( فقضاهن سبع سماوات في يومين ) . . ( وأوحى في كل سماء أمرها ) . .
واليومان قد يكونان هما اللذان تكونت فيهما النجوم من السدم . أو تم فيهما التكوين كما يعلمه الله . والوحي بالأمر في كل سماء يشير إلى إطلاق النواميس العاملة فيها ، على هدى من الله وتوجيه ؛ أما ما هي السماء المقصودة فلا نملك تحديداً . فقد تكون درجة البعد سماء . وقد تكون المجرة الواحدة سماء . وقد تكون المجرات التي على أبعاد متفاوتة سماوات . . وقد يكون غير ذلك . مما تحتمله لفظه سماء وهو كثير .
( وزينا السماء الدنيا بمصابيح وحفظاً ) . .
والسماء الدنيا هي كذلك ليس لها مدلول واحد محدد . فقد تكون هي أقرب المجرات إلينا وهي المعروفة بسكة التبان والتي يبلغ قطرها مائة ألف مليون سنة ضوئية ! وقد يكون غيرها مما ينطبق عليه لفظ سماء . وفيه النجوم والكواكب المنيرة لنا كالمصابيح .
( وحفظاً ) . . من الشياطين . . كما يدل على هذا ما ورد في المواضع الأخرى من القرآن . . ولا نملك أن نقول عن الشياطين شيئاً مفصلاً . أكثر من الإشارات السريعة في القرآن . فحسبنا هذا . .
( ذلك تقدير العزيز العليم ) . .
وهل يقدر هذا كله ? ويمسك الوجود كله ، ويدبر الوجود كله . . إلا العزيز القوي القادر ? وإلا العليم الخبير بالموارد والمصادر ?
بمصابيح : بكواكب ونجوم كما نراها .
وحفظا : حفظناها حفظا من الآفات
والمراد هنا من هذا التعبير تصويرُ قدرته تعالى فيهما وامتثالهما بالطاعة لأمره . فخلقَهن سبع سموات في يومين من أيامه ، وأوحى في كل سماءٍ أمرها وما أُعدّت له واقتضته حكمته ، وزين السماء الدنيا التي نراها بالنجوم المنيرة كالمصابيح في أقرب المجرّات إلينا التي نعيش على أطرافها ، وهي المعروفة بدرْب التبّانة ، والتي يقدَّر قطرها بنحو مئة ألف مليون سنة ضوئية . وجعل لهذه الأرض غلافاً جوياً يحفظها من كل سوء .
{ ذَلِكَ تَقْدِيرُ العزيز العليم } الذي يمسك هذا الكون ، ويدبر الوجود كله بقدرته وحكمته .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{فقضاهن سبع سماوات}: فخلق السماوات السبع {في يومين}...
{وأوحى}: وأمر {في كل سماء أمرها} الذي أراده.
{وزينا السماء الدنيا}: لأنها أدنى السماوات من الأرض، {بمصابيح} يعني الكواكب.
{وحفظا} بالكواكب، يعني ما يرمي الشياطين بالشهاب؛ لئلا يستمعوا إلى السماء.
{ذلك} الذي ذكر من صنعه في هذه الآية، {تقدير العزيز} في ملكه، {العليم} بخلقه.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: ففرغ من خلقهن سبع سموات في يومين...
وقوله:"وأوْحَى فِي كُلّ سَماءٍ أمْرَها" يقول: وألقى في كل سماء من السموات السبع ما أراد من الخلق...
وقوله: "وَزَيّنا السّماءَ الدّنْيا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظا "يقول تعالى ذكره: وزيّنا السماء الدنيا إليكم أيها الناس بالكواكب وهي المصابيح...
وقوله: "ذلكَ تَقْدِيرُ العَزِيزِ العَلِيمِ" يقول تعالى ذكره: هذا الذي وصفت لكم من خلقي السماء والأرض وما فيهما، وتزييني السماء الدنيا بزينة الكواكب، على ما بينت تقدير العزيز في نقمته من أعدائه، العليم بسرائر عباده وعلانيتهم، وتدبيرهم على ما فيه صلاحهم.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
... الأعجوبة في خلق السماوات ورفعها أعظم وأكبر من خلق الأرض، وقد ذكر في خلق السماوات من الوقت مثل وقت الذي ذكر في الأرض وهو يومان؛ ليُعلم أن الوقت الذي ذكر في ذلك؛ ليس لما يتعذّر عليه ذلك، ويصعب بدون ذلك الوقت، ولكن لحكمة جعلها في ذلك، لم يطلع الخلق على ذلك.
{وَحِفْظًا} يحتمل وجهين:.. الثاني: حفظناها على ما هي حتى لا تسقط على الخلق كقوله: {إن الله يُمسك السماوات والأرض أن تزولا} [فاطر: 41]
يحتمل قوله: {ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} أي تقدير من له العز الذاتي والعلم الأزليّ لا أنه قدّر ذلك وصنع ليستفيد بذلك العزّ والعلم؛ إذ هو عزيز بذاته وعليم بذاته.
{فقضاهن سبع سموات في يومين} وقضاء الشيء إنما هو إتمامه والفراغ منه، والضمير في قوله: {فقضاهن} يجوز أن يرجع إلى السماء على المعنى كما قال: {طائعين}، ويجوز أن يكون ضميرا مبهما مفسرا بسبع سموات.
{وأوحي في كل سماء أمرها} أي وكان قد خص كل سماء بالأمر المضاف إليها كقوله {وكم من قرية أهلكناها فجاءها بأسنا} والمعنى فكان قد جاءها، هذا ما نقله الواحدي وهو عندي ضعيف لأن تقدير الكلام ثم كان قد استوى إلى السماء وكان قد أوحى، وهذا جمع بين الضدين لأن كلمة ثم تقتضي التأخير وكلمة كان تقتضي التقديم فالجمع بينهما تفيد التناقض، والمختار عند أي يقال خلق السموات مقدم على خلق الأرض، بقي أن يقال كيف تأويل هذه الآية؟
فنقول: الخلق ليس عبارة عن التكوين والإيجاد، والدليل عليه قوله {إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال كن فيكون} فلو كان الخلق عبارة عن الإيجاد والتكوين لكان تقدير الآية أوجده من تراب ثم قال له كن فيكون وهذا محال؛ لأنه يلزم أنه تعالى قد قال للشيء الذي وجد كن ثم إنه يكون وهذا محال، فثبت أن الخلق ليس عبارة عن التكوين والإيجاد، بل هو عبارة عن التقدير، والتقدير حق الله تعالى هو حكمه بأنه سيوجده وقضاؤه بذلك، وإذا ثبت هذا فنقول قوله: {خلق الأرض في يومين} معناه أنه قضى بحدوثه في يومين، وقضاء الله بأنه سيحدث كذا في مدة كذا، لا يقتضي حدوث ذلك الشيء في الحال، فقضاء الله تعالى بحدوث الأرض في يومين قد تقدم على إحداث السماء، ولا يلزم منه تقدم إحداث الأرض على إحداث السماء، وحينئذ يزول السؤال، فهذا ما وصلت إليه في هذا الموضع المشكل.
{فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين}.
واعلم أن ظاهر هذا الكلام يقتضي أن الله تعالى أمر السماء والأرض بالإتيان فأطاعا وامتثلا وعند هذا حصل في الآية قولان:
القول الأول: أن تجري هذه الآية على ظاهرها فنقول: إن الله تعالى أمرهما بالإتيان فأطاعاه قال القائلون بهذا القول وهذا غير مستبعد، ألا ترى أنه تعالى أمر الجبال أن تنطق مع داود عليه السلام فقال: {يا جبال أوبي معه والطير}، ويتأكد هذا الاحتمال بوجوه:
الأول: أن الأصل حمل اللفظ على ظاهره إلا إذا منع منه مانع، وهاهنا لا مانع، فوجب إجراؤه على ظاهره.
الثاني: أنه تعالى أخبر عنهما، فقال: {قالتا أتينا طائعين} وهذا الجمع جمع ما يعقل ويعلم.
الثالث: قوله تعالى: {إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها} وهذا يدل على كونها عارفة بالله، مخصوصة بتوجيه تكاليف الله عليها.
القول الثاني: {قال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها} ليس المراد منه توجيه الأمر والتكليف على السموات والأرض بل المراد منه أنه أراد تكوينهما فلم يمتنعا عليه ووجدتا كما أرادهما، واعلم أن هذا عدول عن الظاهر، وإنما جاز العدول عن الظاهر إذ قام دليل على أنه لا يمكن إجراؤه على ظاهره وقد بينا أن قوله {ائتيا طوعا أو كرها} إنما حصل قبل وجودهما، وإذا كان الأمر كذلك امتنع حمل قوله {ائتيا طوعا أو كرها} على الأمر والتكليف، فوجب حمله على ما ذكرنا.
{وزينا السماء الدنيا بمصابيح} وهي النيرات التي خلقها في السموات، وخص كل واحد بضوء معين وسر معين وطبيعة معينة لا يعرفها إلا الله.
{ذلك تقدير العزيز العليم} والعزيز إشارة إلى كمال القدرة، والعليم إشارة إلى كمال العلم، وما أحسن هذه الخاتمة، لأن تلك الأعمال لا تمكن إلا بقدرة كاملة وعلم محيط.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
(فقضاهن سبع سماوات في يومين).. (وأوحى في كل سماء أمرها)..
واليومان قد يكونان هما اللذان تكونت فيهما النجوم من السدم. أو تم فيهما التكوين كما يعلمه الله. والوحي بالأمر في كل سماء يشير إلى إطلاق النواميس العاملة فيها، على هدى من الله وتوجيه؛ أما ما هي السماء المقصودة فلا نملك تحديداً. فقد تكون درجة البعد سماء. وقد تكون المجرة الواحدة سماء. وقد تكون المجرات التي على أبعاد متفاوتة سماوات.. وقد يكون غير ذلك. مما تحتمله لفظه سماء وهو كثير.
(وزينا السماء الدنيا بمصابيح وحفظاً)..
والسماء الدنيا هي كذلك ليس لها مدلول واحد محدد. فقد تكون هي أقرب المجرات إلينا وهي المعروفة بسكة التبان والتي يبلغ قطرها مائة ألف مليون سنة ضوئية! وقد يكون غيرها مما ينطبق عليه لفظ سماء. وفيه النجوم والكواكب المنيرة لنا كالمصابيح.
(وحفظاً).. من الشياطين.. كما يدل على هذا ما ورد في المواضع الأخرى من القرآن.. ولا نملك أن نقول عن الشياطين شيئاً مفصلاً. أكثر من الإشارات السريعة في القرآن. فحسبنا هذا..
وهل يقدر هذا كله؟ ويمسك الوجود كله، ويدبر الوجود كله.. إلا العزيز القوي القادر؟ وإلا العليم الخبير بالموارد والمصادر؟
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
{فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سماوات فِي يَوْمَيْنِ}.
القضاء: الإِيجاد الإِبداعي لأن فيه معنى الإِتمام والحكم، فهو يقتضي الابتكار والإِسراع.
وضَمير {فقضاهن} عائد إلى السماوات على اعتبار تأنيث لفظها، وهذا تفنن.
وانتصب {سَبْعَ سموات} على أنه حال من ضمير « قضاهن» أو عطف بيان له، وجُوّز أن يكون مفعولاً ثانياً ل « قضاهن» لتضمين « قضاهن» معنى صيرهن، وهذا كقوله في سورة البقرة (29) {فسواهن سبع سماوات}.
{وأوحى} عطف على {فقضاهن، والوحي: الكلام الخفي، ويطلق الوحي على حصول المعرفة في نفس من يراد حصولها عنده دون قولٍ، ثم يتوسع فيه فيطلق على إلهام الله تعالى المخلوقات لما تتطلبه مما فيه صلاحها كقوله: {وأوحى ربك إلى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتاً} [النحل: 68] أي جَبَلها على إدراك ذلك وتطلّبه، ويطلق على تسخير الله تعالى بعض مخلوقاته لقبول أثر قدرته كقوله: {إذا زلزلت الأرض زلزالها} [الزلزلة: 1] إلى قوله: {بأن ربك أوحى لها} [الزلزلة: 5].
والوحي في السماء يقع على جميع هذه المعاني من استعمال اللفظ في حقيقته ومجازاته، فهو أوحى في السماوات بتقادير نُظُم جاذبيتها، وتقادير سير كواكبها، وأوحى فيها بخلق الملائكة فيها، وأوحى إلى الملائكة بما يتلقونه من الأمر بما يعملون، قال تعالى: {وهم بأمره يعملون} [الأنبياء: 27].
ووقع الالتفات من طريق الغيبة إلى طريق التكلم في قوله: {وَزَيَّنَا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بمصابيح} تجديداً لنشاط السامعين لطول استعمال طريق الغيبة ابتداءً من قوله: {بالَّذِي خَلَقَ الأرْضَ في يَوْمَينِ} [فصلت: 9] مع إظهار العناية بتخصيص هذا الصنع الذي ينفع الناس ديناً ودُنيا وهو خلق النجوم الدقيقة والشهب بتخصيصه بالذكر من بين عموم {وأوحى فِي كُلِّ سَمَآءٍ أمْرَهَا}، فما السماء الدنيا إلا من جملة السماوات، وما النجوم والشُّهُب إلا من جملة أمرها.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
(أتينا طائعين) تشير إلى أنّ المواد التي تتشكل منها السماء والأرض من ناحية التكوين والخلقة، كانت مستسلمة تماماً لإرادة الله وأمره، فتقبلت شكلها المطلوب ولم تعترض أمام هذا الأمر الإلهي مطلقاً.
قوله تعالى : " فقضاهن سبع سماوات في يومين " أي أكملهن وفرغ منهن . وقيل : أحكمهن كما قال{[13420]} :
وعليهمَا مَسْرُودَتَانِ قَضَاهُمَا *** داودُ أو صَنَعُ السوابغِ تُبَّعُ
" في يومين " سوى الأربعة الأيام التي خلق فيها الأرض ، فوقع خلق السموات والأرض في ستة أيام ، كما قال تعالى : " خلق السماوات والأرض في ستة أيام " [ الأعراف : 54 ] على ما تقدم في " الأعراف " {[13421]} بيانه . قال مجاهد : ويوم من الستة الأيام كألف سنة مما تعدون . وعن عبد الله بن سلام قال : خلق الله الأرض في يومين ، وقدر فيها أقواتها في يومين ، وخلق السموات في يومين ، خلق الأرض في يوم الأحد والاثنين ، وقدر فيها أقواتها يوم الثلاثاء ويوم الأربعاء ، وخلق السموات في يوم الخميس ويوم الجمعة ، وآخر ساعة في يوم الجمعة خلق الله آدم في عجل ، وهي التي تقوم فيها الساعة ، وما خلق الله من دابة إلا وهي تفزع من يوم الجمعة إلا الإنس والجن . على هذا أهل التفسير ، إلا ما رواه مسلم من حديث أبي هريرة قال : أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي ، فقال : ( خلق الله التربة يوم السبت . . . ) الحديث ، وقد تكلمنا على إسناده في أول سورة ( الأنعام ){[13422]} . " وأوحى في كل سماء أمرها " قال قتادة والسدي : خلق فيها شمسها وقمرها ونجومها وأفلاكها ، وخلق في كل سماء خلقها من الملائكة والخلق الذي فيها من البحار وجبال البرد والثلوج . وهو قول ابن عباس . قال : ولله في كل سماء بيت تحج إليه وتطوف به الملائكة بحذاء الكعبة ، والذي في السماء الدنيا هو البيت المعمور . وقيل : أوحى الله في كل سماء ، أي أوحى فيها ما أراده وما أمر به فيها . والإيحاء قد يكون أمرا ؛ لقوله : " بأن ربك أوحى لها " [ الزلزلة : 5 ] وقوله : " وإذ أوحيت إلى الحواريين " [ المائدة : 111 ] أي أمرتهم وهو أمر تكوين .
قوله تعالى : " وزينا السماء الدنيا بمصابيح " أي بكواكب تضيء وقيل : إن في كل سماء كواكب تضيء . وقيل : بل الكواكب مختصة بالسماء الدنيا . " وحفظا " أي وحفظناها حفظا ، أي من الشياطين الذين يسترقون السمع . وهذا الحفظ بالكواكب التي ترجم بها الشياطين على ما تقدم في " الحجر " {[13423]} بيانه . وظاهر هذه الآية يدل على أن الأرض خلقت قبل السماء . وقال في آية أخرى : " أم السماء بناها " [ النازعات : 27 ] ثم قال : " والأرض بعد ذلك دحاها " [ النازعات : 30 ] وهذا يدل على خلق السماء أولا . وقال قوم : خلقت الأرض قبل السماء ، فأما قوله : " والأرض بعد ذلك دحاها " [ النازعات : 30 ] فالدحو غير الخلق ، فالله خلق الأرض ثم خلق السموات ، ثم دحا الأرض أي مدها وبسطها ، قاله ابن عباس . وقد مضى هذا المعنى مجودا في " البقرة " {[13424]} والحمد لله . " ذلك تقدير العزيز العليم " .
{ فقضاهن سبع سموات } أي : صنعهن والضمير للسموات السبع وانتصابها على التمييز تفسيرا للضمير وأعاد عليها ضمير الجماعة المؤنثة لأنها لا تعقل فهو كقولك : الجذوع انكسرت وجمعهما جمع المفكر العاقل في قوله : { طائعين } لأنه وصفهما بالطوع وهو فعل العقلاء فعاملهما معاملتهم فهو كقولك : { رأيتهم لي ساجدين } [ يوسف : 4 ] ، وأعاد ضمير التثنية في قوله : { قالتا أتينا } لأنه جعل الأرض فرقة والسماء أخرى .
{ وأوحى في كل سماء أمرها } أي : أوحى إلى سكانها من الملائكة وإليها نفسها ما شاء من الأمور التي بها قوامها وصلاحها وأضاف الأمر إليها لأنه فيها .
{ وزينا السماء الدنيا بمصابيح } يعني : الشمس والقمر والنجوم وهي زينة للسماء الدنيا سواء كانت فيها أو فيما فوقها من السموات .
{ وحفظا } تقديره وحفظناها حفظا ويجوز أن يكون مفعولا من أجله على المعنى كأنه قال : وخلقنا المصابيح زينة وحفظا .
{ فقضاهن } أي خلقهن وصنعهن حال كونهن معدودات { سبع سماوات } صنعاً نافذاً هو كالقضاء لا تخلف فيه { في يومين } أي الخميس والجمعة إذا حسب مقدار ما يخصهن من التكوين في الستة الأيام التي كان فيها جميع الخافقين ، وما بينهما كان بمقدار ما خص واحداً من الأرض ومن أقواتها لا يزيد على مدة منهما ولا ينقص ، فيكون الذي خصهما ثلث المجموع ، قال ابن جرير : وإنما سمي يوم الجمعة لأن الله تعالى جمع فيه خلق السماوات والأرض . يعني فرغ من ذلك وأتمه { وأوحى } أي ألقى بطريق خفي وحكم مبتوت قوي { في كل سماء أمرها } أي الأمر الذي دبرها ودبر منافعها به على نظام محكم لا يختل ، وزمام مبرم لا ينحل .
ولما عم ، خص ما للتي تلينا إشارة إلى تشريفنا ، فقال صارفاً القول إلى مظهر العظمة تنبيهاً على ما في هذه الآية من العظم : { وزينّا } أي بما لنا من العظمة { السماء الدنيا } أي القربى إليكم لأجلكم { بمصابيح } من زواهر النجوم ، وشفوفها عنها لا ينافي أن تكون في غيرها مما هو أعلى منها ، ودل السياق على أن المراد : زينة { و } حفظناها بها { حفظاً } من الشياطين ، فالآية من الاحتباك : حذف فعل الحفظ بدلالة المصدر ، ومصدر الزينة بما دل عليه من فعلها .
ولما كان هذا أمراً باهراً ، نبه على عظمته بقوله صارفاً الخطاب إلى صفتي العز والعلم إعلاماً بأنهما أساس العظمة ومدارها : { ذلك } أي الأمر الرفيع والشأن البديع { تقدير العزيز } الذي لا يغلبه شيء وهو يغلب كل شيء { العليم * } المحيط علماً بكل شيء وكما قدر سبحانه ذلك بعزته وعلمه قضى أنه لا يفيد العز الدائم إلا ما شرعه من العلم ، وفي ختمه بالوصفين بشارة للأمة التي خوطبت بهما أنه يوتيها من عزه وعلمه لا سيما بالهبة وما شاكلها من الطبائع وغيرها ما لم يؤت أمة من الأمم قبلها ، وسر خلقه سبحانه العالم في مدة ولم يكن قي لمحة وجعلها ستة لا أقل ولا أكثر أنه لو خلقه في لمحة لكان ذلك شبهة لمن يقول : إنه فاعل بالذات لا بالاختيار ، فاقتضى الحال عدداً ، ثم اقتضى الحال أن يكون ستة لأنها أول عدد يدل على الكمال لأنها عدد تام كسورها لا تزيد عنها ولا تنقص ، فآذن ذلك بأن للفاعل نعوت الكمال وأوصاف التمام والتعال ، ولم يخلقه فيما دون ذلك من العدد لأنه ناقص ، وخلق الأرض في يومين لأن الاثنين عدد يدل على الفردانية فهو قائد للعبيد إلى التوحد ، وجعل اليومين مكررين باعتبار الذات والمنافع إيذاناً بما يقع فيها من المعصية بالشرك الذي هو تثنية وإفك ، ولم يكرر في السماء لأن آياتها أدل على التوحيد ولم يحصل من أهلها ما يدل على الوعيد ، وليكون إيجادها في أقل من مدة الأرض - مع أنها أكبر جرماً وأعجب صنعاً وأتقن جسماً - أدل على الفعل بالاختيار بعجائب الحكم وغرائب الأسرار الكبار .