في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{لِيُنفِقۡ ذُو سَعَةٖ مِّن سَعَتِهِۦۖ وَمَن قُدِرَ عَلَيۡهِ رِزۡقُهُۥ فَلۡيُنفِقۡ مِمَّآ ءَاتَىٰهُ ٱللَّهُۚ لَا يُكَلِّفُ ٱللَّهُ نَفۡسًا إِلَّا مَآ ءَاتَىٰهَاۚ سَيَجۡعَلُ ٱللَّهُ بَعۡدَ عُسۡرٖ يُسۡرٗا} (7)

ثم يفصل الأمر في قدر النفقة . فهو اليسر والتعاون والعدل . لا يجور هو ، ولا تتعنت هي . فمن وسع الله عليه رزقه فلينفق عن سعة . سواء في السكن أو في نفقة المعيشة أو في أجر الرضاعة . ومن ضيق عليه في الرزق ، فليس عليه من حرج ، فالله لا يطالب أحدا أن ينفق إلا في حدود ما آتاه . فهو المعطي ، ولا يملك أحد أن يحصل على غير ما أعطاه الله . فليس هناك مصدر آخر للعطاء غير هذا المصدر ، وليست هناك خزانة غير هذه الخزانة : ( لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها ) . .

ثم لمسة الإرضاء ، وإفساح الرجاء ، للاثنين على السواء :

( سيجعل الله بعد عسر يسرا ) . .

فالأمر منوط بالله في الفرج بعد الضيق ، واليسر بعد العسر . فأولى لهما إذن أن يعقدا به الأمر كله ، وأن يتجها إليه بالأمر كله ، وأن يراقباه ويتقياه والأمر كله إليه . وهو المانح المانع . القابض الباسط . وبيده الضيق والفرج ، والعسر واليسر ، والشدة والرخاء .

وإلى هنا يكون قد تناول سائر أحكام الطلاق ومتخلفاته ، وتتبع كل أثر من آثاره حتى انتهى إلى حل واضح ؛ ولم يدع من البيت المتهدم أنقاضا ولا غبارا يملأ النفوس ويغشى القلوب ، ولم يترك بعده عقابيل غير مستريحة بعلاج ، ولا قلاقل تثير الاضطراب .

وكذلك يكون قد عالج جميع الوساوس والهواجس التي تثور في القلوب ، فتمنعها من السماحة والتيسير والتجمل للأمر . فأبعد أشباح الفقر والضيق وضياع الأموال من نفس الزوج إذا هو أسكن وأنفق ووسع على مطلقته أو مرضعة ولده . ومن نفس الزوجة التي تضيق بنفقة الإعسار ، أو تطمع في زيادة ما تصيب من مال زوجها السابق . فأكد اليسر بعد العسر لمن اتقى ، والضيق بعد الفرج ، والرزق من حيث لا يحتسب ، وفوق رزق الدنيا رزق الآخرة والأجر الكبير هناك بعد التكفير .

كما عالج ما تخلفه حالة الخلاف والشقاق التي أدت إلى الطلاق . من غيظ وحنق ومشادة وغبار في الشعور والضمير . . فمسح على هذا كله بيد الرفق والتجمل ، ونسم عليه من رحمة الله والرجاء فيه ؛ ومن ينابيع المودة والمعروف التي فجرها في القلوب بلمسات التقوى والأمل في الله وانتظار رضاه .

وهذا العلاج الشامل الكامل ، وهذه اللمسات المؤثرة العميقة ، وهذا التوكيد الوثيق المتكرر . . هذه كلها هي الضمانات الوحيدة في هذه المسألة لتنفيذ الشريعة المقررة . فليس هناك ضابط إلا حساسية الضمائر وتقوى القلوب . وإن كلا الزوجين ليملك مكايدة صاحبه حتى تنفقئ مرارته إذا كانت الحواجز هي فقط حواجز القانون ! ! وبعض الأوامر من المرونة بحيث تسع كل هذا . فالأمر بعدم المضارة : ولا تضاروهن يشمل النهي عن ألوان من العنت لا يحصرها نص قانوني مهما اتسع . والأمر فيه موكول إلى هذه المؤثرات الوجدانية ، وإلى استجاشة حاسة التقوى وخوف الله المطلع على السرائر ، المحيط بكل شيء علما . وإلى التعويض الذي يعده الله للمتقين في الدنيا والآخرة . وبخاصة في مسألة الرزق التي تكرر ذكرها في صور شتى ، لأنها عامل مهم في تيسير الموقف ، وتندية الجفاف الذي تنشئه حالة الطلاق . .

وإن الزوجين ليفارقان - في ظل تلك الأحكام والتوجيهات - وفي قلوبهما بذور للود لم تمت ، ونداوة قد تحيي هذه البذور فتنبت . . ذلك إلى الأدب الجميل الرفيع الذي يريد الإسلام أن يصبغ به حياة الجماعة المسلمة ، ويشيع فيها أرجه وشذاه .

 
تيسير التفسير لإبراهيم القطان - إبراهيم القطان [إخفاء]  
{لِيُنفِقۡ ذُو سَعَةٖ مِّن سَعَتِهِۦۖ وَمَن قُدِرَ عَلَيۡهِ رِزۡقُهُۥ فَلۡيُنفِقۡ مِمَّآ ءَاتَىٰهُ ٱللَّهُۚ لَا يُكَلِّفُ ٱللَّهُ نَفۡسًا إِلَّا مَآ ءَاتَىٰهَاۚ سَيَجۡعَلُ ٱللَّهُ بَعۡدَ عُسۡرٖ يُسۡرٗا} (7)

ومن قُدر عليه رزقُه : ومن كان رزقه قليلا ، يعني فقير الحال .

فلْيُنفِقْ مما آتاه الله : ينفق بقدر ما عنده .

ثم بين الله تعالى مقدار الإنفاق وكيفيته بحسب طاقة كل أب فقال :

{ لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّآ آتَاهُ الله } .

هذا هو مبدأ الإسلام العظيم : اليسر والتعاون والعدل . . على كل إنسان أن ينفق بقدر طاقته وحسب مقدرته ، فمن وسّع الله عليه الرزق فلينفقْ عن سعة في السكن والنفقة وأجر الرضاع ، ومن كان رزقه ضيقا فلا حرج عليه ، فلينفق بقدر ما يستطيع .

هذه هي القاعدة الذهبية في المجتمع الإسلامي العظيم . وكما جاء في قوله تعالى : { لاَ يُكَلِّفُ الله نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا } [ البقرة : 286 ] آخر سورة البقرة .

ثم جاء في تعبير لطيف بين فيه أن الأرزاق تتحول من عسر إلى يسر ، وأن اليسر دائماً مأمول فلا تخافوا ولا تضيِّقوا على أنفسكم فقال :

{ سَيَجْعَلُ الله بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً } .

إن الله تعالى سيجعل من بعد الشدة رخاء ، ومن بعد الضيق فرجا ، فكونوا دائما مؤملين للخير ، فالدنيا لا تدوم على حال . { فَإِنَّ مَعَ العسر يُسْراً إِنَّ مَعَ العسر يُسْراً } [ الشرح : 5-6 ] ولن يغلب عسر يسرَين . وإنها لبشارة للناس ، ولمسة فرج ، وإفساح رجاء للمطلِّق والمطلقة وللناس جميعا .

 
الوجيز في تفسير الكتاب العزيز للواحدي - الواحدي [إخفاء]  
{لِيُنفِقۡ ذُو سَعَةٖ مِّن سَعَتِهِۦۖ وَمَن قُدِرَ عَلَيۡهِ رِزۡقُهُۥ فَلۡيُنفِقۡ مِمَّآ ءَاتَىٰهُ ٱللَّهُۚ لَا يُكَلِّفُ ٱللَّهُ نَفۡسًا إِلَّا مَآ ءَاتَىٰهَاۚ سَيَجۡعَلُ ٱللَّهُ بَعۡدَ عُسۡرٖ يُسۡرٗا} (7)

{ لينفق ذو سعة من سعته } أمر أهل التوسعة أن يوسعوا على نسائهم المرضعات أولادهن { ومن قدر عليه رزقه } من كان رزقه بمقدار القوت { فلينفق } على قدر ذلك { لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها } أعطاها { سيجعل الله بعد عسر يسرا } أعلم الله تعالى المؤمنين أنهم وان كانوا في حال ضيقة سيوسرهم ويفتح عليهم وكان الغالب عليهم في ذلك الوقت الفقر والفاقة ثم فتح الله عليهم وجاءهم باليسر

 
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي [إخفاء]  
{لِيُنفِقۡ ذُو سَعَةٖ مِّن سَعَتِهِۦۖ وَمَن قُدِرَ عَلَيۡهِ رِزۡقُهُۥ فَلۡيُنفِقۡ مِمَّآ ءَاتَىٰهُ ٱللَّهُۚ لَا يُكَلِّفُ ٱللَّهُ نَفۡسًا إِلَّا مَآ ءَاتَىٰهَاۚ سَيَجۡعَلُ ٱللَّهُ بَعۡدَ عُسۡرٖ يُسۡرٗا} (7)

فيه أربع مسائل :

الأولى- قوله تعالى : " لينفق " أي لينفق الزوج على زوجته وعلى ولده الصغير على قدر وسعه حتى يوسع عليهما إذا كان موسعا عليه . ومن كان فقيرا فعلى قدر ذلك . فتقدر النفقة بحسب الحالة من المنفق والحاجة من المنفق عليه بالاجتهاد على مجرى حياة العادة ، فينظر المفتي إلى قدر حاجة المنفق ، عليه ثم ينظر إلى حالة المنفق ، فإن احتملت الحالة أمضاها عليه ، فإن اقتصرت حالته على حاجة المنفق عليه ردها إلى قدر احتماله . وقال الإمام الشافعي رضي الله عنه وأصحابه : النفقة مقدرة محددة ، ولا اجتهاد لحاكم ولا لمفت فيها . وتقديرها هو بحال الزوج وحده من يسره وعسره ، ولا يعتبر بحالها وكفايتها . قالوا : فيجب لابنة الخليفة ما يجب لابنة الحارس . فإن كان الزوج موسرا لزمه مدان ، وإن كان متوسطا فمد ونصف ، وإن كان معسرا فمد . واستدلوا بقوله تعالى : " لينفق ذو سعة من سعته " الآية . فجعل الاعتبار بالزوج في اليسر والعسر دونها ، ولأن الاعتبار بكفايتها لا سبيل إلى علمه للحاكم ولا لغيره ، فيؤدي إلى الخصومة ؛ لأن الزوج يدعي أنها تلتمس فوق كفايتها ، وهي تزعم أن الذي تطلب قدر كفايتها ، فجعلناها مقدرة قطعا للخصومة . والأصل في هذا عندهم قوله تعالى : " لينفق ذو سعة من سعته " - كما ذكرنا - وقوله : " على الموسع قدره وعلى المقتر قدره " [ البقرة : 236 ] . والجواب أن هذه الآية لا تعطي أكثر من فرق بين نفقة الغني والفقير ، وإنها تختلف بعسر الزوج ويسره . وهذا مسلم . فأما إنه لا اعتبار بحال الزوجة على وجهه فليس فيه ، وقد قال الله تعالى : " وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف{[15103]} " [ البقرة : 233 ] وذلك يقتضي تعلق المعروف في حقهما ؛ لأنه لم يخص في ذلك واحدا منهما . وليس من المعروف أن يكون كفاية الغنية مثل نفقة الفقيرة ؛ وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لهند : ( خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف ) . فأحالها على الكفاية حين علم السعة من حال أبي سفيان الواجب عليه بطلبها ، ولم يقل لها لا اعتبار بكفايتك وأن الواجب لك شيء مقدر ، بل ردها إلى ما يعلمه من قدر كفايتها ولم يعلقه بمقدار معلوم . ثم ما ذكروه من التحديد يحتاج إلى توقيف ، والآية لا تقتضيه .

الثانية- روي أن عمر رضي الله عنه فرض للمنفوس مائة درهم ، وفرض له عثمان خمسين درهما . ابن العربي : " واحتمل أن يكون هذا الاختلاف بحسب اختلاف السنين أو بحسب حال القدر في التسعير لثمن القوت والملبس ، وقد روي محمد بن هلال المزني قال : حدثني أبي وجدتي أنها كانت ترد على عثمان ففقدها فقال لأهله : ما لي لا أرى فلانة ؟ فقالت امرأته : يا أمير المؤمنين ، ولدت الليلة ، فبعث إليها بخمسين درهما وشُقَيْقَة سُنْبُلاَنِيَة{[15104]} . ثم قال : هذا عطاء ابنك وهذه كسوته ، فإذا مرت له سنة رفعناه إلى مائة . وقد أتي علي رضي الله عنه بمنبوذ{[15105]} ففرض له مائة . قال ابن العربي : ( هذا الفرض قبل الفطام مما اختلف فيه العلماء ، فمنهم من رآه مستحبا ؛ لأنه داخل في حكم الآية ، ومنهم من رآه واجبا لما تجدد من حاجته وعرض من مؤنته ، وبه أقول . ولكن يختلف قدره بحاله عند الولادة وبحاله عند الفطام . وقد روي سفيان بن وهب أن عمر أخذ المد بيد والقسط بيد فقال : إني فرضت لكل نفس مسلمة في كل شهر مدي حنطة وقسطي خل وقسطي زيت . زاد غيره : وقال إنا قد أجرينا{[15106]} لكم أعطياتكم وأرزاقكم في كل شهر ، فمن انتقصها فعل الله به كذا وكذا ، فدعا عليه . قال أبو الدرداء : كم سنة راشدة مهدية قد سنها عمر رضي الله عنه في أمة محمد صلى الله عليه وسلم ! والمد والقسط كيلان شاميان في الطعام والإدام ، وقد دُرِسا بعرف آخر . فأما المد فدُرِس إلى الكَيْلَجَة . وأما القسط فدُرِس إلى الكيل ، ولكن التقدير فيه عندنا ربعان في الطعام وثمنان في الإدام . وأما الكسوة فبقدر العادة قميص وسراويل وجبة في الشتاء وكساء وإزار وحصير . وهذا الأصل ، ويتزيد بحسب الأحوال والعادة " .

الثالثة- هذه الآية أصل في وجوب النفقة للولد على الوالد دون الأم ، خلافا لمحمد بن المواز يقول : إنها على الأبوين على قدر الميراث . ابن العربي : ولعل محمدا أراد أنها على الأم عند عدم الأب . وفي البخاري عن النبي صلى الله عليه وسلم ( تقول لك المرأة أنفق علي وإلا فطلقني ويقول لك العبد أنفق علي واستعملني ويقول لك ولدك أنفق علي إلى من تكلني ) فقد تعاضد القرآن والسنة وتواردا في شرعة واحدة .

الرابعة- قوله تعالى : " لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها " أي لا يكلف الفقير مثل ما يكلف الغني . " سيجعل الله بعد عسر يسرا " أي بعد الضيق غنى ، وبعد الشدة سعة .


[15103]:راجع جـ 3 ص 160.
[15104]:الشقيقة: تصغير شقة، وهي جنس من الثياب. وقيل هي نصف ثوب. والسنبلاني (من الثياب): السابغ الطويل الذي قد أسبل. وسنبل ثوبه: إذا أسبله وجره من خلفه أو أمامه.
[15105]:المنبوذ: اللقيط، وسمي اللقيط منبوذا لأن أمه رمته على الطريق.
[15106]:في ابن العربي: "أجزنا".