نزلت الآيات الأولى من هذه السورة بمناسبة معينة . ذلك حين غلبت فارس على الروم فيما كانت تضع يدها من جزيرة العرب . وكان ذلك في إبان احتدام الجدل حول العقيدة بين المسلمين السابقين إلى الإسلام في مكة قبل الهجرة والمشركين . . ولما كان الروم في ذلك الوقت أهل كتاب دينهم النصرانية ، وكان الفرس غير موحدين ديانتهم المجوسية ، فقد وجد المشركون من أهل مكة في الحادث فرصة لاستعلاء عقيدة الشرك على عقيدة التوحيد ، وفألا بانتصار ملة الكفر على ملة الإيمان .
ومن ثم نزلت الآيات الأولى من هذه السورة تبشر بغلبة أهل الكتاب من الروم في بضع سنين غلبة يفرحلها المؤمنون ، الذين يودون انتصار ملة الإيمان من كل دين .
ولكن القرآن لم يقف بالمسلمين وخصومهم عند هذا الوعد ، ولا في حدود ذلك الحادث . إنما كانت هذه مناسبة لينطلق بهم إلى آفاق أبعد وآماد أوسع من ذلك الحادث الموقوت . وليصلهم بالكون كله ، وليربط بين سنة الله في نصر العقيدة السماوية والحق الكبير الذي قامت عليه السماوات والأرض وما بينهما . وليصل بين ماضي البشرية وحاضرها ومستقبلها . ثم يستطرد بها إلى الحياة الأخرى بعد هذه الحياة الدنيا ، وإلى العالم الآخر بعد عالم الأرض المحدود . ثم يطوف بهم في مشاهد الكون ، وفي أغوار النفس ، وفي أحوال البشر ، وفي عجائب الفطر . . فإذا هم في ذلك المحيط الهائل الضخم الرحيب يطلعون على آفاق من المعرفة ترفع حياتهم وتطلقها ، وتوسع آمادها وأهدافها ، وتخرجهم من تلك العزلة الضيقة . عزلة المكان والزمان والحادث . إلى فسحة الكون كله : ماضيه وحاضره ومستقبله ، وإلى نواميس الكون وسننه وروابطه .
ومن ثم يرتفع تصورهم لحقيقة الارتباطات وحقيقة العلاقات في هذا الكون الكبير . ويشعرون بضخامة النواميس التي تحكم هذا الكون ، وتحكم فطرة البشر ؛ ودقة السنن التي تصرف حياة الناس وأحداث الحياة ، وتحدد مواضع النصر ومواضع الهزيمة ؛ وعدالة الموازين التي تقدر بها أعمال الخلق ، ويقوم بها نشاطهم في هذه الأرض ، ويلقون على أساسها الجزاء في الدنيا والآخرة .
وفي ظل ذلك التصور المرتفع الواسع الشامل تتكشف عالمية هذه الدعوة وارتباطها بأوضاع العالم كله من حولها - حتى وهي ناشئة في مكة محصورة بين شعابها وجبالها - ويتسع مجالها فلا تعود مرتبطة بهذه الأرض وحدها إنما هي مرتبطة كذلك بفطرة هذا الكون ونواميسه الكبرى ، وفطرة النفس البشرية وأطوارها ، وماضي هذه البشرية ومستقبلها . لا على هذه الأرض وحدها ، ولكن كذلك في العالم الآخر الوثيق الصلة بها والارتباط .
وكذلك يرتبط قلب المسلم بتلك الآفاق والآماد ؛ ويتكيف على ضوئها شعوره وتصوره للحياة والقيم ؛ ويتطلع إلى السماء والآخرة ؛ ويتلفت حواليه على العجائب والأسرار ، وخلفه وقدامه على الحوادث والمصائر . ويدرك موقفه هو وموقف أمته في ذلك الخضم الهائل ؛ ويعرف قيمته هو وقيمة عقيدته في حساب الناس وحساب الله ، فيؤدي حينئذ دوره على بصيرة ، وينهض بتكاليفه في ثقة وطمأنينة واهتمام .
ويمضي سياق السورة في عرض تلك الارتباطات ، وتحقيق دلالاتها في نظام الكون ، وتثبيت مدلولاتها في القلوب . . يمضي سياق السورة في شوطين مترابطين :
في الشوط الأول يربط بين نصر المؤمنين والحق الذي تقوم عليه السماوات والأرض وما بينهما ، ويرتبط به أمر الدنيا والآخرة . ويوجه قلوبهم إلى سنة الله فيمن مضى قبلهم من القرون . ويقيس عليها قضية البعث والإعادة . ومن ثم يعرض عليهم مشهدا من مشاهد القيامة وما يجري فيه للمؤمنين والكافرين . ثم يعود من هذه الجولة إلى مشاهد الكون ، وآيات الله المبثوثة في ثناياه ؛ ودلالة تلك المشاهد وإيحائها للقلوب . ويضرب لهم من أنفسهم ومما ملكت أيمانهم مثلا يكشف عن سخافة فكرة الشرك ، وقيامها على الأهواء التي لا تستند إلى حق أو علم . . وينهي هذا الشوط بتوجيه الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] إلى اتباع طريق الحق الواحد الثابت الواضح . طريق الفطرة التي فطر الناس عليها ؛ والتي لا تتبدل ولا تدور مع الهوى ؛ ولا يتفرق متبعوها فرقا وشيعا ، كما تفرق الذين اتبعوا الهوى .
وفي الشوط الثاني يكشف عما في طبيعة الناس من تقلب لا يصلح أن تقام عليه الحياة . ما لم يرتبطوا بمعيار ثابت لا يدور مع الأهواء ، ويصور حالهم في الرحمة والضر ، وعند بسط الرزق وقبضه . ويستطرد بهذه المناسبة إلى وسائل إنفاق هذا الرزق وتنميته . ويعود إلى قضية الشرك والشركاء فيعرضها من هذه الزاوية ؛ فإذا هم لا يرزقون ولا يميتون ولا يحيون . ويربط بين ظهور الفساد في البر والبحر وعمل الناس وكسبهم ؛ ويوجههم إلى السير في الأرض ، والنظر في عواقب المشركين من قبل . ومن ثم يوجه الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الاستقامة على دين الفطرة ، من قبل أن يأتي اليوم الذي يجزى فيه كل بما كسبت يداه . ويعود بهم بعد ذلك إلى آيات الله في مشاهد الكون كما عاد بهم في الشوط الأول . ويعقب عليها بأن الهدى هدى الله ؛ وأن الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] لا يملك إلا البلاغ ، فهو لا يهدي العمي ولا يسمع الصم . ثم يطوف بهم في جولة جديدة في ذات أنفسهم ويذكرهم بأطوار نشأتهم من بدئها إلى منتهاها ، منذ الطفولة الواهنة الضعيفة إلى الموت والبعث والقيامة ، ويعرض عليهم مشهدا من مشاهدها . ثم ينهي هذا الشوط ويختم معه السورة بتوجيه الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] إلى الصبر على دعوته ، وما يلقاه من الناس فيها ؛ والاطمئنان إلى أن وعد الله حق لا بد آت ؛ فلا يقلقه ولا يستخفه الذين لا يوقنون .
وجو السورة وسياقها معا يتعاونان في تصوير موضوعها الرئيسي . و هو الكشف عن الارتباطات الوثيقة بين أحوال الناس ، وأحداث الحياة ، وماضي البشرية وحاضرها ومستقبلها ، وسنن الكون ونواميس الوجود . وفي ظلال هذه الارتباطات يبدو أن كل حركة وكل نأمة ، وكل حادث وكل حالة ، وكل نشأة وكل عاقبة ، وكل نصر وكل هزيمة . . كلها مرتبطة برباط وثيق ، محكومة بقانون دقيق . وأن مرد الأمر فيها كله لله : ( لله الأمر من قبل ومن بعد ) . وهذه هي الحقيقة الأولى التي يؤكدها القرآن كله ، بوصفها الحقيقة الموجهة في هذه العقيدة . الحقيقة التي تنشأ عنها جميع التصورات والمشاعر والقيم والتقديرات ؛ والتي بدونها لا يستقيم تصور ولا تقدير . .
والآن نأخذ في عرض السورة بالتفصيل :
ألم . غلبت الروم في أدنى الأرض ، وهم من بعد غلبهم سيغلبون . في بضع سنين . لله الأمر من قبل ومن بعد . ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله ، ينصر من يشاء ، وهو العزيز الرحيم . وعد الله ، لا يخلف الله وعده . ولكن أكثر الناس لا يعلمون . يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا ، وهم عن الآخرة هم غافلون . .
بدأت السورة بالأحرف المقطعة : ألف . لام . ميم التي اخترنا في تفسيرها أنها للتنبيه إلى أن هذا القرآن - ومنه هذه السورة - مصوغ من مثل هذه الأحرف ، التي يعرفها العرب ؛ وهو مع هذا معجز لهم ، لا يملكون صياغة مثله ، والأحرف بين أيديهم ، ومنها لغتهم .
قوله تعالى : " الم غلبت الروم في أدنى الأرض " روى الترمذي عن أبي سعيد الخدري قال : لما كان يوم بدر ظهرت الروم على فارس فأعجب ذلك المؤمنين فنزلت : " الم . غلبت الروم . في أدنى الأرض - إلى قول - يفرح المؤمنون . بنصر الله " . قال : ففرح المؤمنون بظهور الروم على فارس . قال : هذا حديث غريب{[12424]} من هذا الوجه . هكذا قرأ نصر بن علي الجهضمي " غلبت الروم " . ورواه أيضا من حديث ابن عباس بأتم منه . قال ابن عباس في قول الله عز وجل : " الم . غلبت الروم . في أدنى الأرض " قال : غلبت وغلبت ، قال : كان المشركون يحبون أن يظهر أهل فارس على الروم لأنهم وإياهم أهل أوثان ، وكان المسلمون يحبون أن تظهر الروم على فارس لأنهم أهل كتاب ، فذكروه لأبي بكر فذكره أبو بكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : ( أما إنهم سيغلبون ) فذكره أبو بكر لهم فقالوا : اجعل بيننا وبينك أجلا ، فإن ظهرنا كان لنا كذا ، وإن ظهرتم كان لكم كذا وكذا فجعل أجل خمس سنين ، فلم يظهروا ، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال : ( ألا جعلته إلى دون ) - أراه قال العشر – قال : قال أبو سعيد : والبضع ما دون العشرة . قال : ثم ظهرت الروم بعد ، قال : فذلك قوله " الم . غلبت الروم - إلى قوله - ويومئذ يفرح المؤمنون . بنصر الله " . قال سفيان : سمعت أنهم ظهروا عليهم يوم بدر . قال أبو عيسى : هذا حديث حسن صحيح غريب . ورواه أيضا عن نيار بن مكرم الأسلمي قال : لما نزلت " الم . غلبت الروم . في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون . في بضع سنين " وكانت فارس يوم نزلت هذه الآية قاهرين للروم ، وكان المسلمون يحبون ظهور الروم عليهم لأنهم وإياهم أهل كتاب ، وفي ذلك نزل قول الله تعالى : " ويومئذ يفرح المؤمنون . بنصر الله ينصر من يشاء وهو العزيز الرحيم " وكانت قريش تحب ظهور فارس لأنهم وإياهم ليسوا بأهل كتاب ولا إيمان ببعث ، فلما أنزل الله هذه الآية خرج أبو بكر الصديق رضي الله عنه يصيح في نواحي مكة : " الم . غلبت الروم . في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون . في بضع سنين " . قال ناس من قريش لأبي بكر : فذلك بيننا وبينكم ، زعم صاحبك أن الروم ستغلب فارس في بضع سنين ، أفلا نراهنك على ذلك ؟ قال : بلى . وذلك قبل تحريم الرهان ، فارتهن أبو بكر والمشركون وتواضعوا الرهان . وقالوا لأبي بكر : كم تجعل البضع ؟ ثلاث سنين أو تسع{[12425]} سنين ؟ فسم بيننا وبينك وسطا تنتهي إليه ، قال : فسموا بينهم ست سنين ، قال : فمضت الست سنين قبل أن يظهروا ، فأخذ المشركون رهن أبي بكر ، فلما دخلت السنة السابعة ظهرت الروم على فارس ، فعاب المسلمون على أبي بكر تسمية ست سنين ، قال : لأن الله تعالى قال " في بضع سنين " قال : وأسلم عند ذلك ناس كثير . قال أبو عيسى : هذا حديث حسن صحيح غريب . وروى القشيري وابن عطية وغيرهما : أنه لما نزلت الآيات خرج أبو بكر بها إلى المشركين فقال : أسركم أن غَلبت الروم ؟ فإن نبينا أخبرنا عن الله تعالى أنهم سيغلبون في بضع سنين . فقال له أبي بن خلف وأمية أخوه - وقيل أبو سفيان بن حرب - : يا أبا فصيل{[12426]} - يعرضون بكنيته يا أبا بكر - فلنتناحب - أي نتراهن في ذلك فراهنهم أبو بكر . قال قتادة : وذلك قبل أن يحرم القمار{[12427]} ، وجعلوا الرهان خمس قلائص{[12428]} والأجل ثلاث سنين . وقيل : جعلوا الرهان ثلاث قلائص . ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره فقال : ( فهلا احتطت ، فإن البضع ما بين الثلاث والتسع والعشر ، ولكن ارجع فزدهم في الرهان واستزدهم في الأجل ) ففعل أبو بكر ، فجعلوا القلائص مائة والأجل تسعة أعوام ، فغلبت الروم في أثناء الأجل . وقال الشعبي : فظهروا في تسع سنين . القشيري : المشهور في الروايات أن ظهور الروم كان في السابعة من غلبة فارس للروم ، ولعل رواية الشعبي تصحيف من السبع إلى التسع من بعض النقلة . وفي بعض الروايات : أنه جعل القلائص سبعا إلى تسع سنين . ويقال : إنه آخر فتوح كسرى أبرويز فتح فيه القسطنطينية حتى بنى فيها بيت النار ، فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فساءه ذلك ، فأنزل الله تعالى هاتين الآيتين . وحكى النقاش وغيره : أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه لما أراد الهجرة مع النبي صلى الله عليه وسلم تعلق به أبي بن خلف وقال له : أعطني كفيلا بالخطر{[12429]} إن غلبت ، فكفل به ابنه عبد الرحمن ، فلما أراد أبي الخروج إلى أحد طلبه عبد الرحمن بالكفيل فأعطاه كفيلا ، ثم مات أبي بمكة من جرح جرحه النبي صلى الله عليه وسلم ، وظهرت الروم على فارس يوم الحديبية على رأس تسع سنين من مناحبتهم . وقال الشعبي : لم تمض تلك المدة حتى غلبت الروم فارس ، وربطوا خيلهم بالمدائن ، وبنوا رومية ، فقمر{[12430]} أبو بكر أبيا وأخذ مال الخطر من ورثته ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : ( تصدق به ) فتصدق به .
وقال المفسرون : إن سبب{[12431]} غلبة الروم فارس امرأة كانت في فارس لا تلد إلا الملوك والأبطال ، فقال لها كسرى : أريد أن أستعمل أحد بنيك على جيش أجهزه إلى الروم ، فقالت : هذا هرمز أروع من ثعلب وأحذر من صقر ، وهذا فرخان أحد من سنان وأنفذ من نبل ، وهذا شهر بزان{[12432]} أحلم من كذا ، فاختر ، قال فاختار الحليم وولاه ، فسار إلى الروم بأهل فارس فظهر على الروم . قال عكرمة وغيره : إن شهربزان لما غلب الروم خرب ديارها حتى بلغ الخليج ، فقال أخوه فرخان : لقد رأيتني جالسا على سرير كسرى ، فكتب كسرى إلى شهر بزان أرسل إلي برأس فرخان فلم يفعل ، فكتب كسرى إلى فارس : إني قد استعملت عليكم فرخان وعزلت شهربزان ، وكتب إلى فرخان إذا ولي أن يقتل شهربزان ، فأراد فرَّخان قتل شهربزان ، فأخرج له شهر بزان ثلاث صحائف من كسرى يأمره بقتل فرخان ، فقال شهربزان لفرخان : إن كسرى كتب إلي أن أقتلك ثلاث صحائف وراجعته أبدا في أمرك ، أفتقتلني أنت بكتاب واحد ؟ فرد الملك إلى أخيه ، وكتب شهربزان إلى قيصر ملك الروم فتعاونا على كسرى ، فغلبت الروم فارس ومات كسرى . وجاء الخبر إلى النبي صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية ففرح من معه من المسلمين ، فذلك قوله تعالى : " الم . غلبت الروم . في أدنى الأرض " يعني أرض الشام . عكرمة : بأذرعات ، وهي ما بين بلاد العرب والشام . وقيل : إن قيصر كان بعث رجلا يدعى : يحنس ، وبعث كسرى شهربزان ، فالتقيا بأذرعات وبصرى ، وهي أدنى بلاد الشام إلى أرض العرب والعجم . مجاهد : بالجزيرة ، وهو موضع بين العراق والشام . مقاتل : بالأردن وفلسطين . و " أدنى " معناه أقرب . قال ابن عطية : فإن كانت الواقعة بأذرعات فهي من أدنى الأرض بالقياس إلى مكة ، وهي التي ذكرها امرؤ القيس في قوله :
تَنَوَّرْتُهَا من أذرعاتٍ وأهلُها *** بيثرب أدنى دارها نَظَرٌ عَالِ
وإن كانت الواقعة بالجزيرة فهي أدنى بالقياس إلى أرض كسرى ، وإن كانت بالأردن فهي أدنى إلى أرض الروم . فلما طرأ ذلك وغُلبت الروم سر الكفار فبشر الله عباده بأن الروم سيغلبون وتكون الدولة لهم في الحرب . وقد مضى الكلام في فواتح السور . وقرأ أبو سعيد الخدري وعلي بن أبي طالب ومعاوية بن قرة " غَلَبت الروم " بفتح الغين واللام . وتأويل ذلك أن الذي طرأ يوم بدر إنما كانت الروم غلبت فعز ذلك على كفار قريش وسر بذلك المسلمون ، فبشر الله تعالى عباده أنهم سيغلبون أيضا في بضع سنين ، ذكر هذا التأويل أبو حاتم . قال أبو جعفر النحاس : قراءة أكثر الناس " غلبت الروم " بضم العين وكسر اللام . وروي عن ابن عمر وأبي سعيد الخدري أنهما قرأ " غَلَبت الروم " وقرأ " سيُغلبون " . وحكى أبو حاتم أن عصمة روى عن هارون : أن هذه قراءة أهل الشام ، وأحمد بن حنبل يقول : إن عصمة هذا ضعيف ، وأبو حاتم كثير الحكاية عنه ، والحديث يدل على أن القراءة " غُلبت " بضم الغين ، وكان في هذا الإخبار دليل على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ، لأن الروم غلبتها فارس ، فأخبر الله عز وجل نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم أن الروم ستغلب فارس في بضع سنين ، وأن المؤمنين يفرحون بذلك ، لأن الروم أهل كتاب ، فكان هذا من علم الغيب الذي أخبر الله عز وجل به مما لم يكن علموه{[12433]} ، وأمر أبا بكر أن يراهنهم على ذلك وأن يبالغ في الرهان ، ثم حرم الرهان بعد ونسخ بتحريم القمار . قال ابن عطية : والقراءة بضم الغين أصح ، وأجمع الناس على " سيغلبون " أنه بفتح الياء ، يراد به الروم . ويروى عن ابن عمر أنه قرأ أيضا بضم{[12434]} الياء في " سيغلبون " ، وفي هذه القراءة قلب للمعنى الذي تظاهرت الروايات به . قال أبو جعفر النحاس : ومن قرأ " سيغلبون " فالمعنى عنده : وفارس من بعد غلبهم ، أي من بعد أن غلبوا ، سيغلبون . وروي أن إيقاع الروم بالفرس كان يوم بدر ؛ كما في حديث أبي سعيد الخدري حديث الترمذي ، وروي أن ذلك كان يوم الحديبية ، وأن الخبر وصل يوم بيعة الرضوان . قاله عكرمة وقتادة . قال ابن عطية : وفي كلا اليومين كان نصر من الله للمؤمنين . وقد ذكر الناس أن سبب سرور المسلمين بغلبة الروم وهمهم أن تغلب إنما هو أن الروم أهل كتاب كالمسلمين ، وفارس{[12435]} من أهل الأوثان ، كما تقدم بيانه في الحديث . قال النحاس : وقول آخر وهو أولى - أن فرحهم إنما كان لإنجاز وعد الله تعالى ؛ إذ كان فيه دليل على النبوة ؛ لأنه أخبر تبارك وتعالى بما يكون في بضع سنين فكان فيه . قال ابن عطية : ويشبه أن يعلل ذلك بما يقتضيه النظر من محبة أن يغلب العدو الأصغر لأنه أيسر مؤونة ، ومتى غلب الأكبر كثر الخوف منه ، فتأمل هذا المعنى ، مع ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ترجاه من ظهور دينه وشرع الله الذي بعثه به وغلبته على الأمم ، وإرادة كفار مكة أن يرميه الله بملك يستأصله ويريحهم منه . وقيل : سرورهم إنما كان بنصر رسول الله صلى الله عليه وسلم على المشركين ؛ لأن جبريل أخبر بذلك النبي عليه السلام يوم بدر . حكاه القشيري .
قلت : ويحتمل أن يكون سرورهم بالمجموع من ذلك ، فسروا بظهورهم على عدوهم وبظهور الروم أيضا وبإنجاز وعد الله . وقرأ أبو حيوة الشامي ومحمد بن السميقع " من بعد غلبهم " بسكون اللام ، وهما لغتان ، مثل الظعن والظعن . وزعم الفراء أن الأصل " من بعد غلبتهم " فحذفت التاء كما حذفت في قوله عز وجل " وإقام الصلاة " وأصله وإقامة الصلاة . قال النحاس : " وهذا غلط لا يخيل{[12436]} على كثير من أهل النحو ؛ لأن " إقام الصلاة " مصدر قد حذف منه لاعتلال فعله ، فجعلت التاء عوضا من المحذوف ، و " غلب " ليس بمعتل ولا حذف منه شيء . وقد حكى الأصمعي : طرد طردا ، وجلب جلبا ، وحلب حلبا ، وغلب غلبا ، فأي حذف في هذا ، وهل يجوز أن يقال في أكل أكلا وما أشبهه - : حذف منه " ؟ . " في بضع سنين " حذفت الهاء من " بضع " فرقا بين المذكر والمؤنث ، وقد مضى الكلام فيه في " يوسف " {[12437]} . وفتحت النون من " سنين " لأنه جمع مسلم . ومن العرب من يقول " في بضع سنين " كما يقول في " غسلين " . وجاز أن يجمع سنة جمع من يعقل بالواو والنون والياء والنون ، لأنه قد حذف منها شيء فجعل هذا الجمع عوضا من النقص الذي في واحده ؛ لأن أصل " سنة " سنهة أو سنوة ، وكسرت السين منه دلالة على أن جمعه . خارج عن قياسه ونمطه ، هذا قول البصريين . ويلزم الفراء أن يضمها لأنه يقول : الضمة دليل على الواو ، وقد حذف من سنة واو في أحد القولين ، ولا يضمها أحد علمناه .
سورة الروم{[1]}
مقصودها إثبات الأمر كله لله ، فتأتي الوحدانية والقدرة على كل شيء ، فيأتي البعث ونصر أوليائه ، وخذلان أعدائه ، وهذا هو المقصود بالذات ، واسم السورة واضح الدلالة عليه بما كان من السبب في نصر الروم من الوعد الصادق والسر المكتوم { بسم الله } الذي يملك الأمر كله { الرحمن } الذي رحم الخلق كلهم بنصب الأدلة { الرحيم } الذي لطف بأوليائه فأنجاهم من كل ضار ، وحباهم كل نافع سار .
لما{[52138]} ختم سبحانه التي قبلها بأنه مع المحسنين قال : { الم* } مشيراً بألف القيام والعلو ولام{[52139]} الوصلة وميم التمام إلى أن الملك الأعلى القيوم أرسل جبرئيل عليه الصلاة والسلام - الذي هو وصلة بينه وبين أنبيائه عليهم الصلاة والسلام - إلى أشرف خلقه محمد صلى الله عليه وسلم المبعوث لإتمام مكارم الأخلاق ، يوحي إليه وحياً معلماً بالشاهد والغائب ، فيأتي الأمر على ما أخبر به دليلاً على صحة رسالته ، وكمال علم مرسله ، وشمول قدرته ، ووجوب{[52140]} وحدانيته .
هذه السورة مكية كلها . وهي مبدوءة بالإخبار عن الروم بأنهم غالبون في بضع سنين . وذلك نبأ من أنباء الغيب يخبر الله به نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم والمؤمنين .
والسورة في جمالها وجلالها وبالغ إيقاعها وتأثيرها ، تفيض بمختلف المعاني والعبر ، والعديد من المشاهد والصور . إلى غير ذلك من المواعظ والحكم والتذكير باليوم الآخر .
وفي السورة من الدلائل والبينات والآيات في الكون والطبيعة ما يحمل العقل على التدبر وإطالة التفكير . وفيها من وصف أحوال الكافرين يوم القيامة مما يغشاهم من الإياس والفزع الداهم ما يثير في النفس الذُعر وينشر في التصور والذهن دوام الذهول . وذلك كشأن الآيات من الكتاب الحكيم التي تصف أحوال الكون والكائنات إذا قامت الساعة .
{ الم ( 1 ) غُلِبَتِ الرُّومُ ( 2 ) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ ( 3 ) فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ ( 4 ) بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَن يَشَاء وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ( 5 ) وَعْدَ اللَّهِ لاَ يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ ( 6 ) يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ }
نزلت هذه الآيات حين غلب ملك الفرس على بلاد الشام وأقاصي بلاد الروم فاضطر هرقلَ ملك الروم حتى ألجأه إلى القسطنطينية وحاصره فيها مدة طويلة ثم عادت الدولة لهرقل كما كانت من قبل . وفي هذا الصدد روى الإمام أحمد عن ابن عباس – رضي الله عنهما- في قوله تعالى : { الم ( 1 ) غُلِبَتِ الرُّومُ ( 2 ) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ } قال : غُلبت وغَلَبت ، قال : كان المشركون يحبون أن تظهر فارس على الروم ؛ لأنهم أصحاب أوثان . وكان المسلمون يحبون أن تظهر الرم على فارس ؛ لأنهم أهل الكتاب . فذكر ذلك لأبي بكر فذكره أبو بكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أما أنهم سيغلبون " فذكره أبو بكر لهم . فقالوا : اجعل بيننا وبينك أجلا ؛ فإن ظهرنا كان لنا كذا وكذا وإن ظهرتم كان لكم كذا وكذا ، فجعل أجل خمس سنين فلم يظهروا فذكر ذلك أبو بكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " ألا جعلتها إلى دون – أراه قال : لعشر " والبضع ما دون العشر . ثم ظهرت الروم بعد . فذلك قوله : { الم ( 1 ) غُلِبَتِ الرُّومُ ( 2 ) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ } {[3585]} . غَلَب ، مصدر مضاف إلى المفعول . وتقديره : وهم من بعد أن غُلبوا سيغلبون{[3586]}
وفي هذا الإخبار دليل على نبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ لأن الروم غلبتها فارس فأخبر الله نبيه أن الروم ستغلب فارس في بضع سنين وسوف يفرح المؤمنون حينئذ بنصر الله للروم لأنهم أهل كتاب . وهذا من علم الغيب الذي أخبر الله به مما لم يعلمه الناس وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر أن يراه المشركين على ذلك ، وأن يزيد في الرهان ثم حرّم الرهان بعد ذلك ونسخ بتحريم القمار .