أيما انكسار ، وذلك بمختلف الأساليب من التشويه والتشكيك والافتراء والأراجيف وغير ذلك من أسباب القمع والتنكيل والتقتيل للمسلمين .
قوله : { والله متمّ نوره ولو كره الكافرون } الله مظهر دينه الإسلام . دين الحق والعدل والتوحيد . مظهره في العالمين ليشرق ضياؤه في الآفاق وليشعشع نوره الساطع يملأ الدنيا . وذلكم وعد من الله غير مكذوب ولن يخلف الله وعده ، فلقد ملأ الإسلام الأرض والآفاق وشاعت معانيه وأحكامه وكلماته حتى عمت سائر أنحاء العالم . وإذا ما انتكس المسلمون في كثير من الأحوال والمراحل فخبا بانتكاسهم نور الإسلام ، فإن هذا الدين العظيم ما يلبث – بخصائصه المميزة الكبرى- أن يعلو ويشيع ويستطير ليتجدد فيه الظهور والاستعلاء والشموخ من جديد فيعم الدنيا بنوره وعدله وفضله . وذلك بالرغم من كراهية المشركين الظالمين المتربصين . وبالرغم مما يكيدونه للإسلام من مختلف المكائد والمؤامرات والحيل لإضعافه وتدميره . فما يبوء تربصهم اللئيم ومكائدهم وأساليبهم الماكرة الخبيثة إلا بالخسران والفشل .