وإذا كانت مشاهد القيامة . . إذا برق البصر ، وخسف القمر ، وجمع الشمس والقمر ، وقال الإنسان يومئذ أين المفر . ولا مفر . وإذا اختلفت المصائر والوجوه ، ذلك الاختلاف الشاسع البعيد ، فكانت وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة ، ووجوه يومئذ باسرة تظن أن يفعل بها فاقرة . .
إذا كانت تلك المشاهد تستمد قوتها وإيقاعها في النفس ، من قوة الحقيقة الكامنة فيها ، وقوة الأداء القرآني الذي يشخصها ويحييها ، فإن السورة بعد عرض تلك المشاهد تقرب وتقرب حتى تلمس حس المخاطبين بمشهد آخر حاضر واقع مكرور ، لا تمر لحظة حتى يواجههم في هذه الأرض بقوته ووضوحه ووزنه الثقيل !
إنه مشهد الموت . الموت الذي ينتهي إليه كل حي ، والذي لا يدفعه عن نفسه ولا عن غيره حي . الموت الذي يفرق الأحبة ، ويمضي في طريقه لا يتوقف ، ولا يتلفت ، ولا يستجيب لصرخة ملهوف ، ولا لحسرة مفارق ، ولا لرغبة راغب ولا لخوف خائف ! الموت الذي يصرع الجبابرة بنفس السهولة التي يصرع بها الأقزام ، ويقهر بها المتسلطين كما يقهر المستضعفين سواء ! الموت الذي لا حيلة للبشر فيه وهم مع هذا لا يتدبرون القوة القاهرة التي تجريه :
( كلا ! إذا بلغت التراقي ، وقيل : من راق ? وظن أنه الفراق ، والتفت الساق بالساق . إلى ربك يومئذ المساق ) . .
إنه مشهد الاحتضار ، يواجههم به النص القرآني كأنه حاضر ، وكأنه يخرج من ثنايا الألفاظ ويتحرك كما تخرج ملامح الصورة من خلال لمسات الريشة !
( كلا إذا بلغت التراقي ) . . وحين تبلغ الروح التراقي يكون النزع الأخير ، وتكون السكرات المذهلة ، ويكون الكرب الذي تزوغ منه الأبصار . .
التراقي : جمع ترقوة ، عظم في أعلى الصدر .
وبعد ذِكر أهوال القيامة ، ووصفِ سعادة السعداء وشقاوة الأشقياء ، بين أن للدنيا نهاية ، وأن الموتَ مصيرُ كل الناس . وأن الكافر أضاع الفرصةَ في الدنيا ،
فلا هو صدَّق بأوامر الدين ولا أدى فرائضه ، وبين أنه لا بدّ من الجزاء على صالح الأعمال وسيئها ، وإلا تساوى المطيع والعاصي ، وهذا خلافُ العدل ،
ولا يَليقُ بخالِق الكون العادل الحكيم . وأنه كما قَدر على الخلق الأول وأوجدَ الإنسانَ من منيّ يُمنَى ، فأهون عليه أن يُعيده خَلقاً كما قَدر على الخلق الأول وأوجدَ الإنسانَ من منيّ يُمنَى ، فأهون عليه أن يُعيده خَلقاً آخر .
{ كَلاَّ إِذَا بَلَغَتِ التراقي وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ وَظَنَّ أَنَّهُ الفراق }
ازدجِروا وتنبهوا إلى مصيركم وارتدعوا عن حب الدنيا التي تفارقونها ، إذا بلغت الروح عظام النحر .
{ 26 - 40 } { كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ * وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ * وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ * وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ * إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ * فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى * وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى * ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى * أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى * ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى * أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى * أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى * ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى * فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى * أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى }
يعظ تعالى عباده بذكر حال المحتضر عند السياق{[1298]} ، وأنه إذا بلغت روحه التراقي ، وهي العظام المكتنفة لثغرة النحر ، فحينئذ يشتد الكرب ، ويطلب كل وسيلة وسبب ، يظن أن يحصل به الشفاء والراحة .
قوله تعالى : " كلا إذا بلغت التراقي " " كلا " ردع وزجر ، أي بعيد أن يؤمن الكافر بيوم القيامة ، ثم استأنف فقال : " إذا بلغت التراقي " أي بلغت النفس أو الروح التراقي ، فأخبر عما لم يجر له ذكر ، لعلم المخاطب به ، كقوله تعالى : " حتى توارت بالحجاب " [ ص : 32 ] وقوله تعالى : " فلولا إذا بلغت الحلقوم " [ الواقعة : 83 ] وقد تقدم{[15638]} . وقيل : " كلا " معناه حقا ، أي حقا أن المساق إلى الله " إذا بلغت التراقي " أي إذا ارتقت النفس إلى التراقي . وكان ابن عباس يقول : إذا بلغت نفس الكافر التراقي . والتراقي جمع ترقوة وهي العظام المكتنفة لنقرة النحر ، وهو مقدم الحلق من أعلى الصدر ، موضع الحشرجة ، قال دريد بن الصمة{[15639]} .
ورُبَّ عظيمةٍ دافعْتَ عنهُمْ *** وقد بلغت نفُوسُهُم التَّرَاقِي
وقد يكنى عن الإشفاء على الموت ببلوغ النفس التراقي ، والمقصود تذكيرهم شدة الحال عند نزول الموت .
ولما ذكر محبتهم للعاجلة بالمضارع الدال على التجدد والاستمرار ، فاقتضى ذلك أنه حب غير منفك التجدد أصلاً ، أخبر{[70268]} أنه{[70269]} ينقطع عن{[70270]} هول المطلع مع-{[70271]} الدلالة على تمام القدرة ، وأنه لا يرد قضاؤه ، فقال رادعاً لمن يظن عدم انقطاعه : { كلا } أي لا يدوم هذا الحب بل لا بد أن ينقطع انقطاعاً قبيحاً جداً . ولما كان المحب للدنيا هو النفس ، أضمرها لذلك ولدلالة الكلام عليها-{[70272]} فقال ذاكراً ظرف ما أفهم حرف الردع تقديره من عدم المحبة : { إذا بلغت } أي النفس المقبلة على العاجلة بأمر محقق - بما أفهمته أداة التحقق { التراقي * } أي عظام أعالي الصدر ، جمع ترقوة وهي العظام التي حول الحلقوم عن يمين ثغرة النحر وشمالها بين الثغرة وبين العاتق ، ولكل إنسان ترقوتان ، وهو موضع الحشرجة ، لعله{[70273]} جمع المثنى إشارة إلى شدة انتشارها بغاية الجهد لما هي فيه من الكرب لاجتماعها من أقاصي{[70274]} البدن إلى هناك وضيق المجال عليها كأنها تريد أن تخرج من أدنى موضع يقرب منها ، وهذا{[70275]} كناية عن الإشفاء على الموت وما أحسن قول حاتم الطائي وأشد التئامه مع ما هنا من أمر الروح :
أماويّ ما يغني الثراء عن الفتى *** إذا حشرجت يوماً وضاق بها الصدر