( وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات ، ما كان حجتهم إلا أن قالوا : ائتوا بآبائنا إن كنتم صادقين ) . .
وهذه كتلك تدل على نظرة سطحية لا تدرك نواميس الخلق ، وحكمة الله فيها ، وسر الحياة والموت الكامن وراءهما ، المتعلق بتلك الحكمة الإلهية العميقة . فالناس يحيون في هذه الأرض ليعطوا فرصة للعمل وليبتليهم الله فيما مكنهم فيه . ثم يموتون حتى يحين موعد الحساب الذي أجله الله ، فيحاسبوا على ما عملوا ، وتتبين نتيجة الابتلاء في فترة الحياة . ومن ثم فهم لا يعودون إذا ماتوا . فليست هنالك حكمة تقتضي عودتهم قبل اليوم المعلوم . وهم لا يعودون لأن فريقاً من البشر يقترحون هذا . فاقتراحات البشر لا تتغير من أجلها النواميس الكبرى التي قام على أساسها الوجود ! ومن ثم فلا مجال لهذا الاقتراح الساذج الذي كانوا يواجهون به الآيات البينات : ( ائتوا بآبائنا إن كنتم صادقين ) !
ولماذا يأتي الله بآبائهم قبل الموعد الذي قدره وفق حكمته العليا ? ألكي يقتنعوا بقدرة الله على إحياء الموتى ? يا عجباً ! أليس الله ينشىء الحياة أمام أعينهم إنشاء في كل لحظة ، وفق سنة إنشاء الحياة ?
إن هي إلا ظنون واستبعادات خالية عن الحقيقة ، ولهذا قال تعالى : { وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } وهذا جراءة منهم على الله ، حيث اقترحوا هذا الاقتراح وزعموا أن صدق رسل الله متوقف على الإتيان بآبائهم ، وأنهم لو جاءوهم بكل آية لم يؤمنوا إلا إن تبعتهم الرسل على ما قالوا .
قوله تعالى : " وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات " أي وإذ تقرأ على هؤلاء المشركين آياتنا المنزلة في جواز البعث لم يكن ثم دفع " ما كان حجتهم إلا أن قالوا ائتوا بآبائنا إن كنتم صادقين " " حجتهم " خبر كان والاسم " إلا أن قالوا ائتوا بآبائنا " الموتى نسألهم عن صدق ما تقولون .
الزمخشري : فإن قلت لم سمي قولهم حجة وليس بحجة ؟ قلت : لأنهم أدلوا به كما يدلي المحتج بحجته ، وساقوه مساقها فسميت حجة على سبيل التهكم . أو لأنه في حسبانهم وتقديرهم حجة . أو لأنه في أسلوب قوله :
تحيةٌ بينهم ضربٌ وجيعُ{[1]}
كأنه قيل : ما كان حجتهم إلا ما ليس بحجة . والمراد نفي أن تكون لهم حجة البتة . فإن قلت : كيف وقع قوله : " قل الله يحييكم " جواب " ائتوا بآبائنا إن كنتم صادقين " ؟ قلت : لما أنكروا البعث وكذبوا الرسل ، وحسبوا أن ما قالوه قول مبكت ألزموا ما هم مقرون به من أن الله عز وجل وهو الذي يحييهم ثم يميتهم ، وضم إلى إلزام ذلك إلزام ما هو واجب الإقرار به إن أنصفوا وأصغوا إلى داعي الحق وهو جمعهم يوم القيامة ، ومن كان قادرا على ذلك كان قادرا على الإتيان بآبائهم ، وكان أهون شيء عليه .
ولما كان هذا من قولهم عجباً ، زاده عجباً بحالهم عند سماعهم للبراهين القطعية ، فقال عاطفاً على{[58240]} " قالوا " : { وإذا تتلى } أي تتابع{[58241]} بالقراءة من أيّ تال كان { عليهم آياتنا } أي{[58242]} على ما لها من العظمة {[58243]}في نفسها{[58244]} وبالإضافة إلينا حال كونها { بينات } أي في غاية المكنة في الدلالة على البعث ، فلا عذر لهم في ردها { ما كان } أي{[58245]} بوجه من وجوه الكون{[58246]} { حجتهم } أي قولهم الذي ساقوه مساق الحجة ، وهو لا يستحق أن يسمى شبهة { إلا أن قالوا } {[58247]}قولاً ذميماً ولم ينظروا إلى مبدئهم{[58248]} { ائتوا } أيها التالون للحجج البينة{[58249]} من النبي - صل الله عليه وسلم - وأتباعه {[58250]}الذين اهتدوا بهداه{[58251]} { بآبائنا } الموتى ، وحاصل هذا أنه ما كان لهم حجة إلا أن أتوا بكلام معناه : ليس لنا حجة ؛ لأنه ليس فيه شبهة فضلاً عن حجة ، وما كفاهم مناداتهم{[58252]} على أنفسهم بالجهل حتى عرضوا{[58253]} لأهل البينات بالكذب فقالوا : { إن كنتم صادقين * } أي عريقين في الكون في أهل الصدق الراسخين فيه{[58254]} من أنه سبحانه وتعالى يبعث الخلق بعد موتهم ، وذلك استبعاد منهم لأن يقدر على جمع الجسم بعد ما بلي ، وهم يقرون بأنه الذي خلق ذلك الجسم ابتداء ، ومن المعلوم قطعاً أن من قدر على إنشاء شيء من العدم قدر{[58255]} على إعادته بطريق الأولى .
{ وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلاَّ أَنْ قَالُوا ائْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ ( 25 ) }
وإذا تتلى على هؤلاء المشركين المكذبين بالبعث آياتنا واضحات ، لم يكن لهم حجة إلا قولهم للرسول محمد : أحْي أنت والمؤمنون معك آباءنا الذين قد هلكوا ، إن كنتم صادقين فيما تقولون .