وعقب على الاستكبار والمشاقة ، بصفحة الهلاك والدمار لمن كان قبلهم ، ممن كذبوا مثلهم ، واستكبروا استكبارهم ، وشاقوا مشاقتهم . ومشهدهم وهم يستغيثون فلا يغاثون ، وقد تخلى عنهم الاستكبار وأدركتهم الذلة ، وتخلوا عن الشقاق ولجأوا إلى الاستعطاف . ولكن بعد فوات الأوان :
( كم أهلكنا من قبلهم من قرن ، فنادوا ، ولات حين مناص ) !
فلعلهم حين يتملون هذه الصفحة أن يطامنوا من كبريائهم ؛ وأن يرجعوا عن شقاقهم . وأن يتمثلوا أنفسهم في موقف أولئك القرون . ينادون ويستغيثون . وفي الوقت أمامهم فسحة ، قبل أن ينادوا ويستغيثوا ، ولات حين مناص . ولا موضع حينذاك للغوث ولا للخلاص !
ولات حين مناص : وليس الوقت وقت فرار وخلاص .
المناص : التأخر والفوت ، ويطلق على التقدم ، فهو من الأضداد .
3- { كم أهلكنا من قبلهم من قرن فنادوا ولات حين مناص } .
كثيرا ما أهلكنا المكذبين من الأمم ، كقوم نوح عاد وثمود والذين من بعدهم ، وحين رأوا العذاب صاحوا بالإيمان والتوبة بعد فوات الأوان ، وليس الحين حين مناص ، وليس الوقت صالحا للإيمان ، أو الفرار من العذاب ، أو الدخول في الإيمان .
وكلمة : مناص . من الأضداد ، تطلق على التقهقر والفرار ، كما تطلق على التقدم .
وعن الكلبي أنه قال : كانوا إذا تقاتلوا فاضطروا ، قال بعضهم لبعض : مناص . أي : عليكم بالفرار ، فلما أتاهم العذاب قالوا : مناص . فقال تعالى : { ولات حين مناص } .
أي : إنهم آمنوا بعد فوات الأوان ، حين رأوا العذاب .
قال تعالى : { فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا . . . } [ غافر : 85 ] .
وقريب منه رفض إيمان فرعون حين عاين الموت ورأى الغرق بأمّ ناصيته .
ولما كان للعلم الذي أراد الله إظهاره في هذا الوجود طريقان : حال ومقال ، فأما الحال فهو ما تنطق به أحوال الموجودات التي أبدعها سبحانه في هذا الكون من علوم يدرك منها من أراد الله ما أراد ، وأما المقال فهو هذا الذكر الذي هو ترجمة عن جميع الوجود ، وكان سبحانه قد قدم الذكر لأنه أبين وأظهر ، وأخبر أنهم أعرضوا عنه وشاققوه ، وكان من شاقق الملك استحق الهلاك ، وكان ما أبدوه من المغالبة أمراً غائظاً للمؤمنين ، أتبعه ما يصلح لتخويف الكافرين وترجية المؤمنين مما أفصح به لسان الحال من إهلاك المنذرين ، وهو أبين ما يكون من دلالاته ، وأظهر ما يوجد من آياته ، فقال استئنافاً : { كم أهلكنا } وكأن المنادين بما يذكر كانوا بعض المهلكين ، وكانوا أقرب المهلكين إليهم في الزمان ، فأدخل الجار لذلك ، فقال دالاً على ابتداء الإهلاك : { من قبلهم } وأكد كثرتهم بقوله مميزاً : { من قرن } أي كانوا في شقاق مثل شقاقهم ، لأنهم كانوا في نهاية الصلابة والحدة والمنعة - بما دل عليه " قرن " .
ولما تسبب عن مسهم بالعذاب دلهم قال جامعاً على معنى " قرن " لأنه أدل على عظمة الإهلاك : { فنادوا } أي بما كان يقال لهم : إنه سبب للنجاة من الإيمان والتوبة ، واستعانوا بمن ينقذهم ، أو فعلوا النداء ذعراً ودهشة من غير قصد منادي ، فيكون الفعل لازماً ، وقال الكلبي : كانوا إذا قاتلوا فاضطروا تنادوا " مناص " أي عليكم بالفرار ، فأجيبوا بأنه لا فرار لهم .
ولما قرر سبحانه في غير موضع أن التوبة لا تنفع إلا عند التمكن والاختيار لا عند الغلبة والاضطراب ، قال تعالى مؤكداً لهذا المعنى في جملة حالية بزيادة التاء التي أصلها هاء في " لا " أو في " حين " كما أكدوا بزيادتها في رب وثم ، والهاء في أراق والتاء في مثال والان فقالوا : ربت وثمت وأهراق وتمثال وتالان { ولات } أي وليس الحين { حين مناص } أي فراراً بتحرك بتقدم ولا تأخر ، بحركة قوية ولا ضعيفة ، فضلاً عن نجاة ، قال ابن برجان : والنوص يعبر به تارة عن التقدم وتارة عن التأخر وهو كالجماح والنفار من الفرس ، ونوص حمارالوحش رفعه رأسه كأنه نافر جامح .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.