ثم يتابع الفرية وما يصوغونه حولها من جدل واعتذار :
( وقالوا : لو شاء الرحمن ما عبدناهم . ما لهم بذلك من علم . إن هم إلا يخرصون ) . .
إنهم يحاولون التهرب حين تحاصرهم الحجج ، وتتهافت بين أيديهم الأسطورة . فيحيلون على مشيئة الله ، يزعمون أن الله راض عن عبادتهم للملائكة ؛ ولو لم يكن راضيا ما مكنهم من عبادتهم ، ولمنعهم من ذلك منعاً !
وهذا القول احتيال على الحقيقة . فإن كل شيء يقع في هذا الوجود إنما يقع وفق مشيئة الله . هذا حق . ولكن من مشيئة الله أن جعل للإنسان قدرة على اختيار الهدى أو اختيار الضلال . وكلفه اختيار الهدى ورضيه له ، ولم يرض له الكفر والضلال . وإن كانت مشيئته أن يخلقه قابلاً للهدى أو الضلال .
وهم حين يحيلون على مشيئة الله إنما يخبطون خبطاً ؛ فهم لا يوقنون أن الله أراد لهم أن يعبدوا الملائكة - ومن أين يأتيهم اليقين ? - ( ما لهم بذلك من علم إن هم إلا يخرصون ) . . ويتبعون الأوهام والظنون .
{ أم آتيناهم كتابا من قبله } : أي أم أنزلنا عليهم كتابا قبل القرآن .
وقوله تعالى : { وقالوا لو شاء الرحمان ما عبدناهم } . أي قال أولئك المشركون المفترون لمن أنكر عليهم عبادة الملائكة وغيرها من الأصنام قالوا : لو شاء الرحمان منا عدم عبادتهم ما عبدناهم .
قال تعالى في الرد عليهم { ما لهم بذلك من علم } أي ليس لهم أي علم برضا الله تعالى بعبادتهم لهم ، ما هم في قولهم ذلك إلا يخرصون أي يقولون بالخرص والكذب إذ العلم يأتي من طريق الكتاب أو النبي ولا كتاب عندهم ولا نبي فيهم قال بقولتهم ، ولذا قال تعالى منكراً عليهم قولتهم الفاجرة { أم آتيناهم كتابا فهم به مستمسكون } ؟ .
- حرمة القول على الله بدون علم فلا يحل أن يُنسب إلى الله تعالى شيء لم ينسبه هو تعالى لنفسه .
وقوله تعالى : { وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ } فاحتجوا على عبادتهم الملائكة بالمشيئة ، وهي حجة لم يزل المشركون يطرقونها ، وهي حجة باطلة في نفسها ، عقلا وشرعا . فكل عاقل لا يقبل الاحتجاج بالقدر ، ولو سلكه في حالة من أحواله لم يثبت عليها قدمه .
وأما شرعا ، فإن اللّه تعالى أبطل الاحتجاج به ، ولم يذكره عن غير المشركين به المكذبين لرسله ، فإن اللّه تعالى قد أقام الحجة على العباد ، فلم يبق لأحد عليه حجة أصلا ، ولهذا قال هنا : { مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ } أي : يتخرصون تخرصا لا دليل عليه ، ويتخبطون خبط عشواء .
ولما ذكر أنهم يسألون بطريق الأولى عن العبادة ، نبه على أنهم عبدوهم مع ادعاء الأنوثة فيهم ، فقال معجباً منهم في ذلك وفي جعل قولهم حجة دالة على صحة مذهبهم وهو من أوهى الشبه : { وقالوا } أي بعد عبادتهم لهم ونهيهم عن عبادة غير الله : { لو شاء الرحمن } أي الذي له عموم الرحمة { ما عبدناهم } لأن عموم الرحمة يمنع الإقرار على ما لا ينبغي ولكنه لم يشأ عدم عبادتنا لهم فعبدناهم طوع مشيئته ، فعبادتنا لهم حق ، ولولا أنها حق يرضاه لنا لعجل لنا العقوبة .
ولما كان كأنه قيل : بماذا يجابون عن هذا ، قال منبهاً على جوابهم بقوله دالاً على أن أصول الدين لا يتكلم فيها إلا بقاطع : { ما لهم بذلك } أي بهذا المعنى البعيد عن الصواب الذي قصدوا جعله دليلاً على حقية عبادتهم لهم وهو أنه سبحانه لا يشاء إلا ما هو حق ويرضاه ويأمر به ، ومن أن الملائكة إناث ، وأكد الاستغراق بقوله : { من علم } أي لأنه لو لزم هذا لكان وضعه بعموم الرحمة حينئذ اضطرارياً لا اختيارياً فيؤدي إلى نقص لا إلى كمال ، ولكان أيضاً ذلك يؤدي إلى إيجاب أن يكون الناس كلهم مرضياً عنهم لكونهم على حق ، وذلك مؤد بلا ريب إلى كون النقيضين معاً حقاً ، وهو بديهي الاستحالة .
ولما كان العلم قد ينتفي والمعلوم ثابت في نفسه قال نافياً لذلك : { إن هم } أي ما هم { إلا يخرصون } أي يكذبون في هذه النتيجة التي زعموا أنها دلتهم على رضى الله سبحانه لكفرهم فإنها مبنية على أنه سبحانه لا يشاء إلا ما هو حق ، والذي جرأهم على ذلك أنهم يجددون على الدوام القول بغير تثبت ولا تحر ، فكان أكثر قولهم كذباً ، فصاروا لذلك يجترئون على تعمد القول للظن الذي لا يأمن صاحبه من الوقوع في صريح ، وسيأتي تمام إبطال هذه الشبهة بقوله تعالى { قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين } وأن ذلك هو المراد لا ما طال الخبط فيه لإهمال في السوابق واللواحق الموجبة لسوق المقال ، مطابقاً لمقتضى الحال ، وقد جهلوا في هذا الكلام عدة جهالات : ادعاء الولدية للغني المطلق ، وكون الولد أدنى الصنفين ، وعبادتهم لهم مع أنفسهم منهم بغير دليل ، واحتياجهم على صحة فعلهم بتقدير علم على ذلك وهو قد نهاهم عنه بلسان كل رسول ، وظنهم أنه لا يشاء إلا ما هو الحق المؤدي إلى الجمع بين النقيضين إذ لا ريب فيه ولا خفاء به .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.