في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{يَعۡلَمُ مَا يَلِجُ فِي ٱلۡأَرۡضِ وَمَا يَخۡرُجُ مِنۡهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ ٱلسَّمَآءِ وَمَا يَعۡرُجُ فِيهَاۚ وَهُوَ ٱلرَّحِيمُ ٱلۡغَفُورُ} (2)

ثم يكشف صفحة من صحائف علم الله ، مجالها الأرض والسماء :

( يعلم ما يلج في الأرض ، وما يخرج منها ، وما ينزل من السماء ، وما يعرج فيها ) . .

ويقف الإنسان أمام هذه الصفحة المعروضة في كلمات قليلة ، فإذا هو أمام حشد هائل عجيب من الأشياء ، والحركات ، والأحجام ، والأشكال ، والصور ، والمعاني ، والهيئات ، لا يصمد لها الخيال !

ولو أن أهل الأرض جميعا وقفوا حياتهم كلها يتتبعون ويحصون ما يقع في لحظة واحدة ، مما تشير إليه الآية لأعجزهم تتبعه وإحصاؤه عن يقين !

فكم من شيء في هذه اللحظة الواحدة يلج في الأرض ? وكم من شيء في هذا اللحظة يخرج منها ? وكم من شيء في هذه اللحظة ينزل من السماء ? وكم من شيء في هذه اللحظة يعرج فيها ?

كم من شيء يلج في الأرض ? كم من حبة تختبى ء أو تخبأ في جنبات هذه الأرض ? كم من دودة ومن حشرة ومن هامة ومن زاحفة تلج في الأرض في أقطارها المترامية ? كم من قطرة ماء ومن ذرة غاز ، ومن إشعاع كهرباء تندس في الأرض في أرجائها الفسيحة ? وكم وكم مما يلج في الأرض وعين الله عليه ساهرة لا تنام ?

وكم يخرج منها ? كم من نبتة تنبثق ? وكم من نبع يفور ? وكم من بركان يتفجر ? وكم من غاز يتصاعد ? وكم من مستور ينكشف ? وكم من حشرة تخرج من بيتها المستور ? وكم وكم مما يرى ومما لا يرى ، ومما يعلمه البشر ومما يجهلونه وهو كثير ?

وكم مما ينزل من السماء ? كم من نقطة مطر ? وكم من شهاب ثاقب ? وكم من شعاع محرق ، وكم من شعاع منير ? وكم من قضاء نافذ ومن قدر مقدور ? وكم من رحمة تشمل الوجود وتخص بعض العبيد . وكم من رزق يبسطه الله لمن يشاء من عباده ويقدر . . وكم وكم مما لا يحصيه إلا الله .

وكم مما يعرج فيها ? كم من نفس صاعد من نبات أو حيوان أو إنسان أو خلق آخر مما لا يعرفه الإنسان ? وكم من دعوة إلى الله معلنة أو مستسرة لم يسمعها إلا الله في علاه .

وكم من روح من أرواح الخلائق التي نعلمها أو نجهلها متوفاة . وكم من ملك يعرج بأمر من روح الله . وكم من روح يرف في هذا الملكوت لا يعلمه إلا الله .

ثم كم من قطرة بخار صاعدة من بحر ، ومن ذرة غاز صاعدة من جسم ? وكم وكم مما لا يعلمه سواه ? !

كم في لحظة واحدة ? وأين يذهب علم البشر وإحصاؤهم لما في اللحظة الواحدة ولو قضوا الأعمار الطوال في العد والإحصاء ? وعلم الله الشامل الهائل اللطيف العميق يحيط بهذا كله في كل مكان وفي كل زمان . . وكل قلب وما فيه من نوايا وخواطر وما له من حركات وسكنات تحت عين الله ، وهو مع هذا يستر ويغفر . . ( وهو الرحيم الغفور ) . .

وإن آية واحدة من القرآن كهذه الآية لمما يوحي بأن هذا القرآن ليس من قول البشر . فمثل هذا الخاطر الكوني لا يخطر بطبيعته على قلب بشر ؛ ومثل هذا التصور الكوني لا دافع إليه من طبيعة تصور البشر ، ومثل هذه الإحاطة باللمسة الواحدة تتجلى فيها صنعة الله بارىء هذا الوجود ! التي لا تشبهها صنعة العبيد !

 
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{يَعۡلَمُ مَا يَلِجُ فِي ٱلۡأَرۡضِ وَمَا يَخۡرُجُ مِنۡهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ ٱلسَّمَآءِ وَمَا يَعۡرُجُ فِيهَاۚ وَهُوَ ٱلرَّحِيمُ ٱلۡغَفُورُ} (2)

{ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ } أي : من مطر ، وبذر ، وحيوان { وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا } من أنواع النباتات ، وأصناف الحيوانات { وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ } من الأملاك والأرزاق والأقدار { وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا } من الملائكة والأرواح وغير ذلك .

ولما ذكر مخلوقاته وحكمته فيها ، وعلمه بأحوالها ، ذكر مغفرته ورحمته لها ، فقال : { وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ } أي : الذي الرحمة والمغفرة وصفه ، ولم تزل آثارهما تنزل على عباده كل وقت بحسب ما قاموا به من مقتضياتهما .

 
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي [إخفاء]  
{يَعۡلَمُ مَا يَلِجُ فِي ٱلۡأَرۡضِ وَمَا يَخۡرُجُ مِنۡهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ ٱلسَّمَآءِ وَمَا يَعۡرُجُ فِيهَاۚ وَهُوَ ٱلرَّحِيمُ ٱلۡغَفُورُ} (2)

قوله تعالى : " يعلم ما يلج في الأرض " أي ما يدخل فيها من قطر وغيره ، كما قال : " فسلكه ينابيع في الأرض " {[12950]} [ الزمر : 21 ] من الكنوز والدفائن والأموات وما هي له كفات{[12951]} . " وما يخرج منها " من نبات وغيره " وما ينزل من السماء " من الأمطار والثلوج والبرد والصواعق والأرزاق والمقادير والبركات . وقرأ علي بن أبي طالب " وما ننزل " بالنون والتشديد . " وما يعرج فيها " من الملائكة وأعمال العباد . قاله الحسن وغيره " وهو الرحيم الغفور " .


[12950]:راجع ج 15 ص 284 فما بعد و ص 245.
[12951]:الكفات: الموضع الذي يضم إليه الشيء ويقبض.
 
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي [إخفاء]  
{يَعۡلَمُ مَا يَلِجُ فِي ٱلۡأَرۡضِ وَمَا يَخۡرُجُ مِنۡهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ ٱلسَّمَآءِ وَمَا يَعۡرُجُ فِيهَاۚ وَهُوَ ٱلرَّحِيمُ ٱلۡغَفُورُ} (2)

ولما ختم بصفة الخبر ، أتبع ذلك ما يدل عليه فقال : { يعلم ما يلج في الأرض } أي هذا الجنس من المياه {[56327]}والأموال{[56328]} ، والأموات ، وقدم هذا لأن الشيء يغيب في التراب أولاً ثم يسقى فيخرج { وما يخرج منها } من المياه والمعادن والنبات { وما ينزل من السماء } أي هذا الجنس من حرارة وبرودة {[56329]}وماء{[56330]} وملك وغير ذلك { وما يعرج } ولما كانت السماوات{[56331]} أجساماً كثيفة متراقية ، لم يعبر بحرف الغاية كما في قوله تعالى{ إليه يصعد الكلم الطيب }[ فاطر : 10 ] بل قال : { فيها } أي{[56332]} من الأعمال والملائكة وكل ما يتصاعد من الأرض في جهة العلو وأنتم كما ترونه يميز كل شيء عن مشابهه ، فيميز ما له أهلية التولد من الماء والتراب في الأرض من النباتات{[56333]} عن بقية الماء والتراب على اختلاف أنواعه{[56334]} مميزاً بعضه من بعض ، ومن المعادن الذهب والفضة والحديد والنحاس والرصاص إلى غير ذلك ، مع أن الكل ما يخالط الزاب ، فكيف يستبعد عليه أن يحي الموتى لعسر تمييز تراب كل ميت بعد التمزق والاختلاط من تراب آخر .

ولما كان الحاصل من هذا المتقدم{[56335]} أنه رب كل شيء ، وكان الرب لا تنتظم ربوبيته إلا بالرفق والإصلاح{[56336]} ، وكان ربما ظن جاهل انه لا يعلم أعمال الخلائق لأنه لو علمها ما أقر عليها ، اعلم أن رحمته سبقت غضبه ، ولذلك قدم صفة الرحمة ، ولأنه في سياق الحمد ، فناسب تقديم الوصف الناظر إلى التكميل على الوصف النافي{[56337]} للنقص فقال : { وهو } أي{[56338]} والحال أنه وحده مع كثرة نعمه المقيمة للأبدان { الرحيم } أي المنعم بما ترضاه الإلهية من إنزال الكتب وإرسال الرسل لإقامة الأديان { الغفور * } أي المحاء للذنوب أما من اتبع ما أنزل من ذلك كما بلغته الرسل فبالمحو عيناً وأثراً حتى لا يعاقبهم على ما سلف منها ولا يعاتبهم ، وأما غيره فالتكفير بأنواع المحن أو التأخير إلى يوم الحشر .


[56327]:سقط ما بين الرقمين من ظ.
[56328]:سقط ما بين الرقمين من ظ.
[56329]:سقط ما بين الرقمين من ظ.
[56330]:سقط ما بين الرقمين من ظ.
[56331]:من ظ وم ومد، وفي الأصل: السماء.
[56332]:سقط من ظ.
[56333]:في ظ وم ومد: النبات.
[56334]:من ظ وم ومد، وفي الأصل: أنواع.
[56335]:من ظ وم ومد، وفي الأصل: التقدم.
[56336]:في ظ: الاصطلاح.
[56337]:من ظ وم ومد، وفي الأصل: الثاني.
[56338]:زيد من ظ وم ومد.