( فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون ، وله الحمد في السماوات والأرض وعشيا وحين تظهرون ) . .
إن ذلك التسبيح وهذا الحمد يجيئان تعقيبا على مشهد القيامة في الفقرة السابقة ، وفوز المؤمنين بروضة فيها يحبرون ، وانتهاء الكافرين المكذبين إلى شهود العذاب . ومقدمة لهذه الجولة في ملكوت السماوات والأرض ، وأغوار النفس وعجائب الخلق . فيتسقان مع التعقيب على المشهد وعلى التقديم للجولة كل الاتساق .
والنص يربط التسبيح والحمد بالأوقات : الإمساء والإصباح والعشي والأظهار ؛ كما يربطهما بآفاق السماوات والأرض . فيتقصى بهما الزمان والمكان ؛ ويربط القلب البشري بالله في كل بقعة وفي كل أوان ؛ ويشعر بتلك الرابطة في الخالق مع هيكل الكون ودورة الأفلاك وظواهر الليل والنهار والعشي والأظهار . . ومن ثم يظل هذا القلب مفتوحا يقظا حساسا ، وكل ما حوله من مشاهد وظواهر ، وكل ما يختلف عليه من آونة وأحوال ، يذكره بتسبيح الله وحمده ؛ ويصله بخالقه وخالق المشاهد والظواهر والآونة والأحوال .
فهذه الأوقات الخمسة أوقات الصلوات الخمس أمر اللّه عباده بالتسبيح فيها والحمد ، ويدخل في ذلك الواجب منه كالمشتملة عليه الصلوات الخمس ، والمستحب كأذكار الصباح والمساء وأدبار الصلوات وما يقترن بها من النوافل ، لأن هذه الأوقات التي اختارها اللّه [ لأوقات المفروضات هي ] أفضل من غيرها [ فالتسبيح والتحميد فيها والعبادة فيها أفضل من غيرها ]{[644]} بل العبادة وإن لم تشتمل على قول " سبحان اللّه " فإن الإخلاص فيها تنزيه للّه بالفعل أن يكون له شريك في العبادة أو أن يستحق أحد من الخلق ما يستحقه من الإخلاص والإنابة .
الثانية- قوله تعالى : " وله الحمد في السماوات والأرض " اعتراض بين الكلام بدؤوب الحمد على نعمه وآلائه . وقيل : معنى " وله الحمد " أي الصلاة له لاختصاصها بقراءة الحمد . والأول أظهر . فإن الحمد لله من نوع تعظيم الله تعالى والحض على عبادته ودوام نعمته . فيكون نوعا آخر خلاف الصلاة ، والله أعلم . وبدأ بصلاة المغرب لأن الليل يتقدم النهار . وفي سورة " الإسراء " {[12454]} بدأ بصلاة الظهر إذ هي أول صلاة صلاها جبريل بالنبي صلى الله عليه وسلم . الماوردي : وخص صلاة الليل باسم التسبيح وصلاة النهار باسم الحمد لأن للإنسان في النهار متقلبا في أحوال توجب حمد الله تعالى عليها ، وفي الليل على خلوة توجب تنزيه الله من الأسواء فيها ؛ فلذلك صار الحمد بالنهار أخص فسميت به صلاة النهار ، والتسبيح بالليل أخص فسميت به صلاة الليل .
الثالثة- قرأ عكرمة " حينا تمسون وحينا تصبحون " والمعنى : حينا تمسون فيه وحينا تصبحون فيه ، فحذف " فيه " تخفيفا ، والقول فيه كالقول في " واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا " {[12455]} [ البقرة : 48 ] . " وعشيا وحين تظهرون " قال الجوهري : العشي والعشية من صلاة المغرب إلى العتمة ؛ تقول : أتيته عشية أمس وعشي أمس . وتصغير العشي : عشيان ، على غير قياس مكبره ، كأنهم صغروا عشيانا ، والجمع عشيانات . وقيل أيضا في تصغيره : عشيشيان ، والجمع عشيشيات . وتصغير العشية عشيشية ، والجمع عشيشيات . والعشاء ( بالكسر{[12456]} والمد ) مثل العشي . والعشاء إن{[12457]} المغرب والعتمة . وزعم قوم أن العشاء من زوال الشمس إلى طلوع الفجر ، وأنشدوا :
غدونا غدوةً سحرا بليل *** عشاءً بعدما انتصف النهارُ
الماوردي : والفرق بين المساء والعشاء : أن المساء بدو الظلام بعد المغيب ، والعشاء آخر النهار عند ميل الشمس للمغيب ، وهو مأخوذ من عشا العين ، وهو نقص النور من الناظر كنقص نور الشمس .
ولما ذكر ما يدل على خصوص التنزيه ، اتبعه ما يعرف بعموم الكمال ، فقال ذاكراً لوقت كمال النهار وكمال الظلام ، و{[52770]} تذكيراً بما يحدث عندهما للآدمي من النقص بالفتور والنوم اعتراضاً بين الأوقات للاهتمام{[52771]} بضم التحميد إلى التسبيح : { وله } أي وحده مع{[52772]} النزاهة عن شوائب النقص { الحمد } أي الإحاطة بأوصاف الكمال .
ولما قدم سبحانه أن تنزهه ملأ الأزمان ، وكان ذلك مستلزماً لملء الأكوان ، وكان إثبات الكمال أبين شرفاً من التنزيه{[52773]} عن النقص ، صرح فيه بالقبيلين فقال : { في السماوات } أي الأجرام العالية كلها التي{[52774]} تحريكها - مع أنها من الكبر في حد لا يحيط به إلا هو سبحانه - سبب للإمساء والإصباح وغيرهما من المنافع { والأرض } التي فيها من المنافع ما يجل عن إحاطتكم به مع أنها بالنسبة إلى السماء كحلقة ملقاة في فلاة ، ولولا ذلك لظهر لكم ذلك برؤية ما وراءها كما هو{[52775]} شأن كل مظل مع كل مقل كما تشاهدون السحاب ونحوه .
ولما خص الإمساء والإصباح ، عمّ فقال معبراً بما يدل على الدوام ، لأن وقت النوم الدال على النقص أولى بإثبات الكمال فيه : { وعشياً } أي من الزوال إلى الصباح { وحين تظهرون* } أي تدخلون في شدة الحر ، وسبحان الله في ذلك كله ، فالآية من الاحتباك : ذكر التسبيح أولاً دليلاً على إرادته ثانياً ، والحمد ثانياً دليلاً على إرادته أولاً{[52776]} ، ولعل المراد بالإظهار{[52777]} هنا ما هو أعم من وقت الظهر ليكون المراد به من حين يزول اسم الصباح من وقت ارتفاع الشمس إلى أن يحدث{[52778]} اسم المساء ، وهو من الظهر إلى الغروب - قاله{[52779]} ابن طريف{[52780]} في كتابه الأفعال ونقله عنه الإمام عبد الحق في كتابه الواعي ، وذلك حين استبداد{[52781]} النهار فيكون كماله فيما دون ذلك من باب الأولى ، وهذا مع هذه الدقائق إشارة إلى الصلوات الخمس ، أي سبحوه بالخضوع له بالصلاة في وقت المساء بصلاة العصر والمغرب ، وفي وقت الصباح بالصبح ، وفي العشى بالعشاء ، وفي الإظهار بالظهر ، وفي هذا التخريج من الحسن بيان الاهتمام بالصلاة الوسطى ، فابتدأ سبحانه بالعصر التي قولها أصح{[52782]} الأقوال ، ودخول المغرب في حيزها بطريق التبعية والقصد الثاني ، وثنى بالصبح وهي تليها في الأصحيّة وهما القريبتان ، لقوله صلى الله عليه وسلم : " من صلى البردين دخل الجنة " - رواه الشيخان{[52783]} عن أبي موسى رضي الله عنه ، " من صلى قبل طلوع الشمس وقبل غروبها وجبت له الجنة " - أسنده صاحب الفردوس{[52784]} عن عمارة بن{[52785]} رويبة رضي الله عنه ورواه مسلم{[52786]} وغيره عنه بلفظ : " لن يلج النار أحد صلى قبل طلوع الشمس وقبل غروبها " - يعني الفجر والعصر " كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم فنظر إلى القمر ليلة البدر{[52787]} فقال : " إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر ، لا تضامون في رؤيته ، فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا لا تفوتنكم{[52788]} " ، ثم قرأ { فسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل الغروب } رواه البخاري{[52789]} عن جرير بن عبد الله رضي الله عنه ، وحديث أبي هريرة رضي الله عنه في الصحيح{[52790]} " يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار ويجتمعون{[52791]} في صلاة الفجر وصلاة العصر " يدخل هنا .