ويهتف للذين آمنوا بتقوى الله في حدود الطاقة والإستطاعة ، وبالسمع والطاعة :
( فاتقوا الله ما استطعتم - واسمعوا وأطيعوا ) . .
وفي هذا القيد : ( ما استطعتم )يتجلى لطف الله بعباده ، وعلمه بمدى طاقاتهم في تقواه وطاعته . وقد قال رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] : " إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم وما نهيتكم عنه فاجتنبوه " فالطاعة في الأمر ليس لها حدود ، ومن ثم يقبل فيها ما يستطاع . أما النهي فلا تجزئة فيه فيطلب بكامله دون نقصان . ويهيب بهم إلى الإنفاق :
فهم ينفقون لأنفسهم . وهو يأمرهم أن ينفقوا الخير لأنفسهم . فيجعل ما ينفقونه كأنه نفقة مباشرة لذواتهم ، ويعدها الخير لهم حين يفعلون .
ويريهم شح النفس بلاء ملازما . السعيد السعيد من يخلص منه ويوقاه ؛ والوقاية منه فضل من الله :
{ 16-18 } { فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ * عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ }
يأمر تعالى بتقواه ، التي هي امتثال أوامره واجتناب نواهيه ، ويقيد{[1130]} ذلك بالاستطاعة والقدرة .
فهذه الآية ، تدل على أن كل واجب عجز عنه العبد ، أنه يسقط عنه ، وأنه إذا قدر على بعض المأمور ، وعجز عن بعضه ، فإنه يأتي بما يقدر عليه ، ويسقط عنه ما يعجز عنه ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : " إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم " .
ويدخل تحت هذه القاعدة الشرعية من الفروع ، ما لا يدخل تحت الحصر ، وقوله : { وَاسْمَعُوا } أي : اسمعوا ما يعظكم الله به ، وما يشرعه لكم من الأحكام ، واعلموا ذلك وانقادوا له { وَأَطِيعُوا } الله ورسوله في جميع أموركم ، { وَأَنْفِقُوا } من النفقات الشرعية الواجبة والمستحبة ، يكن ذلك الفعل منكم خيرًا لكم في الدنيا والآخرة ، فإن الخير كله في امتثال أوامر الله تعالى وقبول نصائحه ، والانقياد لشرعه ، والشر كله ، في مخالفة ذلك .
ولكن ثم آفة تمنع كثيرًا من الناس ، من النفقة المأمور بها ، وهو الشح المجبولة عليه أكثر النفوس ، فإنها تشح بالمال ، وتحب وجوده ، وتكره خروجه من اليد غاية الكراهة .
فمن وقاه الله شر شح نفسه بأن سمحت نفسه بالإنفاق النافع لها { فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } لأنهم أدركوا المطلوب ، ونجوا من المرهوب ، بل لعل ذلك ، شامل لكل ما أمر به العبد ، ونهي عنه ، فإنه إن كانت نفسه شحيحة . لا تنقاد لما أمرت به ، ولا تخرج ما قبلها ، لم يفلح ، بل خسر الدنيا والآخرة ، وإن كانت نفسه نفسًا سمحة ، مطمئنة ، منشرحة لشرع الله ، طالبة لمرضاة ، فإنها ليس بينها وبين فعل ما كلفت به إلا العلم به ، ووصول معرفته إليها ، والبصيرة بأنه مرض لله تعالى ، وبذلك تفلح وتنجح وتفوز كل الفوز .
{ فاتقوا الله ما استطعتم } أي : أطقتم ، هذه الآية ناسخة لقوله تعالى : { اتقوا الله حق تقاته }( آل عمران- 102 ) { واسمعوا وأطيعوا } الله ورسوله ، { وأنفقوا خيراً لأنفسكم } أي : أنفقوا من أموالكم خيراً لأنفسكم . { ومن يوق شح نفسه } حتى يعطي حق الله من ماله { فأولئك هم المفلحون* إن تقرضوا الله قرضا حسنا يضاعفه لكم ويغفر لكم والله شكور حليم . عالم الغيب والشهادة العزيز الحكيم } .
{ فاتقوا الله ما استطعتم } يعني اذا أمكنكم الجهاد والهجرة فلا يفتننكم الميل الى الأموال والأولاد عن ذلك وهذه الآية ناسخة لقوله تعالى { اتقوا الله حق تقاته } وقوله { وأنفقوا خيرا لأنفسكم } أي قدموا خيرا لأنفسهم من
أموالكم { ومن يوق شح نفسه } بخلها وحرصها حتى ينفق المال { فأولئك هم المفلحون } الفائزون بالخير
ولما كان التقدير : وعنده عذاب أليم لمن خالف ، سبب عنه قوله فذلكة أخرى لما تقدم من{[65872]} السورة كلها : { فاتقوا الله } مظهراً غير مضمر تعظيماً للمقام واحترازاً من أن يتوهم نوع تقيد فأفهم الإظهار أن المعنى : اجعلوا بينكم وبين سخط الملك الأعلى وقاية من غير نظر إلى حيثية ولا خصوصية بشيء ما ، باجتناب نواهيه بعد امتثال أوامره ، فإن التقوى إذا انفردت كان المراد بها فعل الأوامر وترك المناهي ، وإذا جمعت مع غيرها أريد بها اجتناب النواهي{[65873]} فقط .
ولما كان الأمر إذا نسب إليه سبحانه أعظم من مقالة قائل ، فلا يستطيع أحد أن يقدره سبحانه حق قدره ، خفف ويسر بقوله : { ما استطعتم } أي ما دمتم في الجملة قادرين مستطيعين ، ويتوجه عليكم التكليف في العلميات والعمليات ، وابذلوا جهدكم في ذلك في الإيمانيات لما علمتم من ذاته ومرتبته وصفاته تعالى وأفعاله ، وغير ذلك من جميع أعمالكم الظاهرة والباطنة ، وأعظمه الهجرة والجهاد ، فلا يمنعكم الإخلاد إليها ذلك والتقوى فيما وقع من المكروهات بالندم والإقلاع مع العزم على ترك العود ، وفيما لم يقع بالاحتراس عن أسبابه ، وبذل الإنسان جميع جهده هو الاتقاء حق التقاة {[65874]}فلا نسخ{[65875]} - والله أعلم .
ولما كان إظهار الإسلام ليس فيه مشقة كالأعمال قال : { واسمعوا } أي سماع إذعان وتسليم لما توعظون به ولجميع أوامره { وأطيعوا } أي وصدقوا ذلك الإذعان بمباشرة الأفعال الظاهرة في الإسلاميات من القيام بأمر الله والشفقة على خلق الله في كل أمر ونهي على حسب الطاقة ، وحذف المتعلق ليصدق الأمر بكل طاعة من{[65876]} الكل والبعض وكذا في الإنفاق . ولما كان الإنفاق شديداً أكد أمره بتخصيصه بالذكر فقال : { وأنفقوا } أي أوقعوا الإنفاق{[65877]} كما حد لكم فيما أوجبه أو ندب إليه وإن كان في حق من اطلعتم منها{[65878]} على عداوة ، والإنفاق لا يخص نوعاً بل يكون ما رزق الله من الذاتي والخارجي .
ولما كان الحامل على الشح ما يخطر في البال من الضرورات التي أعزها ضرورة{[65879]} النفس ، رغب فيه بما ينصرف إليه بادىء بدء ويعم جميع ما تقدم فقال : { خيراً } أي يكن ذلك أعظم خير واقع{[65880]} { لأنفسكم } فإن الله يعطي خيراً منه في الدنيا ما يزكي به النفس ، ويدخر عليه من الجزاء في الآخرة ما لا يدري كنهه ، فلا يغرنكم عاجل شيء من ذلك فإنما هو زخرف {[65881]}وغرور لا طائل تحته{[65882]} . ولما ذكر ما في الإنفاق من الخير عم في جميع الأوامر فقال : { ومن يوق } بناه للمفعول تعظيماً للترغيب فيه نفسه مع قطع الناضر عن الفاعل أي يقيه واق أيّ واق كان - وأضافه إلى ما الشؤم كله منه فقال : { شح نفسه } فيفعل في ماله وجميع ما أمر به ما يطيقه مما{[65883]} أمر به موقناً به{[65884]} مطمئناً إليه حتى يرتفع عن قلبه الأخطار ، ويتحرز عن رق المكونات ، والشح : {[65885]}خلق باطن{[65886]} هو الداء العضال رأس الحية وكل فتنة ضلالة ، والبخل فعل ظاهر{[65887]} ينشأ عن الشح ، والنفس تارة تشح بترك الشهوة من المعاصي فتفعلها ، وتارة بإعطاء الأعضاء في الطاعات فتتركها ، وتارة بإنفاق{[65888]} المال ، ومن فعل ما فرض عليه خرج عن الشح . ولما كان الواقي إنما هو الله تعالى{[65889]} سبب عن وقايته قوله : { فأولئك } أي العالو الرتبة { هم } أي خاصة { المفلحون * } أي الذين حازوا جميع المرادات بما اتقوا الله فيه من الكونيات{[65890]} من المال والولد والأهل والمشوشات من جميع القواطع .