ثم يلمس قلوبهم لمسة أخرى تعود بهم إلى مشهد البأس والفزع من الخسف والحاصب ، بعد أن جال بهم هذه الجولة مع الطير السابح الآمن . فيردد قلوبهم بين شتى اللمسات عودا وبدءا كما يعلم الله من أثر هذا الترداد في قلوب العباد :
( أم من هذا الذي هو جند لكم ينصركم من دون الرحمن ? إن الكافرون إلا في غرور ) . .
وقد خوفهم الخسف وخوفهم الحاصب ، وذكرهم مصائر الغابرين الذين أنكر الله عليهم فأصابهم التدمير . فهو يعود ليسألهم : من هو هذا الذي ينصرهم ويحميهم من الله ، غير الله ? من هو هذا الذي يدفع عنهم بأس الرحمن إلا الرحمن ? ( إن الكافرون إلا في غرور ) . . غرور يهيئ لهم أنهم في أمن وفي حماية وفي اطمئنان ، وهم يتعرضون لغضب الرحمن وبأس الرحمن ، بلا شفاعة لهم من إيمان ولا عمل يستنزل رحمة الرحمن .
في غرور : في خداع يخدعون أنفسهم .
بعد أن بين الله للناس عجائب قدرته فيما يشاهدونه من أحوال الطير وخلقه ، وخوّفهم من خسف الأرض بهم ، وإرسال الحاصب عليهم بالعذاب ، سأل الجاحدين المعاندين بقصد التوبيخ والتقريع : من الذي يعينكم وينصركم ، ويدفع عنكم العذاب إذا نزل بكم ؟ هل هناك غير الرحمن ؟ والتعبيرُ بالرحمن ، يدل على أن الله رؤوف بعباده رحيم .
{ إِنِ الكافرون إِلاَّ فِي غُرُورٍ } وظنٍّ كاذبٍ يخدعون به أنفسهم .
{ 20 - 21 } { أَمْ مَنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ * أَمْ مَنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ }
يقول تعالى للعتاة النافرين عن أمره ، المعرضين عن الحق : { أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ } أي : ينصركم إذا أراد بكم الرحمن سوءًا ، فيدفعه عنكم ؟ أي : من الذي ينصركم على أعدائكم غير الرحمن ؟ فإنه تعالى هو الناصر المعز المذل ، وغيره من الخلق ، لو اجتمعوا على نصر عبد ، لم ينفعوه مثقال ذرة ، على أي عدو كان ، فاستمرار الكافرين على كفرهم ، بعد أن علموا أنه لا ينصرهم أحد من دون الرحمن ، غرور وسفه .
قوله تعالى : " أمن هذا الذي هو جند لكم " قال ابن عباس : حزب ومنعة لكم . " ينصركم من دون الرحمن " فيدفع عنكم ما أراد بكم إن عصيتموه . ولفظ الجند يوحد ؛ ولهذا قال : " هذا الذي هو جند لكم " وهو استفهام إنكار ، أي لا جند لكم يدفع عنكم عذاب الله " من دون الرحمن " أي من سوى الرحمن . " إن الكافرون إلا في غرور " من الشياطين ، تغرهم بأن لا عذاب ولا حساب .
ولما كان التقدير تقريراً لذلك : فمن يدبر مصالحكم ظاهراً وباطناً ، وفعل هذه الأنواع من العذاب بالمكذبين من قبلكم ، عطف عليه قوله عائداً إلى الخطاب لأنه {[67011]}أقعد في التبكيت{[67012]} والتوبيخ ، وأدل على أن المخاطب ليس بأهل لأن يهاب ، مقرراً لأنه مختص بالملك : { أمن } ونبه على أن المدبر للأشياء لا بد أن يكون في غاية القرب والشهادة لها ، ليكون بصيراً برعيها ، ويكون مع مزيد قربه ، عالي الرتبة بحيث يشار إليه ، فقال مقرراً لعجز العباد : { هذا } بإشارة الحاضر { الذي } وأبرز العائد ، لأنه لا بد من إبرازه مع الاسم بعدم صلاحه لتحمل الضمير ، فقال : { هو جند } أي عسكر وعون ، وصرف القول عن الغيبة إلى الخطاب ، لأنه أبلغ في التقريع ، فقال : { لكم ينصركم } أي على من يقصدكم بالخسف والحصب وغيرهما ، ويجوز أن يكون التقدير : ألكم إله يدبر مصالحكم غيرنا ، أم كان الذي عذب من كذب الرسل سوانا ، أم لكم جند يصار إليه ينصركم دوننا ، كما قال تعالى :
{ أم لهم آلهة تمنعهم من دوننا{[67013]} }[ الأنبياء : 43 ] ولكنه أخرجه مخرج الاستفهام عن تعيين الجند ، تعريفاً بأنهم لغاية جهلهم ، اعتقدوا{[67014]} أن لهم من أجناد{[67015]} الأرض أو السماء من ينصرهم ، وإلا لما كانوا آمنين .
ولما كانت المراتب متضائلة عن جنابه متكثرة جداً ، قال تعالى مشيراً بالحرف والظرف إلى ذلك ، منبهاً على ظهوره سبحانه فوق كل شيء ، لم يقدر أحد ولا يقدر أن ينازعه في ذلك ، ولا في أنه مستغرق لكل ما دونه من المراتب : { من دون الرحمن } إن{[67016]} أرسل عليكم{[67017]} عذابه ، وأظهر ولم يضمر بعثاً على استحضار ما له من شمول الرحمة{[67018]} ، وتلويحاً إلى التهديد{[67019]} بأنه لو قطعها عن{[67020]} أحد ممن أوجده ، عمه الغضب كله ، ولذلك قال مستنتجاً عنه تنبيهاً على أن {[67021]}رفع المضار وجمع المسار{[67022]} ليس إلا بيده ، لأنه المختص بالملك{[67023]} : { إن } أي ما ، وأبرز الضمير تعميماً وتعليقاً للحكم بالوصف{[67024]} ومواجهة بذلك ، لأنه أقعد {[67025]}في التوبيخ{[67026]} فقال : { الكافرون } أي العريقون في الكفر ، وهم من يموت عليه { إلا في غرور * } أي قد أحاط بهم فلا خلاص لهم منه ، وهو أنهم يعتمدون على غير معتمد .
{ أم من هذا الذي هو جند لكم ينصركم من دون الرحمن إن الكافرون إلا في غرور }
{ أمَّن } مبتدأ { هذا } خبره { الذي } بدل من هذا { هو جند } أعوان { لكم } صلة الذي { ينصركم } صفة الجند { من دون الرحمن } أي غيره يدفع عنكم عذابه ، أي لا ناصر لكم { إن } ما { الكافرون إلا في غرور } غرهم الشيطان بأن العذاب لا ينزل بهم .