اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{كَلَّآ إِذَا بَلَغَتِ ٱلتَّرَاقِيَ} (26)

قوله تعالى : { كَلاَّ إِذَا بَلَغَتِ التراقي } «كَلاَّ » ردْعَ وزَجْر ، أي بعيد أن يؤمن الكافر بيوم القيامة ، ثم استأنف فقال : { إِذَا بَلَغَتِ التراقي } أي : بلغت النفس والروح التراقي فأخبر بما لم يجر له ذكر لعلم المخاطب به كقوله تعالى : { حتى تَوَارَتْ بالحجاب }[ ص : 32 ] وقوله : { فَلَوْلاَ إِذَا بَلَغَتِ الحلقوم } [ الواقعة : 83 ] .

وقيل : «كَلاّ » معناه «حقّاً » إن المساق إلى الله تعالى إذا بلغت التراقي ، أي إذا ارتفعت النفس إلى التراقي .

وكان ابن عباس رضي الله عنهما يقول : إذا بلغت نفس الكافر التراقي{[58726]} .

و «التراقي » : مفعول «بلغت » والفاعل مضمر ، أي : النفس وإن لم يجرِ لها ذكر ، كقول حاتم : [ الطويل ]

5004 -أمَاوِيَّ ما يُغنِي الثَّراءُ عن الفَتَى*** إذَا حَشْرجتْ يَوْماً وضَاقَ بِهَا الصَّدْرُ{[58727]}

أي : حشرجت النفس .

وقيل : في البيت : إن الدال على النفس ذكر جملة ما اشتمل عليها وهو الفتى فكذلك هنا ذكر الإنسان دال على النفس ، والعامل في «إذَا بَلغت » معنى قوله تعالى : { إلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ المساق } [ القيامة : 30 ] ، أي : إذ بلغت الحلقوم رفعت إلى الله تعالى ، ويكون قوله : { وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ } [ القيامة : 27 ] معطوف على «بلغت » .

و «التراقي » : جمع «ترقوة » ، أصلها : «تراقو » قلبت واوها ياء لانكسار ما قبلها .

والترقوة : أحد عظام الصدر . قاله أبو حيان{[58728]} ، والمعروف غير ذلك .

قال الزمخشري : ولكل إنسان ترقوتان ، فعلى هذا يكون من باب : غليظ الحواجب وعريض المناكب .

وقال القرطبي{[58729]} : «هي العظام المكتنفة لنُقْرة النحر ، وهو مقدم الدّلق من أعلى الصدر ، وهو موضع الحَشْرجة » .

قال دريدُ بن الصمَّةِ : [ الوافر ]

5005 - ورُبَّ عَظِيمةٍ دَافعْتُ عَنْهَا***وقَدْ بَلغَتْ نُفوسُهُمُ التَّراقِي{[58730]}

وقال الراغب : «التَّرْقُوة » : عظم وصل ما بين نُقرة النحر والعاتق انتهى .

وقال الزمخشري : العظام المكتنفة لنقرة النحر عن يمين وشمال . ووزنها : «فَعْلُوة » فالتاء أصل والواو زائدة ، يدل عليه إدخال أهل اللغة إياها في مادة «ترق » .

وقال أبو البقاء والفراء : جمع تَرْقُوَة ، وهي «فَعْلُوة » ، وليست ب «تَفْعلَة » ، إذ ليس في الكلام «رقو » .

وقرئ{[58731]} :«التراقي » بسكون ، وهي كقراءة زيد : { تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ } [ المائدة : 89 ] وقد تقدم توجيهها .

وقد يكنى ببلوغ النفس التراقي عن الإشفاء على الموت والمقصود تذكيرهم شدة الحال عند نزول الموت .

فصل في الرد على من طعن في الآية

قال ابن الخطيب{[58732]} : قال بعض الطَّاعنين : إن النفس إنما تصل إلى التراقي بعد مفارقتها للقلب ومتى فارقت النفس القلب حصل الموت لا محالة ، والآية تدل على أن عند بلوغها التراقي تبقى الحياة حتى يقال فيه : من راق وحتى تلتف الساق بالساق ، والجواب : أن المراد من قوله : { حتَّى إذَا بَلَغَت التَّرَاقِي } ، أي : إذا حصل بالقرب من تلك الحالة .


[58726]:ينظر المصدر السابق.
[58727]:تقدم.
[58728]:ينظر: البحر المحيط 8/382.
[58729]:الجامع لأحكام القرآن 19/72.
[58730]:قيل البيت لدريد بن الصمة، وقيل لابنته عمرة ترثي أباها، وقيل لذي الرمة. ينظر مجمع البيان 10/605، والقرطبي 19/72، والبحر 8/374، والدر المصون 6/432.
[58731]:ينظر: الدر المصون 6/432.
[58732]:ينظر: الفخر الرازي 30/204.