بعد ذلك يمضي السياق يقرر أن الله هو الذي يرسل الرياح ، وينزل المطر ، ويحيي الأرض بعد موتها ، وكذلك يحيي الموتى فيبعثون . . سنة واحدة ، وطريقة واحدة ، وحلقات في سلسلة الناموس الكبير :
( الله الذي يرسل الرياح ) . . وفق ناموسه في تكوين هذا الكون وتنظيمه وتصريفه . ( فتثير سحابا ) . بما تحمله من بخار الماء المتصاعد من كتلة الماء في الأرض . ( فيبسطه في السماء ) . . ويفرشه ويمده . ( ويجعله كسفا ) . . بتجميعه وتكثيفه وتراكمه بعضه فوق بعض ، أو يصطدم بعضه ببعض ، أو تنبعث شرارة كهربائية بين طبقة منه وطبقة ، أو كسفة منه وكسفة . ( فترى الودق يخرج من خلاله )وهو المطر يتساقط من خلال السحاب . ( فإذا أصاب به من يشاء من عباده إذا هم يستبشرون ) . . ولا يعرف هذا الاستبشار على حقيقته كما يعرفه الذين يعيشون مباشرة على المطر . والعرب أعرف الناس بهذه الإشارة . وحياتهم كلها تقوم على ماء السماء ، وقد تضمنت ذكره أشعارهم وأخبارهم في لهفة وحب وإعزاز !
{ 48 - 50 } { اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ * وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ * فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }
يخبر تعالى عن كمال قدرته وتمام نعمته أنه { يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا } من الأرض ، { فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ } أي : يمده ويوسعه { كَيْفَ يَشَاءُ } أي : على أي حالة أرادها من ذلك ثم { يَجْعَلُهُ } أي : ذلك السحاب الواسع { كِسَفًا } أي : سحابا ثخينا قد طبق بعضه فوق بعض .
{ فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ } أي : السحاب نقطا صغارا متفرقة ، لا تنزل جميعا فتفسد ما أتت عليه .
{ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ } بذلك المطر { مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ } يبشر بعضهم بعضا بنزوله وذلك لشدة حاجتهم وضرورتهم إليه فلهذا قال : { وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ } .
ولما أقام سبحانه الدليل على البعث وإقامة الوجود بتصريفه الرياح كيف شاء و{[53361]} أتبعه آية التسلية والتهديد ، وكان عذاب المذكورين فيها بالريح أو ما هي سببه{[53362]} أو لها مدخل فيه ، أتبع ذلك الإعلام بأنه مختص بذلك سبحانه تنبيهاً على عظيم آية الرياح للحض على تدبرها ، مؤكداً لأمر البعث ومصرحاً به ، فقال ثانياً الكلام عن مقام العظمة الذي اقتضته النقمة إلى الاسم الأعظم الجامع الذي نظره إلى النعمة أكثر من نظره إلى النقمة : { الله } أي وحده { الذي يرسل } مرة بعد أخرى{[53363]} لأنه المتفرد{[53364]} بالكمال فلا كفوء له : { الرياح } مضطربة هائجة بعد أن كانت ساكنة ، وفي قراءة الجمهور بالجمع{[53365]} خلافاً لابن كثير وحمزة والكسائي{[53366]} تنبيه على عظيم الصنع في كونه يفعل ما ذكره بأي ريح أراد { فتثير سحاباً } لم يكن له وجود .
ولما أسند الإثارة إلى الرياح ، نزع الإسناد إليها في البسط والتقطيع فإنه لم يجعل فيه قوة شيء من ذلك ليعلم أن الكل فعله فقال : { فيبسطه } بعد اجتماعه { في السماء } أي جهة العلو .
ولما كان أمر السحاب في غاية الإعجاب في وجوده بعد أن لم يكن وأشكاله وألوانه {[53367]}وجميع{[53368]} أحواله في اجتماعه وافتراقه وكثافته{[53369]} ورقته وما فيه من مطر ورعد وبرق وغير ذلك مما لا يعلمه حق علمه إلا الله تعالى ، أشار سبحانه إلى ذلك بأداة الاستفهام وإن كانوا قد عدوها هنا{[53370]} شرطية فقال : { كيف } أي كما { يشاء } في أي ناحية شاء قليلاً{[53371]} تارة كمسيرة ساعة أو يوم ، وكثيراً{[53372]} أخرى كمسيرة أيام على أوضاع مختلفة {[53373]}تدلك قطعاً{[53374]} على أنه فعله وحده باختياره لا مدخل فيه لطبيعة ولا غيرها .
ولما كان المراد بذلك كونه على هيئة الاتصال ، دل عليه بقوله : { ويجعله } أي إذا أراد { كسفاً } أي قطعاً غير متصل بعضها ببعض اتصالاً يمنع{[53375]} نزول الماء { فترى } أي{[53376]} بسبب إرسال الله له أو بسبب جعله ذا مسامٌ وفرج يا من فيه أهلية{[53377]} الرؤية ، أو يا أشرف خلقنا الذي لا يعرف هذا حق معرفته سواه { الودق } أي المطر المتقاطر القريب الواسع { يخرج من خلاله } أي السحاب الذي هو اسم جنس في حالتي الاتصال والانفصال .
ولما كان سبحانه قد سبب عن ذلك سرور عباده لما يرجون من أثره وإن كانوا كثيراً ما يشاهدون تخلف الأثر لعوارض ينتجها{[53378]} سبحانه ، قال مسبباً عن ذلك مشيراً بأداة التحقق إلى عظيم فضله وتحقق إنعامه : { فإذا أصاب } أي الله{[53379]} { به من } أي أرض من { يشاء } ونبه على أن{[53380]} ذلك فضل منه لا يجب عليه لأحد أصلاً شيء{[53381]} بقوله : { من عباده } أي الذين لم تزل عبادته واجبة عليهم ، وهم جديرون بملازمة شكره ، والخضوع لأمره ، خاصاً لهم بقدرته واختياره ، وبين خفتهم{[53382]} بإسراعهم إلى الاستبشار مع احتمال العاهات{[53383]} ، جامعاً رداً على معنى " من " أو على " العباد " لأن الخفة من الجماعة أفحش فقال : { إذا هم يستبشرون* } أي يظهر عليهم البشر ، وهو السرور الذي تشرق له البشرة حال الإصابة ظهوراً بالغاً عظيماً بما{[53384]} يرجونه مما{[53385]} يحدث عنه من الأثر النافع من الخصب والرطوبة واللين ؛
قوله تعالى : { اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاء كَيْفَ يَشَاء وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ ( 48 ) وَإِن كَانُوا مِن قَبْلِ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْهِم مِّن قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ ( 49 ) فَانظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ( 50 ) وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَّظَلُّوا مِن بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ } .
هذا إخبار من الله عن بالغ قدرته على خَلق ما يشاء ؛ فهو جل وعلا خالق كل شيء وهو مدبر الأمور في الكون كله . ومن جملة ذلك إنزال المطر من السماء عقب مراحل متتالية في الطبيعة يأتي بعضها إثر بعض وذلك بدءا يتصاعد البخار من ماء الأرض وظهوره في السماء ليلامس في الفضاء طبقات باردة مما يفضي إلى تكثفه ونزوله على الأرض ثانية مطرا . لا جرم أن الآية الكريمة ههنا ؛ إذ تنبئ قبل أدهار طويلة عن ظاهرة المطر وكيفية نزوله ، لهي دليل ظاهر ساطع على أن هذا القرآن يسمو على مستوى البشر وهو من صنع إله قادر حكيم ، إذ خاطب البشرية بهذه الحقيقة قبل أحقاب غابرة ، حينما كانت معارف الناس عن الطبيعة وأحداثها في غاية البساطة والبدائية . وذلك هو قوله : { اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا } إرسال الرياح إنما يقع بقدرة الله ومشيئته . فما من شيء في الطبيعة والكون إلا وتُسيره إرادة الله الخالق المدبّر . والرياح من شأنها أن تثير السحاب ؛ أي تهيجه وتنشره في طبقات السماء{[3619]}على أبعاد مختلفة متفاوتة . والسحاب والسحب والسحائب ، جمع ومفرده سحابة وهي الغيم{[3620]} .
قوله : { فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاء كَيْفَ يَشَاء } البسط ، معناه النشر{[3621]} فالله عز وجلا يسخر الرياح لتحمل في خلالها الغيم ، وهو المكون من ذرات الماء ، فتنشره في السماء متفرقا ممتدا تبعا لما تقتضيه مشيئة الله ، فإن شاء جعله قريبا أو بعيدا ، وإن شاء جعله كثيرا أو قليلا .
قوله : { وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا } أي يجعل الغيم في السماء قطعا متفرقة .
قوله : { فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ } { الْوَدْقَ } ، معناه المطر{[3622]} أي يخرج المطر من خلال السحاب وهو الغيم فينزل على الأرض { فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ } أي إذا صرف الله هذا المطر إلى أرض أو بلد من البلاد استبشر أهله بذلك ، وعمتهم الفرحة والبشرى .