في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَعَجِبُوٓاْ أَن جَآءَهُم مُّنذِرٞ مِّنۡهُمۡۖ وَقَالَ ٱلۡكَٰفِرُونَ هَٰذَا سَٰحِرٞ كَذَّابٌ} (4)

يطرق قلوبهم تلك الطرقة ، ويوقع عليها هذا الإيقاع قبل أن يعرض تفصيل تلك العزة وهذا الشقاق . . ثم يفصل الأمر ويحكي ما هم فيه من عزة وشقاق :

( وعجبوا أن جاءهم منذر منهم ، وقال الكافرون : هذا ساحر كذاب . أجعل الآلهة إلهاً واحداً ? إن هذا لشيء عجاب ! وانطلق الملأ منهم : أن امشوا واصبروا على آلهتكم . إن هذا لشيء يراد . ما سمعنا بهذا في الملة الآخرة . إن هذا إلا اختلاق ) . .

هذه هي العزة : ( أأنزل عليه الذكر من بيننا ) . . وذلك هو الشقاق : ( أجعل الآلهة إلهاً واحداً . . ? ) . .

( ما سمعنا بهذا في الملة الآخرة . . ! ) . . ( هذا ساحر كذاب ) . . ( إن هذا إلا اختلاق ) . . الخ . الخ . .

وقصة العجب من أن يكون الرسول بشراً قصة قديمة ، مكرورة معادة ، قالها كل قوم وتعللوا بها منذ بدء الرسالات . وتكرر إرسال الرسل من البشر ؛ وظل البشر مع هذا يكررون الاعتراض :

( وعجبوا أن جاءهم منذر منهم ) . .

وأوجب شيء وأقرب شيء إلى الحكمة والمنطق أن يكون المنذر منهم . بشراً يدرك كيف يفكر البشر وكيف يشعرون ؛ ويحس ما يعتلج في نفوسهم ، وما يشتجر في كيانهم ، وما يعانون من نقص وضعف ، وما يجدون من ميول ونزعات ، وما يستطيعون أو لا يستطيعون من جهد وعمل ، وما يعترضهم من عوائق وعقبات ، وما يعتريهم من مؤثرات واستجابات . .

بشراً يعيش بين البشر - وهو منهم - فتكون حياته قدوة لهم ؛ وتكون لهم فيه أسوة . وهم يحسون أنه واحد منهم ، وأن بينهم وبينه شبهاً وصلة . فهم مطالبون إذن بالمنهج الذي يأخذ به نفسه ، ويدعوهم لاتباعه . وهم قادرون على الأخذ بهذا المنهج فقد حققه أمامهم بشر منهم في واقع حياته . . .

بشراً منهم . من جيلهم . ومن لسانهم . يعرف مصطلحاتهم وعاداتهم وتقاليدهم وتفصيلات حياتهم . ويعرفون لغته ، ويفهمون عنه ، ويتفاهمون معه ، ويتجاوبون وإياه . ومن ثم لا تقوم بينه وبينهم جفوة من اختلاف جنسه . أو اختلاف لغته . أو اختلاف طبيعة حياته أو تفصيلات حياته .

ولكن أوجب شيء وأقربه إلى أن يكون ، هو الذي كان دائماً موضع العجب ، ومحط الاستنكار ، وموضوع التكذيب ! ذلك أنهم كانوا لا يدركون حكمة هذا الاختيار ؛ كما كانوا يخطئون تصور طبيعة الرسالة . وبدلاً من أن يروها قيادة واقعية للبشرية في الطريق إلى الله . كانوا يتصورونها خيالية غامضة محوطة بالأسرار التى لا يصح أن تكون مفهومة هكذا وقريبة ! كانوا يريدونها مثلاً خيالية طائرة لا تلمس بالأيدي ، ولا تبصر في النور ، ولا تدرك في وضوح ، ولا تعيش واقعية في دنيا الناس ! وعندئد يستجيبون لها كأسطورة غامضة كما كانوا يستجيبون للأساطير التي تؤلف عقائدهم المتهافتة !

ولكن الله أراد للبشرية - وبخاصة في الرسالة الأخيرة - أن تعيش بهذه الرسالة عيشة طبيعية واقعية . عيشة طيبة ونظيفة وعالية ، ولكنها حقيقة في هذه الأرض . لا وهماً ولا خيالاً ولا مثلاً طائراً في سماء الأساطير والأحلام ! يعز على التحقيق ويهرب في ضباب الخيالات والأوهام !

( وقال الكافرون : هذا ساحر كذاب ) . .

قالوا كذلك استبعاداً لأن يكون الله قد أوحى إلى رجل منهم . وقالوه كذلك تنفيراً للعامة من محمد [ صلى الله عليه وسلم ] وتهويشاً على الحق الواضح في حديثه ، والصدق المعروف عن شخصه .

والحق الذي لا مرية فيه أن كبراء قريش لم يصدقوا أنفسهم لحظة وهم يقولون عن محمد بن عبدالله [ صلى الله عليه وسلم ] الذي يعرفونه حق المعرفة : إنه ساحر وإنه كذاب ! إنما كان هذا سلاحاً من أسلحة التهويش والتضليل وحرب الخداع التي يتقنها الكبراء ؛ ويتخذونها لحماية أنفسهم ومراكزهم من خطر الحق الذي يتمثل في هذه العقيدة ؛ ويزلزل القيم الزائفة والأوضاع الباطلة التي يستند إليها أولئك الكبراء !

ولقد نقلنا من قبل وننقل هنا واقعة الاتفاق بين كبراء قريش على استخدام حرب الدعاية ضد محمد [ صلى الله عليه وسلم ] والحق الذي جاء به ، لحماية أنفسهم وأوضاعهم بين الجماهير في مكة . ولصد القبائل التي كانت تفد إلى مكة في موسم الحج ، عن الدين الجديد وصاحبه [ صلى الله عليه وسلم ] .

قال ابن إسحاق : إن الوليد بن المغيرة اجتمع إليه نفر من قريش - وكان ذا سن فيهم - وقد حضر الموسم . فقال لهم : يا معشر قريش ، إنه قد حضر هذا الموسم ، وإن وفود العرب ستقدم عليكم فيه ، وقد سمعوا بأمر صاحبكم هذا ، فأجمعوا فيه رأياً واحداً ، ولا تختلفوا فيكذب بعضكم بعضاً ، ويرد قولكم بعضه بعضاً . قالوا : فأنت يا أبا عبد شمس فقل وأقم لنا رأياً نقل به . قال : بل أنتم فقولوا أسمع . قالوا : نقول : كاهن . قال : لا والله ما هو بكاهن ، لقد رأينا الكهان ، فما هو بزمزمة الكاهن ولا سجعه . قالوا : فنقول : مجنون . قال : ما هو بمجنون ، لقد رأينا الجنون وعرفناه ، فما هو بخنقه ولا تخالجه ولا وسوسته . قالوا : فنقول : شاعر . قال : ما هو بشاعر ، لقد عرفنا الشعر كله رجزه وهزجه وقريضه ومقبوضه ومبسوطه ، فما هو بالشعر . قالوا : فنقول : ساحر . قال : ما هو بساحر ، لقد رأينا السحار وسحرهم ، فما هو بنفثهم ولا عقدهم . قالوا : فما نقول يا أبا عبد شمس ? قال : والله إن لقوله لحلاوة ، وإن أصله لعذق ، وإن فرعه لجناة . وما أنتم بقائلين من هذا شيئاً إلا عرف أنه باطل ، وإن أقرب القول فيه لأن تقولوا : هو ساحر ، جاء بقول هو سحر يفرق به بين المرء وأبيه ، وبين المرء وأخيه ، وبين المرء وزوجته ، وبين المرء وعشيرته . فتفرقوا عنه بذلك ، فجعلوا يجلسون بسبل الناس - حين قدموا الموسم - لا يمر بهم أحد إلا حذروه إياه ، وذكروا له أمره . .

فذلك كان شأن الملأ من قريش في قولهم : ساحر كذاب . وهم يعلمون أنهم يكذبون فيما يقولون . ويعرفون أنه لم يكن [ صلى الله عليه وسلم ] بساحر ولا كذاب !

 
تفسير القرآن الكريم لعبد الله شحاته - شحاته [إخفاء]  
{وَعَجِبُوٓاْ أَن جَآءَهُم مُّنذِرٞ مِّنۡهُمۡۖ وَقَالَ ٱلۡكَٰفِرُونَ هَٰذَا سَٰحِرٞ كَذَّابٌ} (4)

1

4- { وعجبوا أن جاءهم منذر منهم وقال الكافرون هذا ساحر كذاب } .

هذا العجب من أن يكون الرسول بشرا مثلكم مرت به البشرية ، وتكلم به الكفار في حق الرسل ، وقال الذين كفروا لرسلهم : { إن أنتم إلا بشر مثلنا تريدون أن تصدونا عما كان يعبد آباؤنا فأتونا بسلطان مبين * قالت لهم رسلهم إن نحن إلا بشر مثلكم ولكن الله يمن على من يشاء من عباده . . . } [ إبراهيم : 10 ، 11 ] أراد الله أن يكون الرسول بشرا مثل الناس ، يحس بإحساسهم ، ويعرف قدراتهم وطاقاتهم ، وما يتقبلونه ويستحسنونه ، وما يطيقونه وما لا يطيقونه ، ويكون الرسول قدوة عملية أمامهم ، يلتزم بما يأمرهم به ، فيكون نموذجا للعمل بما يأمر به ، والترك لما ينهى عنه ، فالرسول محمد صلى الله عليه وسلم كان خُلقه القرآن ، يصلّي ويصوم ويزكّي ويحج ، ويشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ، وهو صادق أمين مجاهد ، يزور المرضى في أقصى المدينة ، يتعهد أصحابه ، يرحم الضعفاء ، يعلّم الرجال والنساء ، ويبلغ وحي السماء ، لكن الكفار رغبوا في رسالة غامضة تقوم على الأساطير التي كانت تروج بينهم قبل الإسلام ، ورفضوا الدين الواضح الذي يقوم على الحجة والمنطق والوضوح ، واستكثروا أن يكون اليتيم الفقير هو النبّي الرسول ، وكانوا يلقبون محمدا قبل الدعوة إلى الإسلام ، بالصادق الأمين ، فلما جاءهم بالرسالة كفروا به حسدا وعنادا ، وقالوا : إنه ساحر يفرّق بين المرء وقومه ، والمرء وأبيه وأمّه ، وهو كذّاب لا ينزل عليه الوحي من السماء لكنه يدّعى ذلك .

 
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي [إخفاء]  
{وَعَجِبُوٓاْ أَن جَآءَهُم مُّنذِرٞ مِّنۡهُمۡۖ وَقَالَ ٱلۡكَٰفِرُونَ هَٰذَا سَٰحِرٞ كَذَّابٌ} (4)

ولما كان جعل المنذر منهم ليس محلاًّ للعجب فعدوه عجباً لما ظهر من تقسيمهم القول فيه ، عجب منهم في قوله : { وعجبوا أن } أي لأجل أن { جاءهم } ولما كان تعجبهم من مطلق نذارته لا مبالغته فيها أتى باسم الفاعل دون فعيل فقال : { منذر منهم } أي من البشر ثم من العرب ثم من قريش ولم يكن من الملائكة مثلاً وكان ينبغي لهم أن لا يعجبوا من ذلك فإن كون النذير بما يحل من المصائب من القوم المنذرين - مع كونه أشرف لهم - أقعد في النذارة لأنهم أعرف به وبما هو منطو عليه من صدق وشفقة وغير ذلك ، وهو الذي جرت به العوائد في القديم والحديث لكونهم إليه أميل ، فهم لكلامه أقبل .

ولما كانوا أعرف الناس بهذا النذير صلى الله عليه وسلم في أنه أصدقهم لهجة وأعلاهم همة وأنه منفي عنه كل نقيصة ووصمة ، زاد في التعجيب بأن قال معبراً بالواو دون الفاء لأن وصفهم له بالسحر ليس شبيه هذا العجب : { وقال } ولما كانوا يسترون الحق مع معرفتهم إياه فهم جاحدون لا جاهلون ، ومعاندون لا غافلون ، أظهر موضع الإضمار إشارة إلى ذلك وإيذاناً بشديد غضبه في قوله : { الكافرون هذا } أي النذير .

ولما كان ما يبديه من الخوارق إعجازاً فعلاً وقولاً يجذب القلوب ، وكان أقرب ما يقدحون به فيه السحر قذفوه به ولم يعبروا بصيغة مبالغة لئلا يكون ذلك إيضاحاً جاذباً للقلوب إليه فقالوا : { ساحر } أي لأنه يفرق بما أتى به بين المرء وزوجه ، فاعترفوا - مع نسبتهم له إلى السحر وهم يعلمون أنهم كاذبون في ذلك - أن ما أتى به فوق ما لهم من القوى { كذاب * } أي في ادعائه أن ما سحر به حق ليس هو كسحر السحرة ، وأتوا بوقاحة بصيغة المبالغة وقد كانوا قبل ذلك يسمونه الأمين وهم يعلمون أنه لم يتجدد له شيء إلا إتيانه بأصدق الصدق وأحق الحق مع ترقيه في معارج الكمال من غير خفاء على أحد له أدنى تأمل .