( اصبر على ما يقولون ، واذكر عبدنا داود ذا الأيد ، إنه أواب إنا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشي والإشراق . والطير محشورة كل له أواب . وشددنا ملكه وآتيناه الحكمة وفصل الخطاب ) . .
( اصبر ) . . إنها الإشارة إلى الطريق المطروق في حياة الرسل - عليهم صلوات الله - الطريق الذي يضمهم أجمعين . فكلهم سار في هذا الطريق . كلهم عانى . وكلهم ابتلي . وكلهم صبر . وكان الصبر هو زادهم جميعاً وطابعهم جميعاً . كل حسب درجته في سلم الأنبياء . . لقد كانت حياتهم كلها تجربة مفعمة بالابتلاءات ؛ مفعمة بالآلام ؛ وحتى السراء كانت ابتلاء وكانت محكاً للصبر على النعماء بعد الصبر على الضراء . وكلتاهما في حاجة إلى الصبر والاحتمال . .
ونستعرض حياة الرسل جميعاً - كما قصها علينا القرآن الكريم - فنرى الصبر كان قوامها ، وكان العنصر البارز فيها . ونرى الابتلاء والامتحان كان مادتها وماءها . .
لكأنما كانت تلك الحياة المختارة - بل إنها لكذلك - صفحات من الابتلاء والصبر معروضة للبشرية ، لتسجل كيف تنتصر الروح الإنسانية على الآلام والضرورات ؛ وكيف تستعلي على كل ما تعتز به في الأرض ؛ وتتجرد من الشهوات والمغريات ؛ وتخلص لله وتنجح في امتحانه ، وتختاره على كل شيء سواه . . ثم لتقول للبشرية في النهاية : هذا هو الطريق . هذا هو الطريق إلى الاستعلاء ، وإلى الارتفاع . هذا هو الطريق إلى الله .
( اصبر على ما يقولون ) . . وقد قالوا : ( هذا ساحر كذاب ) . . وقالوا : ( أجعل الآلهة إلهاً واحداً ? إن هذا لشيء عجاب ) . . وقالوا : ( أأنزل عليه الذكر من بيننا ? ) . . وغير ذلك كثير . والله يوجه نبيه إلى الصبر على ما يقولون . ويوجهه إلى أن يعيش بقلبه مع نماذج أخرى غير هؤلاء الكفار . نماذج مستخلصة كريمة . هم إخوانه من الرسل الذين كان يذكرهم [ صلى الله عليه وسلم ] ويحس بالقرابة الوثيقة بينه وبينهم ؛ ويتحدث عنهم حديث الأخوة والنسب والقرابة . وهو يقول . . رحم الله أخي فلاناً . . أو أنا أولى بفلان .
( اصبر على ما يقولون واذكر عبدنا داود ذا الأيد إنه أواب ) . .
يذكر داود هنا بأنه ذو القوة . وبأنه أواب . . وقد جاء من قبل ذكر قوم نوح وعاد وفرعون ذي الأوتاد وثمود وقوم لوط وأصحاب الأيكة . . وهم طغاة بغاة . كان مظهر قوتهم هو الطغيان والبغي والتكذيب . فأما داود فقد كان ذا قوة ، ولكنه كان أواباً ، يرجع إلى ربه طائعاً تائباً عابداً ذاكراً . وهو القوي ذو الأيد والسلطان .
وقد مضى في سورة البقرة بدء قصة داود ، وظهوره في جيش طالوت ، في بني إسرائيل - من بعد موسى - إذ قالوا لنبي لهم : ابعث لنا ملكاً نقاتل في سبيل الله . فاختار لهم طالوت ملكاً . ولقي بهم عدوهم الجبار جالوت وجنوده . وقتل داود جالوت . وكان إذ ذاك فتى . ومنذ ذلك الحين ارتفع نجمه حتى ولي الملك أخيراً ؛ وأصبح ذا سلطان . ولكنه كان أواباً رجاعاً إلى ربه بالطاعة والعبادة والذكر والاستغفار .
{ اصبر على ما يقولون واذكر عبدنا داوود ذا الأيد إنه أواب ( 17 ) إنا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشي والإشراق ( 18 ) والطير محشورة كل له أواب ( 19 ) وشددنا ملكه وآتيناه الحكمة وفصل الخطاب ( 20 )* }
الأيد : القوة في العبادة ، وكان يصوم يوما ويفطر يوما .
أواب : رجاع إلى الله أو مسبّح ، من قولهم : آب إذا رجع ، قال عبيد بن البرص :
وكل ذي غيبة يئوب وغائب الموت لا يئوب
17-{ اصبر على ما يقولون واذكر عبدنا داوود ذا الأيد إنه أواب } .
أي : اصبر يا محمد على أذى قومك ، وعلى قولهم : { ساحر كذاب } . وقولهم : { اجعل الآلهة إلها واحدا . . . } وغير ذلك من أقوالهم ، واذكر لهم قصة داود عليه السلام ، صاحب القوة في الدين ، والرجوع إلى الله تعالى بالصلاة والتسبيح وقراءة الزبور والمزامير .
قال ابن كثير : ثبت في الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " أحب الصلاة إلى الله تعالى صلاة داود ، وأحب الصيام إلى الله عز وجل صيام داود ، كان ينام نصف الليل ، ويقوم ثلثه ، وينام سدسه ، وكان يصوم يوما ويفطر يوما ، ولا يفرّ إذا لاقى ، وإنه كان أوبا " {[573]} .
أي : رجاعا إلى الله تعالى في جميع شئونه ، فكان كلما ذكر ذنبه أو خطر على باله ، استغفر الله .
وأخرج البخاري في تاريخه ، عن أبي الدرداء قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا ذكر داود وحدث عنه قال : " كان أعبد البشر "
والخلاصة : إن داود كان قويا في دينه بالصلاة والصيام والعبادة ، وكان رجاعا توابا على الله .
وفي القرآن الكريم : { فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل . . . } [ الأحقاب : 35 ] .
ولما بلغ السيل في ركوبهم الباطل عناداً - الزبى ، وتجاوز في طغيانه رؤوس الربى ، وكان سؤالهم في تعجيل العذاب استهزاء مع ما قدموا من الإكذاب ، والكلام البعيد عن الصواب ، ربما اقتضى أن يسأل في تعجيل ما طلبوا ، وربما أوقع في ظن أن إعراضهم والابتلاء بهم ربما كان لشيء في البلاغ أو المبلغ ، بين تعالى أن عادته الابتلاء للصالحين رفعة لدرجاتهم ، فقال تعالى مسلياً ومعزياً ومؤسياً لهذا النبي الكريم صلى الله عليه وسلم بمن تقدمه من إخوانه الأنبياء والمرسلين ، مذكراً له بما قاسوا من الشدائد وما لاقوا من المحن ، وحاثاً على العمل بأعمالهم آمراً بالتأني والتؤدة والحلم ، ومحذراً من العجلة والتبرم والضجر ، وبدأ بأهل الشرف لأن السياق لشرف القرآن الذي يلزم منه شرف صاحبه ، تعريفاً بأنه لا يلزم من الشرف الراحة في الدنيا ، ومنبهاً على أن شرفه محوج عن قرب بكثرة الأتباع إلى الحكم بين ذوي الخصومات والنزاع الذي لا قوام له إلا بالحلم والأناة والصبر ، وبدأ من أهل الشرف بمن كان أول أمره مثل أول أمر هذا النبي الكريم في استضعاف قومه له وآخر أمره ملكاً ثابت الأركان مهيب السلطان ، ليكون حاله مثلاً له فيحصل به تمام التسلية : { اصبر } وأشار بحرف الاستعلاء إلى عظيم الصبر فقال : { على ما } وزاد في الحث عليه بالمضارع فقال : { يقولون } أي يجددون قوله في كل حين من الأقوال المنكية الموجعة المبكية ، فإنه ليس لنقص فيك ، ولكنه لحكم تجل عن الوصف ، مدارها زيادة شرفك ورفعة درجاتك ، وصرف الكلام إلى مقام العظمة لاقتضاء ما يذكر من التسخير لذلك : { واذكر عبدنا } أي الذي أخلصناه لنا وأخلص نفسه للنظر إلى عظمتنا والقيام في خدمتنا ، وأبدل منه أو بينه بقوله : { داود ذا الأيد } أي القوى العظيمة في تخليص نفسه من علائق الأجسام ، فكانت قوته في ذلك سبباً لعروجه إلى المراتب العظام .
ولما كان أعظم الجهاد الإنقاذ من حفائر الهفوات وأوامر الشهوات ، بالإصعاد في مدارج الكمالات ، ومعارج الإقبال ، وكان ذلك لا يكاد يوجد في الآدميين لما حفوا به من الشهوات وركز في طباعهم من الغفلات ، علل قوته بقوله مؤكداً : { إنه أواب * } أي رجاع إلى الله تعالى ليصير إلى ما خلقه عليه من أحسن تقويم بالعقل المحض أطلق العلو درجة درجة على الرجوع ، لأن ذلك دون الرتبة التي تكون نهاية عند الموت ، فكان المقضي له بها أنزل نفسه عنها ، ثم صار يرجع إليها كل لحظة بما يكابد من المجاهدات والمنازلات والمحاولات حتى وصل إليها بعد التجرد عن الهوى كله .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.