ويختم هذه الجولة في قضية الوحي والرسالة بالاشارة إلى كتاب موسى ، وتصديق هذا القرآن له - كما سبقت الإشارة في شهادة الشاهد من بني إسرائيل :
( ومن قبله كتاب موسى إماما ورحمة . وهذا كتاب مصدق لسانا عربيا ، لينذر الذين ظلموا وبشرى للمحسنين )
وقد كرر القرآن الإشارة إلى الصلة بين القرآن والكتب قبله ، وبخاصة كتاب موسى ، باعتبار أن كتاب عيسى تكملة وامتداد له . وأصل التشريع والعقيدة في التوراة . ومن ثم سمي كتاب موسى( إماما )ووصفه بأنه رحمة . وكل رسالة السماء رحمة للأرض ومن في الأرض ، بكل معاني الرحمة في الدنيا وفي الآخرة . . ( وهذا كتاب مصدق لسانا عربيا ) . . مصدق للأصل الأول الذي تقوم عليه الديانات كلها ؛ وللمنهج الإلهي الذي تسلكه الديانات جميعها ؛ وللاتجاه الأصيل الذي توجه البشرية إليه ، لتتصل بربها الواحد الكريم .
والإشارة إلى عروبته للامتنان على العرب ، وتذكيرهم بنعمة الله عليهم ، ورعايته لهم ، وعنايته بهم ؛ ومظهرها اختيارهم لهذه الرسالة ، واختيار لغتهم لتتضمن هذا القرآن العظيم .
وهذا كتاب مصدق : القرآن مصدق للكتب التي سبقته .
12- { ومن قبله كتاب موسى إماما ورحمة وهذا كتاب مصدق لسانا عربيا لينذر الذين ظلموا وبشرى للمحسنين } .
من قبل هذا القرآن أنزلنا التوراة على موسى ، مشتملة على حكم الله ودينه في التشريع والقصاص والعقائد ، والعبادات والمعاملات ، فالتوراة إمام حاكم ، وتشريع عادل ، ورحمة للعباد ببيان حكم رب العباد ، وهذا القرآن مصدق للتوراة مؤيد لها ، مهيمن على ما سبقه من الكتب السماوية ، يوافقها في الأصول التي قامت عليها ، وهي الدعوة إلى التوحيد ، وبيان مكارم الأخلاق ، والإيمان بالكتب والرسل واليوم الآخر .
وقد أنزل الله القرآن باللسان العربي ، تشريفا للعرب المرسل إليهم ، وليحذر الظالمين من ظلمهم ، ويبشر المحسنين برضوان الله في الدنيا ، وبالجنة في الآخرة .
قوله تعالى : { ومن قبله } أي : ومن قبل القرآن ، { كتاب موسى } يعني التوراة ، { إماماً } يقتدى به ، { ورحمةً } من الله لمن آمن به ، ونصبا على الحال عن الكسائي ، وقال عبيدة : فيه إضمار ، أي جعلناه إماماً ورحمة ، وفي الكلام محذوف ، تقديره : وتقدمه كتاب موسى إماماً ولم يهتدوا به ، كما قال في الآية الأولى : { وإذ لم يهتدوا به } { وهذا كتاب مصدق } أي : القرآن مصدق للكتب التي قبله ، { لساناً عربياً } نصب على الحال ، وقيل بلسان عربي ، { لينذر الذين ظلموا } يعني مشركي مكة ، قرأ أهل الحجاز والشام ويعقوب : ( لتنذر ) بالتاء على خطاب النبي صلى الله عليه وسلم ، وقرأ الآخرون : بالياء يعني الكتاب ، { وبشرى للمحسنين } و( بشرى ) في محل الرفع ، أي هذا كتاب مصدق وبشرى . { إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون أولئك أصحاب الجنة خالدين فيها جزاء بما كانوا يعملون } .
قوله تعالى : " ومن قبله " أي ومن قبل القرآن " كتاب موسى " أي التوراة " إماما " يقتدى بما فيه . و " إماما " نصب على الحال ، لأن المعنى : وتقدمه كتاب موسى إماما . " ورحمة " معطوف عليه . وقيل : انتصب بإضمار فعل ، أي أنزلناه إماما ورحمة . وقال الأخفش : على القطع ؛ لأن كتاب موسى معرفة بالإضافة ، لأن النكرة إذا أعيدت أو أضيفت أو أدخل عليها ألف ولام صارت معرفة . " ورحمة " من الله . وفي الكلام حذف ، أي فلم تهتدوا به . وذلك أنه كان في التوراة نعت النبي صلى الله عليه وسلم والإيمان به فتركوا ذلك . و " إماما " نصب على الحال ، لأن المعنى : وتقدمه كتاب موسى إماما . " ورحمة " معطوف عليه . وقيل : انتصب بإضمار فعل ، أي أنزلناه إماما ورحمة . وقال الأخفش : على القطع ، لأن كتاب موسى معرفة بالإضافة ، لأن النكرة إذا أعيدت أو أضيفت أو أدخل عليها ألف ولام صارت معرفة . " وهذا كتاب " يعني القرآن " مصدق " يعني للتوراة ولما قبله من الكتب . وقيل : مصدق للنبي صلى الله عليه وسلم . " لسانا عربيا " منصوب على الحال ، أي مصدق لما قبله عربيا ، و " لسانا " توطئة للحال أي تأكيد ، كقولهم : جاءني زيد رجلا صالحا ، فتذكر رجلا توكيدا .
وقيل : نصب بإضمار فعل تقديره : وهذا كتاب مصدق أعني لسانا عربيا . وقيل : نصب بإسقاط حرف الخفض تقديره : بلسان عربي . وقيل : إن لسانا مفعول والمراد به النبي صلى الله عليه وسلم ، أي وهذا كتاب مصدق للنبي صلى الله عليه وسلم لأنه معجزته ، والتقدير : مصدق ذا لسان عربي . فاللسان منصوب بمصدق ، وهو النبي صلى الله عليه وسلم . ويبعد أن يكون اللسان القرآن ، لأن المعنى يكون يصدق نفسه . " لينذر الذين ظلموا " قراءة العامة " لينذر " بالياء خبر عن الكتاب ، أي لينذر الذين ظلموا أنفسهم بالكفر والمعصية . وقيل : هو خبر عن الرسول صلى الله عليه وسلم . وقرأ نافع وابن عامر والبزي بالتاء ، واختاره أبو عبيد وأبو حاتم ، على خطاب النبي صلى الله عليه وسلم ، قال الله تعالى : " إنما أنت منذر " [ الرعد : 7 ] . " وبشرى للمحسنين " " بشرى " في موضع رفع ، أي وهو بشرى . وقيل : عطفا على الكتاب ، أي وهذا كتاب مصدق وبشرى . ويجوز أن يكون منصوبا بإسقاط حرف الخفض ، أي لينذر الذين ظلموا وللبشرى ، فلما حذف الخافض نصب . وقيل : على المصدر ، أي وتبشر المحسنين بشرى ، فلما جعل مكان وتبشر بشرى أو بشارة نصب ، كما تقول : أتيتك لأزورك ، وكرامة لك وقضاء لحقك ، يعني لأزورك وأكرمك وأقضي حقك ، فنصب الكرامة بفعل مضمر .
ولما كان هذا الكلام ساقطاً في نفسه لما قام من الأدلة الباهرة على صدق القرآن وكان الوقوف مع المحسوسات غالباً عليهم لعدم نفوذهم في المعقولات ، دل على بطلانه{[58678]} لموافقة القرآن لأعظم{[58679]} الكتب القديمة التوراة التي اشتهر أنها من عند الله وأن الآتي بها كلم وقد صدقه الله في الإتيان بها بما لم يأت به نبي قبله من المعجزات والآيات البينات وهم يستفتون أهلها ، فقال على وجه التبكيت لهم-{[58680]} والتوبيخ : { ومن } أي قالوا ذلك والحال أنه كان في بعض الزمن الذي من { قبله } أي القرآن العظيم {[58681]}الذي حرموا تدبر آياته وحل مشكلاته وأعجزهم فصاحته{[58682]} { كتاب موسى } كلم الله وصفوته عليه الصلاة والسلام وهو التوراة التي كلمه الله{[58683]} بها تكليماً حال كون{[58684]} كتابه { إماماً } أي يستحق أن يؤمه كل من سمع به في أصول الدين مطلقاً وفي جميع ما فيه قبل تحريفه ونسخه وتبديله { ورحمة } لما فيه من نعمة الدلالة على الله والبيان الشافي فهبهم{[58685]} طعنوا في هذا القرآن وهم لا يقدرون على الطعن في كتاب موسى الذي قد سلموا لأهله أنهم أهل العلم وجعلوهم حكماء يرضون بقولهم في هذا النبي الكريم ، وكتابهم مصادق{[58686]} لكتابهم{[58687]} فقد صاروا بذلك مصدقين بما كذبوا به ، ولذلك قال الله تعالى : { وهذا } أي القرآن {[58688]}المبين المبيّن{[58689]} { كتاب } أي جامع لجميع الخيرات .
ولما أريد تعميم التصديق بجميع الكتب الإلهية والحقوق الشرعية ، حذف المتعلق فقال : { مصدق{[58690]} } أي{[58691]} لكتاب موسى عليه الصلاة والسلام وغيره من الكتب التي تصح نسبتها إلى الله تعالى فإن{[58692]} جميع الكتب التي جاءت به الرسل ناطقة بتوحد الله وأن هذا الكتاب لم يخرج عن هذا{[58693]} فأنّى يصح فيما{[58694]} هذا شأنه أن يكون{[58695]} إفكاً ، إنما الإفك ما كذب كتب الله التي أتت بها أنبياؤه وتوارثها أولياؤه .
ولما كان الكتاب قد تقوم الأدلة على مصادقته لكتب الله ويكون بغير لسان المكذب{[58696]} به فيكون في التكذيب أقل ملامة ، احترز عن ذلك بقوله : { لساناً } أي أشير إلى هذا المصدق القريب منكم زماناً ومكاناً وفهماً حال كونه { عربياً } في أعلى طبقات اللسان العربي مع كونه أسهل الكتب تناولاً وأبعدها{[58697]} عن التكليف{[58698]} ، ليس هو بحيث يمنعه علوه بفخامة الألفاظ وجلالة المعاني وعلو النظم و{[58699]}رصافة السبك{[58700]} ووجازة العبارة ، وظهور المعاني ودقة الإشارة مع سهولة الفهم وقرب المتناول بعد بعد المغزى .
ولما دل على أن الكتاب حق ، بين ثمرته فقال : { لينذر } أي أشير إلى الكتاب في هذا الحال لينذر الكتاب-{[58701]} بحسن بيانه وعظيم شأنه { الذين ظلموا } سواء كانوا عريقين في الظلم أم لا ، فأما العريقون فهو لهم نذري كاملة ، فإنهم لا يهتدون كما تقدم ، وأما غيرهم فيهتدي بنذارته ويسعد بعبارته وإشارته ، وليبشر الذين أحسنوا في وقت ما { ما } هو { بشرى } {[58702]}كاملة { للمحسنين * } لا نذارة لهم لا في الدنيا ولا في الآخرة ، فالآية من الاحتباك : أثبت أولاً { ينذر{[58703]} } و-{[58704]} { الذين ظلموا } دلالة على حذف نحوه ثانياً ، { وبشرى } و { للمحسنين } ثانياً دلالة على-{[58705]} { نذري } { وللظالمين } أولاً .