في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{قَدۡ كَانَتۡ لَكُمۡ أُسۡوَةٌ حَسَنَةٞ فِيٓ إِبۡرَٰهِيمَ وَٱلَّذِينَ مَعَهُۥٓ إِذۡ قَالُواْ لِقَوۡمِهِمۡ إِنَّا بُرَءَـٰٓؤُاْ مِنكُمۡ وَمِمَّا تَعۡبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ كَفَرۡنَا بِكُمۡ وَبَدَا بَيۡنَنَا وَبَيۡنَكُمُ ٱلۡعَدَٰوَةُ وَٱلۡبَغۡضَآءُ أَبَدًا حَتَّىٰ تُؤۡمِنُواْ بِٱللَّهِ وَحۡدَهُۥٓ إِلَّا قَوۡلَ إِبۡرَٰهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسۡتَغۡفِرَنَّ لَكَ وَمَآ أَمۡلِكُ لَكَ مِنَ ٱللَّهِ مِن شَيۡءٖۖ رَّبَّنَا عَلَيۡكَ تَوَكَّلۡنَا وَإِلَيۡكَ أَنَبۡنَا وَإِلَيۡكَ ٱلۡمَصِيرُ} (4)

ثم تأتي الجولة الثالثة فتصل المسلمين بأول هذه الأمة الواحدة : أمة التوحيد . وهذه القافلة الواحدة : قافلة الإيمان . فإذا هي ممتدة في الزمان ، متميزة بالإيمان ، متبرئة من كل وشيجة تنافي وشيجة العقيدة . . إنها الأمة الممتدة منذ إبراهيم . أبيهم الأول وصاحب الحنيفية الأولى . وفيه أسوة لا في العقيدة وحدها ، بل كذلك في السيرة ، وفي التجارب التي عاناها مع عاطفة القرابة ووشائجها ؛ ثم خلص منها هو ومن آمن معه ، وتجرد لعقيدته وحدها :

( قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه ؛ إذ قالوا لقومهم : إنا برآء منكم ، ومما تعبدون من دون الله ، كفرنا بكم ، وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا حتى تؤمنوا بالله وحده . إلا قول إبراهيم لأبيه ، لأستغفرن لك ، وما أملك لك من الله من شيء . ربنا عليك توكلنا ، وإليك أنبنا ، وإليك المصير . ربنا لا تجعلنا فتنة للذين كفروا ، واغفر لنا ربنا ، إنك أنت العزيز الحكيم . . لقد كان لكم فيهم أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر . ومن يتول فإن الله هو الغني الحميد ) . .

وينظر المسلم فإذا له نسب عريق ، وماض طويل ، وأسوة ممتدة على آماد الزمان . وإذا هو راجع إلى إبراهيم ، لا في عقيدته فحسب ، بل في تجاربه التي عاناها كذلك . فيشعر أن له رصيدا من التجارب أكبر من رصيده الشخصي وأكبر من رصيد جيله الذي يعيش فيه . إن هذه القافلة الممتدة في شعاب الزمان من المؤمنين بدين الله ، الواقفين تحت راية الله ، قد مرت بمثل ما يمر به ، وقد انتهت في تجربتها إلى قرار اتخذته . فليس الأمر جديدا ولا مبتدعا ولا تكليفا يشق على المؤمنين . . ثم إن له لأمة طويلة عريضة يلتقي معها في العقيدة ويرجع إليها ، إذا انبتت الروابط بينه وبين أعداء عقيدته . فهو فرع من شجرة ضخمة باسقة عميقة الجذور كثيرة الفروع وارفة الظلال . . الشجرة التي غرسها أول المسلمين . . إبراهيم . .

مر إبراهيم والذين معه بالتجربة التي يعانيها المسلمون المهاجرون . وفيهم أسوة حسنة : ( إذ قالوا لقومهم : إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله ، كفرنا بكم ، وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا حتى تؤمنوا بالله وحده ) . .

فهي البراءة من القوم ومعبوداتهم وعباداتهم . وهو الكفر بهم والإيمان بالله . وهي العداوة والبغضاء لا تنقطع حتى يؤمن القوم بالله وحده . وهي المفاصلة الحاسمة الجازمة التي لا تستبقي شيئا من الوشائج والأواصر بعد انقطاع وشيجة العقيدة وآصرة الإيمان . وفي هذا فصل الخطاب في مثل هذه التجربة التي يمر بها المؤمن في أي جيل . وفي قرار إبراهيم والذين معه أسوة لخلفائهم من المسلمين إلى يوم الدين .

ولقد كان بعض المسلمين يجد في استغفار إبراهيم لأبيه - وهو مشرك - ثغرة تنفذ منها عواطفهم الحبيسة ومشاعرهم الموصولة بذوي قرباهم من المشركين . فجاء القرآن ليشرح لهم حقيقة موقف إبراهيم في قوله لأبيه : ( لأستغفرن لك ) . .

فلقد قال هذا قبل أن يستيقن من إصرار أبيه على الشرك . قاله وهو يرجو إيمانه ويتوقعه : ( فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه ) . . كما جاء في سورة أخرى .

ويثبت هنا أن إبراهيم فوض الأمر كله لله ، وتوجه إليه بالتوكل والإنابة والرجوع إليه على كل حال :

( وما أملك لك من الله من شيء . ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير ) . .

وهذا التسليم المطلق لله ، هو السمة الإيمانية الواضحة في إبراهيم يبرزها هنا ليوجه إليها قلوب أبنائه المسلمين . كحلقة من حلقات التربية والتوجيه بالقصص والتعقيب عليه ، وإبراز ما في ثناياه من ملامح وسمات وتوجيهات على طريقة القرآن الكريم .

 
تيسير التفسير لإبراهيم القطان - إبراهيم القطان [إخفاء]  
{قَدۡ كَانَتۡ لَكُمۡ أُسۡوَةٌ حَسَنَةٞ فِيٓ إِبۡرَٰهِيمَ وَٱلَّذِينَ مَعَهُۥٓ إِذۡ قَالُواْ لِقَوۡمِهِمۡ إِنَّا بُرَءَـٰٓؤُاْ مِنكُمۡ وَمِمَّا تَعۡبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ كَفَرۡنَا بِكُمۡ وَبَدَا بَيۡنَنَا وَبَيۡنَكُمُ ٱلۡعَدَٰوَةُ وَٱلۡبَغۡضَآءُ أَبَدًا حَتَّىٰ تُؤۡمِنُواْ بِٱللَّهِ وَحۡدَهُۥٓ إِلَّا قَوۡلَ إِبۡرَٰهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسۡتَغۡفِرَنَّ لَكَ وَمَآ أَمۡلِكُ لَكَ مِنَ ٱللَّهِ مِن شَيۡءٖۖ رَّبَّنَا عَلَيۡكَ تَوَكَّلۡنَا وَإِلَيۡكَ أَنَبۡنَا وَإِلَيۡكَ ٱلۡمَصِيرُ} (4)

الأسوة : بضم الهمزة وكسرها : القدوة .

برَآءُ : جمع بريء يعني متبرئين منهم .

بعد أن بيّن للمؤمنين خطر موالاة الكفار ولو كانوا من أقربائهم وأولادهم ، جاء هنا يذكّرهم بما فعل جدُّهم إبراهيم ( فإن قريشَ والعرب عامة يعتقدون أن نسبهم متصلٌ بإبراهيم ) وكيف تبرأ هو والذين هاجروا معه من أهلِهم وقومهم ، وعادوهم ، وتركوا لهم الديار ، فهلاَّ تأسّيتم أيها المؤمنون بهذا النبي العظيم ! ، قد كانت لكم قدوة حسنةٌ تقتدون بها في أبيكم إبراهيمَ والذين معه ، حين قالوا لقومهم : تبرأْنا منكم ، ومن الآلهة التي تعبدونها من دوِن الله ، لا يجمعُنا بكم شيء ، كَفَرْنا بكم ، وظهر بيننا وبينكم العداوةُ والبغضاء التي لا تزول أبداً حتى تؤمنوا بالله وحده . . . فلا تجاملوهم أيها المسلمون ولا تُبدوا لهم الرأفةَ وتستغفروا لهم .

وأما قولُ إبراهيم لأبيه : { لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَآ أَمْلِكُ لَكَ مِنَ الله مِن شَيْءٍ } فإنما كان عن مَوْعِدَةٍ وعدها إياه ، فلما تبيّن له انه عدوٌ للهِ تبرّأ منه ، كما جاء في سورة التوبة الآية 114 : { وَمَا كَانَ استغفار إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَآ إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ للَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ } .

ثم بين الله كيف ترك إبراهيمُ والذين معه قومهم وأوطانهم والتجأوا إلى الله : { رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ المصير } .

 
معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{قَدۡ كَانَتۡ لَكُمۡ أُسۡوَةٌ حَسَنَةٞ فِيٓ إِبۡرَٰهِيمَ وَٱلَّذِينَ مَعَهُۥٓ إِذۡ قَالُواْ لِقَوۡمِهِمۡ إِنَّا بُرَءَـٰٓؤُاْ مِنكُمۡ وَمِمَّا تَعۡبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ كَفَرۡنَا بِكُمۡ وَبَدَا بَيۡنَنَا وَبَيۡنَكُمُ ٱلۡعَدَٰوَةُ وَٱلۡبَغۡضَآءُ أَبَدًا حَتَّىٰ تُؤۡمِنُواْ بِٱللَّهِ وَحۡدَهُۥٓ إِلَّا قَوۡلَ إِبۡرَٰهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسۡتَغۡفِرَنَّ لَكَ وَمَآ أَمۡلِكُ لَكَ مِنَ ٱللَّهِ مِن شَيۡءٖۖ رَّبَّنَا عَلَيۡكَ تَوَكَّلۡنَا وَإِلَيۡكَ أَنَبۡنَا وَإِلَيۡكَ ٱلۡمَصِيرُ} (4)

قوله تعالى : { قد كانت لكم أسوة } قدوة ، { حسنة في إبراهيم والذين معه } من أهل الإيمان { إذ قالوا لقومهم } من المشركين ، { إنا براء منكم } جمع بريء ، { ومما تعبدون من دون الله ، كفرنا بكم } جحدنا وأنكرنا دينكم ، { وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبداً حتى تؤمنوا بالله وحده } يأمر حاطباً والمؤمنين بالاقتداء بإبراهيم عليه الصلاة والسلام ، والذين معه من المؤمنين في التبرؤ من المشركين ، { إلا قول إبراهيم لأبيه لأستغفرن لك } أي : لكم أسوة حسنة في إبراهيم وأموره إلا في استغفاره لأبيه المشرك ، فإن إبراهيم عليه الصلاة والسلام كان قد قال لأبيه : لأستغفرن لك ، ثم تبرأ منه -على ما ذكرناه في سورة التوبة- { وما أملك لك من الله من شيء } يقول إبراهيم عليه السلام لأبيه : ما أغنى عنك ولا أدفع عنك عذاب الله إن عصيته وأشركت به ، { ربنا عليك توكلنا } ، يقوله إبراهيم ومن معه من المؤمنين ، { وإليك أنبنا وإليك المصير } .

 
الوجيز في تفسير الكتاب العزيز للواحدي - الواحدي [إخفاء]  
{قَدۡ كَانَتۡ لَكُمۡ أُسۡوَةٌ حَسَنَةٞ فِيٓ إِبۡرَٰهِيمَ وَٱلَّذِينَ مَعَهُۥٓ إِذۡ قَالُواْ لِقَوۡمِهِمۡ إِنَّا بُرَءَـٰٓؤُاْ مِنكُمۡ وَمِمَّا تَعۡبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ كَفَرۡنَا بِكُمۡ وَبَدَا بَيۡنَنَا وَبَيۡنَكُمُ ٱلۡعَدَٰوَةُ وَٱلۡبَغۡضَآءُ أَبَدًا حَتَّىٰ تُؤۡمِنُواْ بِٱللَّهِ وَحۡدَهُۥٓ إِلَّا قَوۡلَ إِبۡرَٰهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسۡتَغۡفِرَنَّ لَكَ وَمَآ أَمۡلِكُ لَكَ مِنَ ٱللَّهِ مِن شَيۡءٖۖ رَّبَّنَا عَلَيۡكَ تَوَكَّلۡنَا وَإِلَيۡكَ أَنَبۡنَا وَإِلَيۡكَ ٱلۡمَصِيرُ} (4)

ثم أمر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بالاقتداء بأصحاب ابراهيم عليه السلام فقال { قد كانت لكم أسوة حسنة } ائتمام واقتداء وطريقة حسنة { في إبراهيم والذين معه } من أصحابه اذ تبرؤوا من قومهم الكفار وعادوهم وقالوا لهم { كفرنا بكم } أي أنكرناكم وقطعنا محبتكم وقوله :{ إلا قول إبراهيم لأبيه } أي كانت لكم أسوة فيهم ما خلا هذا فانه لا يجوز الاستغفار للمشركين ثم 5 9 أخبر أنهم قالوا يعني قوم إبراهيم { ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير }

 
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي [إخفاء]  
{قَدۡ كَانَتۡ لَكُمۡ أُسۡوَةٌ حَسَنَةٞ فِيٓ إِبۡرَٰهِيمَ وَٱلَّذِينَ مَعَهُۥٓ إِذۡ قَالُواْ لِقَوۡمِهِمۡ إِنَّا بُرَءَـٰٓؤُاْ مِنكُمۡ وَمِمَّا تَعۡبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ كَفَرۡنَا بِكُمۡ وَبَدَا بَيۡنَنَا وَبَيۡنَكُمُ ٱلۡعَدَٰوَةُ وَٱلۡبَغۡضَآءُ أَبَدًا حَتَّىٰ تُؤۡمِنُواْ بِٱللَّهِ وَحۡدَهُۥٓ إِلَّا قَوۡلَ إِبۡرَٰهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسۡتَغۡفِرَنَّ لَكَ وَمَآ أَمۡلِكُ لَكَ مِنَ ٱللَّهِ مِن شَيۡءٖۖ رَّبَّنَا عَلَيۡكَ تَوَكَّلۡنَا وَإِلَيۡكَ أَنَبۡنَا وَإِلَيۡكَ ٱلۡمَصِيرُ} (4)

قوله تعالى : { قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم } لما نهى عز وجل عن مولاة الكفار ذكر قصة إبراهيم عليه السلام ، وأن من سيرته التبرؤ من الكفار ، أي فاقتدوا به وَأْتموا ، إلا في استغفاره لأبيه . والأسوة ما يتأسى به ، مثل القدوة والقدوة . ويقال : هو أسوتك ، أي مثلك وأنت مثله . وقرأ عاصم " أسوة " بضم الهمزة لغتان . { والذين معه } يعني أصحاب إبراهيم من المؤمنين . وقال ابن زيد : هم الأنبياء { إذ قالوا لقومهم } الكفار { إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله } أي الأصنام . وبرآء جمع بريء ، مثل شريك وشركاء ، وظريف وظرفاء . وقراءة العامة على وزن فعلاء . وقرأ عيسى بن عمر وابن أبي إسحاق " براء " بكسر الباء على وزن فعال ، مثل قصير وقصار ، وطويل وطوال ، وظريف وظراف . ويجوز ترك الهمزة حتى تقول : برا ، وتنون . وقرئ " براء " على الوصف بالمصدر . وقرئ " براء " على إبدال الضم من الكسر ، كرُخَال ورُبَاب{[14897]} . والآية نص في الأمر بالاقتداء بإبراهيم عليه السلام في فعله . وذلك يصحح أن شرع من قبلنا شرع لنا فيما أخبر الله ورسوله . { كفرنا بكم } أي بما آمنتم به من الأوثان . وقيل : أي بأفعالكم وكذبناها وأنكرنا أن تكونوا على حق . { وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا } أي هذا دأبنا معكم ما دمتم على كفركم { حتى تؤمنوا بالله وحده } فحينئذ تنقلب المعاداة موالاة ، { إلا قول إبراهيم لأبيه لأستغفرن لك } فلا تتأسوا به في الاستغفار فتستغفرون للمشركين ، فإنه كان عن موعدة منه له ، قاله قتادة ومجاهد وغيرهما . وقيل : معنى الاستثناء أن إبراهيم هجر قومه وباعدهم إلا في الاستغفار لأبيه ، ثم بين عذره في سورة " التوبة{[14898]} " . وفي هذا دلالة على تفضيل نبينا عليه الصلاة والسلام على سائر الأنبياء ؛ لأنا حين أمرنا بالاقتداء به أمرنا أمرا مطلقا في قوله تعالى : { وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا{[14899]} } [ الحشر : 7 ] وحين أمرنا بالاقتداء بإبراهيم عليه السلام استثنى بعض أفعاله . وقيل : هو استثناء منقطع ، أي لكن قول إبراهيم لأبيه لأستغفرن لك ، إنما جرى لأنه ظن أنه أسلم ، فلما بان له أنه لم يسلم تبرأ منه . وعلى هذا يجوز الاستغفار لمن يظن أنه أسلم ، وأنتم لم تجدوا مثل هذا الظن ، فلم توالوهم . { وما أملك لك من الله من شيء }هذا من قول إبراهيم عليه السلام لأبيه ، أي ما أدفع عنك من عذاب الله شيئا إن أشركت به . { ربنا عليك توكلنا } هذا من دعاء إبراهيم عليه السلام وأصحابه . وقيل : علم المؤمنين أن يقولوا هذا . أي تبرؤوا من الكفار وتوكلوا على الله وقولوا : { ربنا عليك توكلنا } أي اعتمدنا { وإليك أنبنا }أي رجعنا { وإليك المصير } لك الرجوع في الآخرة .


[14897]:رخال: جمع رخل، الأنثى من أولاد الضأن. والرباب: جمع الربى. الشاة التي وضعت حديثا. وقيل: إذا مات ولدها.
[14898]:راجع جـ 8 ص 274.
[14899]:راجع ص 17 من هذا الجزء.
 
التسهيل لعلوم التنزيل، لابن جزي - ابن جزي [إخفاء]  
{قَدۡ كَانَتۡ لَكُمۡ أُسۡوَةٌ حَسَنَةٞ فِيٓ إِبۡرَٰهِيمَ وَٱلَّذِينَ مَعَهُۥٓ إِذۡ قَالُواْ لِقَوۡمِهِمۡ إِنَّا بُرَءَـٰٓؤُاْ مِنكُمۡ وَمِمَّا تَعۡبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ كَفَرۡنَا بِكُمۡ وَبَدَا بَيۡنَنَا وَبَيۡنَكُمُ ٱلۡعَدَٰوَةُ وَٱلۡبَغۡضَآءُ أَبَدًا حَتَّىٰ تُؤۡمِنُواْ بِٱللَّهِ وَحۡدَهُۥٓ إِلَّا قَوۡلَ إِبۡرَٰهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسۡتَغۡفِرَنَّ لَكَ وَمَآ أَمۡلِكُ لَكَ مِنَ ٱللَّهِ مِن شَيۡءٖۖ رَّبَّنَا عَلَيۡكَ تَوَكَّلۡنَا وَإِلَيۡكَ أَنَبۡنَا وَإِلَيۡكَ ٱلۡمَصِيرُ} (4)

{ قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه } الأسوة هو الذي يقتدى به فأمر الله المسلمين أن يقتدوا بإبراهيم الخليل عليه السلام وبالذين معه في عداوة الكفار والتبرئ منهم ومعنى والذين معه من آمن به من الناس ، وقيل : الأنبياء الذين كانوا في عصره وقريبا من عصره ، ورجح ابن عطية هذا القول بما ورد في الحديث أن إبراهيم عليه السلام قال لزوجته : " ما على الأرض مؤمن بالله غيري وغيرك " .

{ برآء } جمع بريء .

{ كفرنا بكم } أي : كذبناكم في أقوالكم ، ويحتمل أن يكون عبارة عن إفراط البغض والمقاطعة لهم . { إلا قول إبراهيم لأبيه لأستغفرن لك } هذا استثناء من قوله : { أسوة حسنة } ، فالمعنى : اقتدوا بهم في عداوتهم للكفار ولا تقتدوا بهم في هذا ، لأن إبراهيم وعد أباه أن يستغفر له فلما تبين له أنه عدو لله وعد أباه أن يستغفر له .

{ ربنا عليك توكلنا } هذا من كلام سيدنا إبراهيم عليه السلام والذين معه وهو متصل بما قبل الاستثناء فهو من جملة ما أمروا أن يقتدوا به .

 
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي [إخفاء]  
{قَدۡ كَانَتۡ لَكُمۡ أُسۡوَةٌ حَسَنَةٞ فِيٓ إِبۡرَٰهِيمَ وَٱلَّذِينَ مَعَهُۥٓ إِذۡ قَالُواْ لِقَوۡمِهِمۡ إِنَّا بُرَءَـٰٓؤُاْ مِنكُمۡ وَمِمَّا تَعۡبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ كَفَرۡنَا بِكُمۡ وَبَدَا بَيۡنَنَا وَبَيۡنَكُمُ ٱلۡعَدَٰوَةُ وَٱلۡبَغۡضَآءُ أَبَدًا حَتَّىٰ تُؤۡمِنُواْ بِٱللَّهِ وَحۡدَهُۥٓ إِلَّا قَوۡلَ إِبۡرَٰهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسۡتَغۡفِرَنَّ لَكَ وَمَآ أَمۡلِكُ لَكَ مِنَ ٱللَّهِ مِن شَيۡءٖۖ رَّبَّنَا عَلَيۡكَ تَوَكَّلۡنَا وَإِلَيۡكَ أَنَبۡنَا وَإِلَيۡكَ ٱلۡمَصِيرُ} (4)

ولما أبلغ سبحانه في وعظهم في ذلك ، وكانت عادته التربية بالماضين ، كان موضع توقع ذلك فقال معبراً بأداة التوقع : { قد كانت } أي وجدت وجوداً تاماً ، وكان تأنيث الفعل إشارة إلى الرضا بها ولو كانت على أدنى الوجوه { لكم } أي أيها{[64470]} المؤمنون { أسوة } أي موضع اقتداء وتأسية وتسنن وتشرع وطريقة مرضية { حسنة } يرغب فيها { في إبراهيم } أي في قول أبي الأنبياء { والذين معه } أي ممن{[64471]} كانوا قبله من الأنبياء ، قال القشيري : وممن آمن به في زمانه كابن أخيه لوط عليهما الصلاة والسلام وهم قدوة أهل الجهاد والهجرة { إذ } أي حين { قالوا } وقد كان من آمن به أقل منكم وأضعف { لقومهم } الكفرة ، وقد كانوا{[64472]} أكثر من عدوكم وأقوى وكان لهم{[64473]} فيهم أرحام وقرابات ولهم فيهم رجاء بالقيام والمحاولات .

ولما كان ما ذكر من ضعفهم وقوة قومهم مبعداً لأن يبارزوهم ، أكدوا قولهم فقالوا : { إنا{[64474]} } أي من غير وقفة ولا شك { برءاء } أي متبرئون تبرئة عظيمة { منكم } وإن كنتم أقرب الناس إلينا ولا ناصر لنا منهم غيركم . ولما تبرؤوا منهم أتبعوه ما هو أعظم عندهم منهم وهو سبب العداوة فقالوا : { ومما تعبدون } أي توجدون عبادته في وقت من الأوقات الماضية المفيد{[64475]} التعبير عنها{[64476]} بالمضارع تصوير الحال أو{[64477]} الحاضرة أو الآتية كائناً من كان لا يخاف شيئاً من ذلك لأن إلهنا الذي قاطعنا كل شيء في الانقطاع إليه لا يقاويه شيء ، ولا تقدرون أنتم مع إشراككم به على البراءة منه .

ولما كانوا مشركين قالوا مستثنين ومبينين لسفول كل شيء عن متعالي مرتبة معبودهم : { من دون الله } أي الملك الأعظم{[64478]} الذي هو كاف لكل مسلم{[64479]} . ولما كانت البراءة على أنحاء كثيرة ، بينوا أنها براءة الدين الجامعة لكل براءة فقالوا : { كفرنا بكم } أي أوجدنا الستر لكل ما ينبغي ستره حال كوننا مكذبين بكل ما يكون من جهتكم من دين وغيره الذي يلزم منه الإيمان ، وهو إيقاع الأمان من التكذيب لمن يخبرنا بسبب كل ما يضاده مصدقين بذلك{[64480]} . ولما كان المؤمن على جبلة مضادة لجبلة الكافر ، عبر بما يفهم أن{[64481]} العداوة كانت موجودة{[64482]} ولكنها كانت مستورة ، فقال دالاً على قوتها بتذكير الفعل : { وبدا } أي ظهر ظهوراً عظيماً ، وعلى عظمتها بالدلالة بنزع الخافض على أنها شاحنة لجميع البينين فقال : { بيننا وبينكم } أي في جمع الحد{[64483]} الفاصل بين كل واحد منا وكل واحد منكم { العداوة } وهي المباينة في الأفعال بأن يعدو كل على{[64484]} الآخر ولا يكون ذلك{[64485]} إلا عندما يستخف{[64486]} الغيظ{[64487]} الإنسان لإرادة أن يشفي صدره من شدة ما حصل له من حرارة الخنق . فالعداوة بما{[64488]} تمتد فتكون مالئة لظرفها ، قال الشيخ سعد الدين التفتازاني في تلويحه{[64489]} على توضيح صدر الشريعة في أوائله في علاقات المجاز : الفعل المنسوب إلى ظرف الزمان بواسطة تقدير{[64490]} " في " دون ذكره يقتضي كون الظرف معياراً له {[64491]}غير زائد عليه مثل صمت الشهر ، يدل على صوم جميع أيامه بخلاف صمت في الشهر ، فإذا امتد الفعل الظرف ليكون معياراً{[64492]} له{[64493]} فيصح حمل اليوم{[64494]} - في نحو صرت يوم كذا{[64495]} - على حقيقته ، وهو ما يمتد من الطلوع إلى الغروب ، وإذا لم يمتد الفعل - يعني مثل وقوع الطلاق - لم يمتد الظرف ، لأن الممتد لا يكون معياراً لغير الممتد فحينئذ{[64496]} لا يصح حمل اليوم على النهار الممتد بل يجب أن يكون مجازاً{[64497]} عن جزء من الزمان الذي لا يعتبر في الغرف ممتداً ، وهو الآن سواء كان من النهار أو من الليل بدليل قوله تعالى :

( ومن يولهم يومئذ دبره }[ الأنفال : 16 ] فإن التولي عن الزحف حرام ليلاً كان أو نهاراً ولأن مطلق الآن جزء من الآن اليومي وهو جزء من اليوم ، فيكون مطلق الآن جزءاً من اليوم ، فتحقق العلاقة .

ولما كان ذلك قد يكون لغير البغض بل لتأديب ونحوه قالوا : { والبغضاء } أي وهي المباينة بالقلوب بالبغض العظيم . ولما كان ذلك قد يكون سريع الزوال قالوا : { أبداً } ولما كان ذلك مرئياً من صلاح الحال ، وكان قد يكون{[64498]} لحظ نفس بينوا غايته على وجه عرفت به علته{[64499]} بقولهم : { حتى تؤمنوا } أي توقعوا الأمان من التكذيب لمن أمركم بالإيمان وأخبركم عن الرحمان ، حال كونكم مصدقين ومعترفين { بالله } أي الملك الذي له الكمال كله . ولما كانوا يؤمنون به مع الإشراك قالوا : { وحده } أي تكونوا مكذبين بكل ما يعبد من دونه .

ولما حث سبحانه المخاطبين على التأسي بقول إبراهيم ومن معه في الوقت عليهم السلام استثنى منه فقال تأنيساً لمن نزلت القصة{[64500]} بسببه واستعطافاً له{[64501]} وهو حاطب ابن أبي بلتعة رضي الله عنه : { إلا قول إبراهيم } أي فلا تأسي لكم به { لأبيه } واعداً له قبل أن يبين له أنه ثابت العداوة لله تعالى لكونه مطبوعاً على قلبه ، فلا صلاح له ، يقال : إن أباه وعده أنه يؤمن فاستغفر له ، فلما تبين له ، أنه لا يؤمن تبرأ منه : { لأستغفرن } أي لأوجدن طلب الغفران من الله { لك } فإن هذا الاستغفار لكافر ، فلا ينبغي لهم أن يتأسوا به فيه مطلقاً غير ناظرين إلى علم أنه مطبوع على قلبه أو في حيز{[64502]} الرجوع .

ولما وعده بالاستغفار ترغيباً له ، رهبه لئلا يترك السعي في النجاة بما معناه أنه ليس في يدي غير الاستغفار ، فقال : { وما أملك لك } أي لكونك كافراً { من الله } أي لأنه الملك{[64503]} الأعلى المحيط بنعوت{[64504]} الجلال ، وأعرق في النفي بقوله : { من شيء } والاستثناء وقع على{[64505]} هذا القول بقيد الاجتماع ، ولا يلزم منه التعرض للأجزاء ، فلا تكون هذه الجملة على حيالها مستثناة لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما نادى :

" واصباحاه حين{[64506]} أنزل الله سبحانه وتعالى { وأنذر عشيرتك الأقربين } كان يقول لكل من سماه : لا أملك لك{[64507]} من الله شيئاً ، حتى قال في آخر ذلك : يا فاطمة بنت محمد ! سليني من مالي{[64508]} ما شئت لا أغن عنك من الله شيئاً " .

ولما حثهم على التأسي بقول الخلص ، وقدم منه{[64509]} المحافاة لأنها المقصودة ، واستثنى ما لا ينبغي التأسي فيه اعتراضاً به بين أجزاء مقالهم بياناً للاهتمام به للتنفير منه{[64510]} من قوله ، أتم ما يؤيسي{[64511]} فيه فقال مبيناً أنهم ما أقدموا على مجافاتهم{[64512]} بما قال إلا وقد قرروا جميع ما يقولونه ورضوا به دون موادتهم وانقطعوا إلى الله وحده انقطاعاً تاماً يفعل بهم ما يشاء من تسليطهم عليهم أو حمايتهم منهم ، لكنهم سألوا الحماية لا لذاتها ولا لأنفسهم بل لئلا يزيد ذلك{[64513]} أعداءهم ضلالاً{[64514]} { ربنا } أي أيها المحسن إلينا بتخليصك لنا من الهلاك باتباعهم { عليك } أي لا على غيرك { توكلنا } أي فعلنا في جميع{[64515]} أمورنا معك{[64516]} فعل من يحملها على قوى ليكفيه أمرها لأنا نعلم أنك تكفي إذا شئت كل ملم{[64517]} ، وأنه لا يذل من واليت ولا يعز من عاديت وقد عادينا{[64518]} فيك قوماً عتاة أقوياء ونحن ضعفاء ، ورضينا بكل ما يحصل لنا منهم غير أن عافيتك هي أوسع لنا .

ولما كان الذي ينبغي لكل أحد وإن كان محسناً أن يعد نفسه مقصراً شارداً عن ربه لأنه لعظم جلاله لا يقدر أحد أن يقدره حق قدره ، وأن يعزم على الاجتهاد في العبادة قالوا مخبرين بذلك عادين ذلك العزم رجوعاً : { وإليك } أي وحدك {[64519]}لا إلى غيرك{[64520]} { أنبنا } أي رجعنا بجميع ظواهرنا وبواطننا . ولما كان المعنى تعليلاً : فإنه منك المبدأ ، عطف عليه قوله : { وإليك } أي وحدك { المصير * } .


[64470]:- زيد من ظ و م.
[64471]:- زيد من ظ وم.
[64472]:- من ظ وم، وفي الأصل: كان.
[64473]:- من ظ وم، وفي الأصل: لكم.
[64474]:- ورد في الأصل بعد "لا شك" والترتيب من ظ وم.
[64475]:- من ظ وم، وفي الأصل: المفيدة.
[64476]:- زيد من ظ وم.
[64477]:- من ظ وم، وفي الأصل: و.
[64478]:- زيد في الأصل وظ: أي، ولم تكن الزيادة في م فحذفناها.
[64479]:- من ظ وم، وفي الأصل: منكم.
[64480]:- في م: بتلك المضاد.
[64481]:- زيد من ظ وم.
[64482]:- زيد من ظ وم.
[64483]:- من ظ، وفي الأصل وم: جد.
[64484]:- زيد من ظ وم.
[64485]:- زيد من ظ وم.
[64486]:- زيد من ظ وم.
[64487]:- من ظ وم، وفي الأصل: انضبط.
[64488]:- من ظ وم، وفي الأصل: بما.
[64489]:- ص" 219.
[64490]:- من ظ وم، وفي الأصل: تقديره.
[64491]:- سقط ما بين الرقمين من ظ.
[64492]:- سقط ما بين الرقمين من ظ.
[64493]:-من ظ وم، وفي الأصل: يوم.
[64494]:-زيد من ظ وم.
[64495]:- زيد في الأصل: أو، ولم تكن الزيادة في ظ وم فحذفناها.
[64496]:- من ظ وم، وفي الأصل: وحينئذ.
[64497]:- زيد من ظ وم.
[64498]:- من ظ وم، وفي الأصل: لا يكون.
[64499]:-من ظ وم، وفي الأصل: عليه.
[64500]:- في م: القضية.
[64501]:- زيد من ظ وم.
[64502]:- من ظ وم، وفي الأصل: عصير.
[64503]:- من ظ وم، وفي الأصل: المالك.
[64504]:- من ظ وم، وفي الأصل: ثبوت.
[64505]:- زيد من م.
[64506]:- من ظ وم، وفي الأصل: لما.
[64507]:- سقط من ظ.
[64508]:-من ظ وم، وفي الأصل: مالك.
[64509]:- زيد من ظ وم.
[64510]:- من ظ وم، وفي الأصل: به.
[64511]:- زيد في الأصل: به، ولم تكن الزيادة في ظ وم فحذفناها.
[64512]:- من ظ وم، وفي الأصل: محافهم.
[64513]:- زيد من ظ وم.
[64514]:- من ظ وم، وفي الأصل: هلاكا.
[64515]:- من ظ وم، وفي الأصل: الأمور مع.
[64516]:- من ظ وم، وفي الأصل: الأمور مع.
[64517]:- من ظ وم، وفي الأصل: مسلم.
[64518]:- من ظ وم، وفي الأصل: عاديناك.
[64519]:- سقط ما بين الرقمين من ظ وم.
[64520]:- سقط ما بين الرقمين من ظ وم.