في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{يُولِجُ ٱلَّيۡلَ فِي ٱلنَّهَارِ وَيُولِجُ ٱلنَّهَارَ فِي ٱلَّيۡلِ وَسَخَّرَ ٱلشَّمۡسَ وَٱلۡقَمَرَۖ كُلّٞ يَجۡرِي لِأَجَلٖ مُّسَمّٗىۚ ذَٰلِكُمُ ٱللَّهُ رَبُّكُمۡ لَهُ ٱلۡمُلۡكُۚ وَٱلَّذِينَ تَدۡعُونَ مِن دُونِهِۦ مَا يَمۡلِكُونَ مِن قِطۡمِيرٍ} (13)

9

ويختم هذا المقطع بجولة كونية في مشهد الليل والنهار . ثم في تسخير الشمس والقمر وفق النظام المرسوم لجريانهما إلى الأجل المعلوم :

يولج الليل في النهار ، ويولج النهار في الليل . وسخر الشمس والقمر ، كل يجري لأجل مسمى . .

وإيلاج الليل في النهار والنهار في الليل قد يعني ذينك المشهدين الرائعين . مشهد دخول الليل في النهار ، والضياء يغيب قليلاً قليلاً ، والظلام يدخل قليلاً قليلاً حتى يكون الغروب وما يليه من العتمة البطيئة الدبيب . ومشهد دخول النهار في الليل حينما يتنفس الصبح ، وينتشر الضياء رويداً رويداً ، ويتلاشى الظلام رويداً رويداً ، حتى تشرق الشمس ويعم الضياء . . كذلك قد يعني طول الليل وهو يأكل من النهار وكأنما يدخل فيه . وطول النهار وهو يأكل من الليل وكأنما يدخل فيه . . وقد يعنيهما معاً بتعبير واحد . وكلها مشاهد تطوّف بالقلب في سكون ، وتغمره بشعور من الروعة والتقوى ؛ وهو يرى يد الله تمد هذا الخط ، وتطوي ذاك الخط ، وتشد هذا الخيط وترخي ذاك الخيط . وفي نظام دقيق مطرد لا يتخلف مرة ولا يضطرب . ولا يختل يوماً أو عاماً على توالي القرون . .

وتسخير الشمس والقمر وجريانهما للأجل المرسوم لهما ، والذي لا يعلمه إلا خالقهما . . هو الآخر ظاهرة يراها كل إنسان ، سواء كان يعلم أحجام هذين الجرمين ، ونوعهما من النجوم والكواكب ومدارهما ودورتهما ومداها : أم لا يعلم من هذا كله شيئاً . . فهما بذاتهما يظهران ويختفيان أمام كل إنسان ، ويصعدان وينحدران أمام كل بصر . وهذه الحركة الدائبة التي لا تفتر ولا تختل حركة مشهودة لا يحتاج تدبرها إلى علم وحساب ! ومن ثم فهي آية معروضة في صفحة الكون لجميع العقول وجميع الأجيال على السواء . وقد ندرك نحن اليوم علمها الظاهر أكثر مما كان يدرك المخاطبون بهذا القرآن لأول مرة . وليس هذا هو المهم . إنما المهم أن توحي إلينا ما كانت توحيه إليهم ، وأن تهز قلوبنا كما كانت تهز قلوبهم ، وأن تثير فينا من التدبر ورؤية يد الله المبدعة وهي تعمل في هذا الكون العجيب ما كانت تثير فيهم . . والحياة حياة القلوب . .

وفي ظل تلك المشاهد المتنوعة العميقة الدلالة القوية السلطان يعقب بتقرير حقيقة الربوبية ، وبطلان كل ادعاء بالشرك ، وخسران عاقبته يوم القيامة :

( ذلكم الله ربكم له الملك ، والذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير . إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم . ولو سمعوا ما استجابوا لكم . ويوم القيامة يكفرون بشرككم . ولا ينبئك مثل خبير ) . .

ذلكم . الذي أرسل الرياح بالسحاب ، والذي أحيا الأرض بعد موتها ، والذي خلقكم من تراب ، والذي جعلكم أزواجاً ، والذي يعلم ما تحمل كل أنثى وما تضع ، والذي يعلم ما يعمر وما ينقص من عمره ، والذي خلق البحرين ، والذي يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى . . ذلكم هو ( الله ربكم ) . .

( له الملك ) . . ( والذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير ) . . والقطمير غلاف النواة ! وحتى هذا الغلاف الزهيد لا يملكه أولئك الذين يدعونهم من دون الله !

 
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي [إخفاء]  
{يُولِجُ ٱلَّيۡلَ فِي ٱلنَّهَارِ وَيُولِجُ ٱلنَّهَارَ فِي ٱلَّيۡلِ وَسَخَّرَ ٱلشَّمۡسَ وَٱلۡقَمَرَۖ كُلّٞ يَجۡرِي لِأَجَلٖ مُّسَمّٗىۚ ذَٰلِكُمُ ٱللَّهُ رَبُّكُمۡ لَهُ ٱلۡمُلۡكُۚ وَٱلَّذِينَ تَدۡعُونَ مِن دُونِهِۦ مَا يَمۡلِكُونَ مِن قِطۡمِيرٍ} (13)

قوله تعالى : " يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل " تقدم في " آل عمران " {[13127]} . " وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى " تقدم في " لقمان " {[13128]} بيانه . " ذلكم الله ربكم له الملك " أي هذا الذي من صنعه ما تقرر هو الخالق المدبر ، والقادر المقتدر ، فهو الذي يعبد . " والذين تدعون من دونه " يعني الأصنام . " ما يملكون من قطمير " أي لا يقدرون عليه ولا على خلقه . والقطمير القشرة الرقيقة البيضاء التي بين التمرة والنواة . قاله أكثر المفسرين . وقال ابن عباس : هو شق النواة ، وهو اختيار المبرد ، وقاله قتادة . وعن قتادة أيضا : القطمير القمع الذي على رأس النواة . الجوهري : ويقال : هي النكتة البيضاء التي في ظهر النواة ، تنبت منها النخلة .


[13127]:راجع ج 4 ص 56.
[13128]:راجع ص 78 من هذا الجزء.
 
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي [إخفاء]  
{يُولِجُ ٱلَّيۡلَ فِي ٱلنَّهَارِ وَيُولِجُ ٱلنَّهَارَ فِي ٱلَّيۡلِ وَسَخَّرَ ٱلشَّمۡسَ وَٱلۡقَمَرَۖ كُلّٞ يَجۡرِي لِأَجَلٖ مُّسَمّٗىۚ ذَٰلِكُمُ ٱللَّهُ رَبُّكُمۡ لَهُ ٱلۡمُلۡكُۚ وَٱلَّذِينَ تَدۡعُونَ مِن دُونِهِۦ مَا يَمۡلِكُونَ مِن قِطۡمِيرٍ} (13)

ولما ذكر سبحانه اختلاف الذوات الدال على بديع صنعه ، أتبعه تغييره المعاني آية على بليغ قدرته ، فقال في موضع الحال من فاعل " خلقكم " إشارة إلى أن الله تعالى صور آدم حين خلق الأرض قبل أن يكون ليل أو نهار ثم نفخ فيه الروح آخر يوم الجمعة بعد أن خلق النور يوم الأربعاء ، فلم يأت على الإنسان حين من الدهر وهو مقدار حركة الفلك إلا وهو شيء مذكور : { يولج } أي يدخل على سبيل الجولان { الّيل في النهار } فيصير الظلام ضياء .

ولما كان هذا الفعل في غاية الإعجاب ، وكان لكثرة تكراره قد صار مألوفاً فغفل عما فيه من الدلالة على تمام القدرة : نبه عليه بإعادة الفعل فقال : { ويولج النهار في الّيل } فيصير ما كان ضياء ظلاماً ، وتارة يكون التوالج بقصر هذا وطول هذا ، فدل كل ذلك على أنه تعالى فاعل بالاختيار .

ولما ذكر الملوين ذكر ما ينشأ عنهما فقال : { وسخر الشمس والقمر } ثم استأنف قوله : { كل } أي منهم { يجري } ولما كان مقصود السورة تمام القدرة ، والسياق هنا لقسر المتنافرات على ما يزيد ، ولذلك ختم الآية بالملك الناظر إلى القسر والقهر لم يصلح لهذا الموضع حرف الغاية فقال : { لأجل } أي لأجل أجل { مسمى } مضروب له لا يقدر أن يتعداه ، فإذا جاء ذلك الأجل غرب ، هكذا كل يوم إلى أن يأتي الأجل الأعظم ، فيختل جميع هذا النظام بأمر الملك العلام ، ويقيم الناس ليوم الزحام ، وتكون الأمور العظام .

ولما دل سبحانه على أنه الفاعل المختار القادر على كل ما يريد بما يشاهده كل أحد في نفسه وفي غيره ، وختم بما تتكرر مشاهدته في كل يوم مرتين ، أنتج ذلك قطعاً قوله معظماً بأداة البعد وميم الجمع : { ذلكم } أي العالي المقدار الذي فعل هذه الأفعال كلها { الله } أي الذي له كل صفة كمال ؛ ثم نبههم على أنه لا مدبر لهم سواه بخبر آخر بقوله : { ربكم } أي الموجد لكم من العدم المربي بجميع النعم لا رب لكم سواه ؛ ثم استأنف قوله : { له } أي وحده { الملك } أي كله وهو مالك كل شيء { والذين تدعون } أي دعاء عبادة ، ثم بيّن منزلتهم بقوله : { من دونه } أي من الأصنام وغيرها وكل شيء فهو دونه سبحانه { ما يملكون } أي في هذا الحال الذي تدعونهم فيه وكل حال يصح أن يقال فيه لكم هذا الكلام ؛ وأغرق في النفي فقال : { من قطمير * } وهو كما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما : لفاقة النواة ، وهي القشرة الرقيقة الملتفة عليها ، كناية عن أدنى الأشياء ، فكيف بما فوقه وليس لهم شيء من الملك ، فالآية من الاحتباك : ذكر الملك أولاً دليلاً على حذفه ثانياً ، والملك ثانياً دليلاً على حذفه أولاً ؛