وهكذا يبدأ الهجوم منذ البدء على تقولهم الظالم وادعائهم القبيح ، الذي لا يستند إلى شبهة ولا ظل من دليل . ثم يرتقي في إنكار مقولتهم الأخرى . . ( افتراه ) . . فلا يسوقها في صيغة الخبر بل في صيغة الاستفهام . كأن هذا القول لا يمكن أن يقال ، وبعيد أن يقال :
فيبلغ بهم التطاول أن يقولوا هذه المقولة التي لا تخطر على بال ? !
ويلقن الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] أن يرد عليهم بأدب النبوة ، الذي ينم عن حقيقة شعوره بربه ، وشعوره بوظيفته ، وشعوره بحقيقة القوى والقيم في هذا الوجود كله :
( قل : إن افتريته فلا تملكون لي من الله شيئا . هو أعلم بما تفيضون فيه . كفى به شهيدا بيني وبينكم . وهو الغفور الرحيم ) . .
قل لهم : كيف أفتريه ? ولحساب من أفتريه ? ولأي هدف أفتريه ? أأفتريه لتؤمنوا بي وتتبعوني ? ولكن : ( إن افتريته فلا تملكون لي من الله شيئا ) . . وهو آخذني بما افتريت . فماذا يجديني أن تكونوا معي وأن تتبعوني . وأنتم أعجز من أن تحموني من الله حين يأخذني بافترائي ، وأضعف من أن تنصروني ? !
وهو الرد اللائق بنبي ، يتلقى من ربه ، ولا يرى في الوجود غيره ، ولا يعرف قوة غير قوته ، وهو رد كذلك منطقي يدركه المخاطبون به لو حكموا عقولهم فيه . يجيبهم به ، ثم يترك أمرهم لله : ( هو أعلم بما تفيضون فيه ) . . من القول والفعل . وهو يجزيكم بما يعلمه من أمركم . ( كفى به شهيدا بيني وبينكم ) . . يشهد ويقضي ، وفي شهادته الكفاية وفي قضائه . ( وهو الغفور الرحيم ) . . وقد يرأف بكم ، فيهديكم رحمة منه ، ويغفر لكم ما كان من ضلالكم قبل الهدى والإيمان . .
رد فيه تحذير وترهيب . وفيه إطماع وتحضيض . يأخذ على القلب مسالكه ، ويلمس أوتاره . ويشعر السامعين أن الأمر أجل من مقولاتهم الهازلة ، وادعاءاتهم العابثة . وأنه في ضمير الداعية أكبر وأعمق مما يشعرون .
تفيضون : تندفعون وتخوضون فيه .
8- { أم يقولون افتراه قل إن افتريته فلا تملكون لي من الله شيئا هو أعلم بما تفيضون فيه كفى به شهيدا بيني وبينكم وهو الغفور الرحيم } .
في هذه الآية رد على الكفار ، وبيان لعظمة الألوهية ، وإطلاع الله على كل شيء ، وأنه منتقم ممن كذب عليه ، وهو الحكم بين النبي وقومه ، وهو سبحانه غفور لمن تاب ، وقد جمعت الآية بين تعظيم الله جل جلاله والرد على اتهام الكفار للرسول ، وفتح الباب أمام توبة التائبين منهم .
بل أيقولن إن محمدا افترى هذا القرآن واختلقه من عند نفسه ، وثم نسبه زورا إلى الله ؟
ثم يلقن الله رسوله الحجة ليقول لهم :
{ إن افتريته فلا تملكون لي من الله شيئا . . . }
أي : لمن أفتري ؟ ألأجل أن أكسب أتباعا يؤمنون برسالتي من البشر ؟ إن الله أقوى من كل قوي ، وهو على كل شيء قدير ، وإذا كذبت عليه فمن يعصمني من بطشه وأخذه وقوته .
والخلاصة : أنا لا أكسب مخلوقا وأسخط خالقا ، لأن هذا الخالق إذا غضب علي فلن يملك أحد منكم أن يعصمني من عقوبته لي .
{ هو أعلم بما تفيضون فيه . . . }
لقد أحاط علم الله بكل شيء ، وبما تندفعون فيه من القول ، واتهامكم للقرآن بأنه سحر أو شعر أو أساطير الأولين ، واتهامكم لمحمد صلى الله عليه وسلم بصنوف الفِرى .
{ كفى به شهيدا بيني وبينكم . . . }
إن الله تعالى يشهد لي بالصدق ، وبأنه أنزل القرآن من عنده على محمد صلى الله عليه وسلم ، وكفى بشهادة الله تعالى شهادة تكفيني وتشرفني ، وقد رضيت بحكمه بيني وبينكم ، وفي ذلك من تعظيم الله والرضا بشهادته وإطلاعه ، وتهديد الكافرين بما يستحقونه من عقوبة الله الشهيد على كل نفس بما كسبت .
من قصد بابه تائبا غفر له وشمله برحمته وفضله ، ونعمته وقبوله ، فما أوسع فضله ، وما أوسع رحمته لمن تاب إليه ورجع إلى مرضاته .
قال تعالى : { ورحمتي وسعت كل شيء . . . } ( الأعراف : 156 ) .
قوله تعالى : { أم يقولون افتراه } محمد من قبل نفسه ، فقال الله عز وجل : { قل } يا محمد . { إن افتريته فلا تملكون لي من الله شيئا } لا تقدرون أن تردوا عني عذابه إن عذبني على افترائي ، فكيف أفتري على الله من أجلكم ، { هو أعلم } الله أعلم . { بما تفيضون فيه } تخوضون فيه من التكذيب بالقرآن والقول فيه إنه سحر . { كفى به شهيداً بيني وبينكم } أن القرآن جاء من عنده ، { وهو الغفور الرحيم } في تأخير العذاب عنكم ، قال الزجاج : هذا دعاء لهم إلى التوبة ، معناه : إن الله عز وجل غفور لمن تاب منكم رحيم به .
قوله تعالى : " أم يقولون افتراه " الميم صلة ، التقدير : أيقولون افتراه ، أي تقوله محمد . وهو إضراب عن ذكر تسميتهم الآيات سحرا . ومعنى الهمزة في " أم " الإنكار والتعجب ، كأنه قال : دع هذا واسمع قولهم المستنكر المقضي منه العجب . وذلك أن محمدا كان لا يقدر عليه حتى يقوله ويفتريه على الله ، ولو قدر عليه دون أمة العرب لكانت قدرته عليه معجزة لخرقها العادة ، وإذا كانت معجزة كانت تصديقا من الله له ، والحكيم لا يصدق الكاذب فلا يكون مفتريا ، والضمير للحق ، والمراد به الآيات . " قل إن افتريته " على سبيل الفرض . " فلا تملكون لي من الله شيئا " أي لا تقدرون على أن تردوا عني عذاب الله ، فكيف أفتري على الله لأجلكم . " هو أعلم بما تفيضون فيه " أي تقولونه ، عن مجاهد . وقيل : تخوضون فيه من التكذيب . والإفاضة في الشيء : الخوض فيه والاندفاع . أفاضوا في الحديث أي اندفعوا فيه . وأفاض البعير أي دفع جرته من كرشه فأخرجها ، ومنه قول الشاعر :
وأفضن بعد كُظُومِهنَّ بجرّة{[13816]}
وأفاض الناس من عرفات إلى منى أي دفعوا ، وكل دفعة إفاضة . " كفى به شهيدا بيني وبينكم " " كفى به شهيدا " نصب على التمييز . " بيني وبينكم " أي هو يعلم صدقي وأنكم مبطلون . " وهو الغفور " لمن تاب " الرحيم " بعباده المؤمنين .
ولما دلت هذه الآيات بعظيم {[58570]}حججها وزخار ما{[58571]} أغرق من لججها ، على أن ما يدينون به أوهى{[58572]} من الخيال ، وأن هذا الكتاب في صدقه وكل شيء من أمره أثبت من الجبال{[58573]} ، فكانوا أجدر الخلق بأن يقولوا : رجعنا عما كنا فيه وآمنا{[58574]} ، كان موضع أن يقال : هل أقروا بأنك صادق في نسبة هذا الكتاب إلى الله ، فعادله بقوله دليلاً عليه : { أم يقولون } مجددين لذلك متابعين{[58575]} له { افتراه } أي تعمد كذبه ، فيكون ذلك من قولهم عجباً لأنه قول مقرون بما يكذبه ويبطله كما يأتي في تقريره .
ولما كان كأنه قيل : إنهم ليقولون ذلك ، وقد قرحوا القلوب به فماذا يردهم عنه ؟ قيل-{[58576]} : { قل } ما هو أشد عليهم من وقع النبل ، وهو ما يرد ما رموك به عليهم بحجة هي أجلى من الشمس في الظهيرة صحواً{[58577]} ليس دونها سحاب . ولما كان من عادة الملوك أنه متى كذب عليهم أحد {[58578]}عاجلوه بالعقوبة{[58579]} قال : { إن افتريته } أي تعمدت كذبه على زعمكم{[58580]} وأنا إنما أريد به-{[58581]} نصيحتكم ، فالذي{[58582]} أفتريه عليه وأنسبه إليه يعاقبني على ذلك ولا يتركني أصلاً ، وذلك هو معنى قوله : { فلا تملكون } أي أيها المنصوحون في وقت من الأوقات بوجه من الوجوه { لي من الله } أي الملك الأعظم العزيز المتكبر الحكيم { شيئاً } مما يرد عني انتقامه مني لأن الملك لا يترك من كذب عليه مطلق كذب ، فكيف بمن يتعمد{[58583]} الكذب عليه في الرسالة بأمور عظيمة ويلازمه مساء وصباحاً غدواً ورواحاً ، فأي {[58584]}حامل لي حينئذ{[58585]} على افترائه ، والمقصود به-{[58586]} لا ينفعني ، والمكذوب عليه لا يتركني ؛ ثم علل ما أفاده الكلام من وجوب الانتقام بقوله : { هو أعلم } أي منكم ومن كل أحد { بما تفيضون فيه } من نسبتي إلى الكذب ، فلو أنه كما تقولون ما ناظرني فضلاً عن أنه يؤيدني وينصرني ، وفيه على ذلك تهديد لهم وتسلية له وتفريج عنه .
ولما كان الإملاء وحده ليس قاطعاً في ذلك وإن كان ظاهراً فيه ، فكان لا بد في دعوى الصدق من دليل قاطع وبرهان ساطع ، وكانت شهادة الملك الذي الكلام فيه أعظم الأدلة لأنه الأعلم ، ومدار الشهادة العلم ، فأنتج الكلام قطعاً قوله : { كفى } وأكد الكلام بما قرن بالفاعل من حرف الجر تحقيقاً للفعل ونفياً للمجاز{[58587]} فقال : { به شهيداً } أي شاهداً بليغ الشهادة لأنه الأعلم بجميع أحوالنا { بيني وبينكم } يشهد بنفسه الأقدس للصادق منا وعلى الكاذب ، وقد شهد بصدقي بعجزكم عن معارضة شيء من هذا الكتاب الذي أتيت به فثبت بذلك أنه كلامه لأني لا أقدر وحدي على ما لا تقدرون عليه فرادى ولا مجتمعين وأنتم عرب مثلي ، بل وأنا أمي وفيكم أنتم-{[58588]} الكتبة والذين خالطوا العلماء وسمعوا أحاديث الأمم وضربوا - بعد بلاد العجم - في بلاد العرب ، فظهر بذلك ظهور الشمس أنكم كاذبون { وهو الغفور } الذي من شأنه أن يمحو الذنوب كلها{[58589]} {[58590]}أعيانها وآثارها{[58591]} فلا يعاقب عليها ولا يعاتب { الرحيم * } الذي يكرم بعد المغفرة ويفضل بالتوفيق لما يرضيه ، ففي هذا الختام ترغيب للنبي صلى الله عليه وسلم في الصفح عنهم فيما{[58592]} نسبوه إليه في افتتاحها من الافتراء ، وندب إلى الإحسان إليهم ، وترغيب لهم في التوبة ، ومنع من أن يقولوا : فلم لا يعاجلنا بالعقوبة على نسبتنا لك إلى-{[58593]} الكذب إن كنت صادقاً بأنه يجوز أن يمهل الكاذب ، وأما أنه يؤيده بما{[58594]} يشد به كذبه اللازم منه أنه يزيد فيه فلا يجوز ، لأن ذلك قادح في الحكمة وفي-{[58595]} الكبرياء وفي الملك .