في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلۡأَرۡضِۖ وَهُوَ ٱلۡعَزِيزُ ٱلۡحَكِيمُ} (1)

مقدمة السورة:

سورة الحشر مدنية وآياتها أربع وعشرون

نزلت هذه السورة في حادث بني النضير - حي من أحياء اليهود - في السنة الرابعة من الهجرة . تصف كيف وقع ? ولماذا وقع ? وما كان في أعقابه من تنظيمات في الجماعة الإسلامية . . ترويها بطريقة القرآن الخاصة ، وتعقب على الأحداث والتنظيمات بطريقة القرآن كذلك في تربية تلك الجماعة تربية حية بالأحداث والتوجيهات والتعقيبات .

وقبل أن نستعرض النصوص القرآنية في السورة ، نعرض شيئا مما ذكرته الروايات عن ذلك الحادث الذي نزلت السورة بشأنه ؛ لنرى ميزة العرض القرآني ، وبعد آماده وراء الأحداث التي تتنزل بشأنها النصوص ، فتفي بمقتضيات الأحداث ، وتمتد وراءها وحولها في مجالات أوسع وأشمل من مقتضيات تلك الأحداث المحدودة بالزمان والمكان .

كانت وقعة بني النضير في أوائل السنة الرابعة من الهجرة بعد غزوة أحد وقبل غزوة الأحزاب . ومما يذكر عنها أن رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] ذهب مع عشرة من كبار أصحابه منهم أبو بكر وعمر وعلي - رضي الله عنهم - إلى محلة بني النضير ، يطلب منهم المشاركة في أداء دية قتيلين بحكم ما كان بينه وبينهم من عهد في أول مقدمه على المدينة . فاستقبله يهود بني النضير بالبشر والترحاب ووعدوا بأداء ما عليهم ، بينما كانوا يدبرون أمرا لاغتيال رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] ومن معه . وكان [ صلى الله عليه وسلم ] جالسا إلى جدار من بيوتهم . فقال بعضهم لبعض : إنكم لن تجدوا الرجل على مثل حاله هذه . فمن رجل منكم يعلو هذا البيت ، فيلقي عليه صخرة ، فيريحنا منه ? فانتدب لذلك عمرو بن جحاش بن كعب . فقال : أنا لذلك . فصعد ليلقي عليه صخرة كما قال . فألهم رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] ما يبيت اليهود من غدر . فقام كأنما ليقضي أمرا . فلما غاب استبطأه من معه ، فخرجوا من المحلة يسألون عنه ، فعلموا أنه دخل المدينة .

وأمر رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] بالتهيؤ لحرب بني النضير لظهور الخيانة منهم ، ونقض عهد الأمان الذي بينه وبينهم . وكان قد سبق هذا إقذاع كعب بن الأشرف - من بني النضير - في هجاء رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وتأليبه الأعداء عليه . وما قيل من أن كعبا ورهطا من بني النضير اتصلوا بكفار قريش اتصال تآمر وتحالف وكيد ضد النبي [ صلى الله عليه وسلم ] مع قيام ذلك العهد بينهم وبينه . مما جعل رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] يأذن لمحمد بن مسلمة في قتل كعب بن الأشرف . فقتله .

فلما كان التبييت للغدر برسول الله في محلة بني النضير لم يبق مفر من نبذ عهدهم إليهم . وفق القاعدة الإسلامية : ( وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء إن الله لا يحب الخائنين ) . . فتجهز رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وحاصر محلة بني النضير ، وأمهلهم ثلاثة أيام - وقيل عشرة - ليفارقوا جواره ويجلوا عن المحلة على أن يأخذوا أموالهم ، ويقيموا وكلاء عنهم على بساتينهم ومزارعهم . ولكن المنافقين في المدينة - وعلى رأسهم عبدالله بن أبي بن سلول رأس النفاق - أرسلوا إليهم يحرضونهم على الرفض والمقاومة ، وقالوا لهم : أن اثبتوا وتمنعوا فإنا لن نسلمكم . وإن قوتلتم قاتلنا معكم ، وإن أخرجتم خرجنا معكم .

وفي هذا يقول الله تعالى : ( ألم تر إلى الذين نافقوا يقولون لإخوانهم الذين كفروا من أهل الكتاب : لئن أخرجتم لنخرجن معكم ولا نطيع فيكم أحدا أبدا ، وإن قوتلتم لننصرنكم والله يشهد إنهم لكاذبون . لئن أخرجوا لا يخرجون معهم ، ولئن قوتلوا لا ينصرونهم ، ولئن نصروهم ليولن الأدبار ثم لا ينصرون . لأنتم أشد رهبة في صدورهم من الله ، ذلك بأنهم قوم لا يفقهون . . . ) .

فتحصن اليهود في الحصون ؛ فأمر رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] بقطع نخيلهم والتحريق فيها . فنادوه : أن يا محمد قد كنت تنهى عن الفساد وتعيبه على من صنعه : فما بال قطع النخيل وتحريقها ? وفي الرد عليهم نزل قوله تعالى : ( ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها فبإذن الله وليخزي الفاسقين ) . .

ولما بلغ الحصار ستا وعشرين ليلة ، يئس اليهود من صدق وعد المنافقين لهم ، وقذف الله في قلوبهم الرعب ، فسألوا رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] أن يجليهم ويكف عن دمائهم ، كما سبق جلاء بني قينقاع - وقد ذكرنا سببه وظروفه في تفسير سورة الأحزاب في الجزء الحادي والعشرين - على أن لهم ما حملت الإبل من أموالهم إلا السلاح . فأجابهم رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] فاحتملوا من أموالهم ما استقلت به الإبل . فكان الرجل منهم يهدم بيته عن خشبة بابه فيحمله على ظهر بعيره ؛ أو يخربه حتى لا يقع في أيدي المسلمين ؛ وكان المسلمون قد هدموا وخربوا بعض الجدران التي اتخذت حصونا في أيام الحصار .

وفي هذا يقول الله في هذه السورة : ( هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأول الحشر ما ظننتم أن يخرجوا وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله ، فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا ، وقذف في قلوبهم الرعب ، يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين ، فاعتبروا يا أولي الأبصار . ولولا أن كتب الله عليهم الجلاء لعذبهم في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب النار . ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله ومن يشاق الله فإن الله شديد العقاب ) . .

وكان منهم من سار إلى خيبر ، ومنهم من سار إلى الشام . وكان من أشرافهم ممن سار إلى خيبر سلام بن أبي الحقيق ، وكنانة بن الربيع بن أبي الحقيق ، وحي بن أخطب ، ممن ورد ذكرهم بعد ذلك في تأليب المشركين على المسلمين في غزوة الأحزاب ووقعة بني قريظة " في سورة الأحزاب " وكان لبعضهم كذلك ذكر في فتح خيبر " في سورة الفتح " .

وكانت أموال بني النضير فيئا خالصا لله وللرسول ؛ لم يوجف المسلمون عليه بخيل ولا جمال . فقسمها رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] على المهاجرين خاصة دون الأنصار عدا رجلين من الأنصار فقيرين هما سهل بن حنيف ، وأبو دجانة سماك بن خرشة . وذلك أن المهاجرين لم يكن لهم مال بعد الذي تركوه في مكة وتجردوا منه كله لعقيدتهم . وكان الأنصار قد أنزلوهم دورهم وشاركوهم مالهم في أريحية عالية ، وأخوة صادقة ، وإيثار عجيب . فلما واتت هذه الفرصة سارع رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] لإقامة الأوضاع الطبيعية في المجتمع الإسلامي ، كي يكون للفقراء مال خاص ، وكي لا يكون المال متداولا في الأغنياء وحدهم . ولم يعط من الأنصار إلا الفقيرين اللذين يستحقان لفقرهما . .

وتكلم في أموال بني النضير بعض من تكلم - والراجح أنهم من المنافقين - فقال تعالى : ( وما أفاء الله على رسوله منهم فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب ، ولكن الله يسلط رسله على من يشاء والله على كل شيء قدير ) . .

وقال رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] للأنصار : " إن شئتم قسمتم للمهاجرين من أموالكم ودياركم وشاركتموهم في هذه الغنيمة . وإن شئتم كانت لكم دياركم وأموالكم ، ولم يقسم لكم شيء من الغنيمة " فقالت الأنصار : بل نقسم من أموالنا وديارنا ونؤثرهم بالغنيمة ولا نشاركهم فيها .

وفي هذا نزل قوله تعالى : للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا ، وينصرون الله ورسوله ، أولئك هم الصادقون . والذين تبوؤوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ، ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة . ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون .

فهذا هو الحادث الذي نزلت فيه هذه السورة ، وتعلقت به نصوصها ، بما في ذلك خاتمة السورة التي يتوجه فيها الخطاب للذين آمنوا ممن شهدوا هذا الحادث وممن يعرفونه بعد ذلك . على طريقة القرآن في تربية النفوس بالأحداث وبالتعقيب عليها ، وربطها بالحقائق الكلية الكبيرة . . ثم الإيقاع الأخير في السورة بذكر صفات الله الذي يدعو الذين آمنوا ويخاطبهم بهذا القرآن . وهي صفات ذات فاعلية وأثر في هذا الكون ؛ وعلى أساس تصور حقيقتها يقوم الإيمان الواعي المدرك البصير .

وتبدأ السورة وتختتم بتسبيح الله الذي له ما في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم . فيتناسق البدء والختام مع موضوع السورة ، ومع دعوة المؤمنين للتقوى والخشوع والتفكر في تدبير الله الحكيم .

والآن نسير مع النصوص القرآنية لنرى كيف تصور الأحداث ، وكيف تربي النفوس بهذه الأحداث . .

( سبح لله ما في السماوات وما في الأرض ، وهو العزيز الحكيم ) . .

بهذه الحقيقة التي وقعت وكانت في الوجود . حقيقة تسبيح كل شيء في السماوات وكل شيء في الأرض لله ، واتجاهها إليه بالتنزيه والتمجيد . . تفتتح السورة التي تقص قصة إخراج الله للذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم ، وإعطائها للمؤمنين به المسبحين بحمده الممجدين لأسمائه الحسنى . . ( وهو العزيز الحكيم ) . . القوي القادر على نصر أوليائه وسحق أعدائه . . الحكيم في تدبيره وتقديره .

 
تفسير القرآن الكريم لعبد الله شحاته - شحاته [إخفاء]  
{سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلۡأَرۡضِۖ وَهُوَ ٱلۡعَزِيزُ ٱلۡحَكِيمُ} (1)

مقدمة السورة:

أهداف سورة الحشر

( سورة الحشر مدنية ، وآياتها 24 آية ، نزلت بعد سورة البينة )

وقد نزلت في بداية السنة الرابعة من الهجرة بعد غزوة أحد وقبل غزوة الأحزاب ، وهي تحكي قصة غزوة بني النضير ، ولكنها على طريقة القرآن تحكي أحداث الغزوة وما صاحب هذه الأحداث ، وتربي النفوس وتؤكد على معالم الإيمان ، وبذلك يكون القصص هادفا ، ورواية الأحداث وسيلة عملية لتقويمها ، ومعرفة حكم الله فيها واستنباط العظة والعبرة منها .

والقرآن الكريم فيه القصة ، وفيه أحداث التاريخ ، وفيه العظة والعبرة ، وفيه الحكم والتشريع ، وفيه التهذيب والتربية ، وقد استطاع أن يمزج ذلك كله بطريقته الخاصة ، ليصل به إلى قلب المؤمن ، وليسهم في بناء الفرد الصالح والأسرة الصالحة ، والمجتمع الصالح والأمة الصالحة .

قال تعالى : كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله . . . ( آل عمران : 110 ) .

غزوة بني النضيرi

قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ومعه رسالته الهادية ، وقد آمن به جمع من المهاجرين والأنصار ، ثم عقد معاهدات مع يهود المدينة على حرية الأديان ، وعلى المعايشة السلمية في المدينة ، وعلى ألا يكون اليهود عليه ولا له .

" وكان يهود بني النضير حلفاء الخزرج ، وبينهم وبين المسلمين عهود خاصة يأمن بها كل منهم الآخر " ii ، ولكن بني النضير لم يوفوا بهذه العهود حسدا منهم وبغيا ، فقد ذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم في عشرة من أصحابه إلى محلة بني النضير ، يطلب منهم المشاركة في أداء دية قتيلين ، بحكم ما بينه وبينهم من عهود ، فاستقبله زعماء اليهود بالبشر والترحاب ووعدوا بأداء ما عليهم بينما كانوا يدبرون أمرا لاغتيال رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه . وكان صلى الله عليه وسلم جالسا إلى جدار من بيوتهم فقال بعضهم لبعض : إنكم لن تجدوا الرجل على مثل حاله هذه ، فهل من رجل منكم يعلو هذا البيت فيلقي صخرة عليه فيريحنا منه ؟ فقال عمرو بن جحاش بن كعب ، أنا لذلك ، فصعد ليلقي صخرة على رسول الله ، فاطلع رسول الله صلى الله عليه وسلم على قصدهم ، فقام كأنما ليقضي أمرا ، فلما غاب استبطأه منه معه ، فخرجوا من المحلة يسألون عنه فعلموا أنه دخل المدينة .

وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتهيؤ لحرب بني النضير لظهور الخيانة منهم ، ونقض عهد الأمان الذي بينه وبينهم ، وكان قد سبق هذا إقذاع كعب بن الأشرف – من بني النضير – في هجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وما قيل من أن كعبا ورهطا من بني النضير اتصلوا بكفار قريش اتصال تآمر وتحالف وكيد ، مما جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يأذن لمحمد بن مسلمة في قتل كعب بن الأشرف فقتله . ولما كان التبييت للغدر برسول الله صلى الله عليه وسلم في محلة بني النضير ، فلم يبق مفر من نبذ عهدهم إليهم .

ثم أرسل النبي إليهم محمد بن مسلمة ليقول لهم : اخرجوا من بلادي لقاء ما هممتم به من الغدر .

وتجهز الرسول لقتال بني النضير وحاصر محلتهم ، وأمهلهم ثلاثة أيام – وقيل عشرة – ليفارقوا المدينة على أن يأخذوا أموالهم ، ويقيموا وكلاء عنهم على بساتينهم ومزارعهم .

وتهيأ بنو النضير للرحيل ، ولكن المنافقين في المدينة أرسلوا إليهم يحرضونهم على الرفض والمقاومة ، وقالوا لهم : لا تخرجوا من دياركم ، وتمنعوا في حصونكم ونحن معكم ، وإن قوتلتم قاتلنا معكم ، وإن أخرجتم خرجننا معكم ، وقد حكى القرآن عمل المنافقين وشهّر بنفاقهم وكذبهم .

قال تعالى : { أَلَمْ تَر إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ( 11 ) لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لَا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ ( 12 ) لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ } . ( الحشر : 11-13 ) .

وقد طمع اليهود في معونة المنافقين ومؤازرتهم ، فتحصنوا في حصونهم وتأخروا عن الجلاء ، وظنوا أنهم ما نعتهم حصونهم من الله ، فحاصرهم صلى الله عليه وسلم وضيق عليهم الخناق ، ثم أمر بقطع نخيلهم ليكون ذلك أدعى إلى تسليمهم ، ثم قذف الله الرعب في قلوب اليهود ، ولم يجدوا معونة من المنافقين ، ويئسوا من صدق وعودهم فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجليهم ويكف عن دمائهم ، وأن لهم ما حملت الإبل من أموالهم إلا آلة الحرب ، فأجابهم النبي إلى طلبهم ، وصار اليهود يخربون بيوتهم بأيديهم كيلا يسكنها المسلمون .

ولما سار اليهود نزل بعضهم بخيبر ، ومن أكابرهم حيي بن أخطب وسلام بن أبي الحقيق . ومنهم من سار إلى أذرعات بالشام ، وقد اسلم منهم اثنان يامين بن عمرو وأبو سعد بن وهب .

وكانت أموال بني النضير فيئا خالصا لله والرسول ، ولم يوجفiii المسلمون عليه بخيل ولا ركاب ، فقسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين خاصة دون الأنصار عدا رجلين من الأنصار فقيرين هما سهل بن حنيف ، وأبو دجانة سماك بن خرشة ، وكان المهاجرين قد تركوا بلادهم وأموالهم وهاجروا فرارا بدينهم إلى المدينة . وقد استقبلهم الأنصار بالبشر والترحاب والمعونة الصادقة والإيثار الكريم ، فلما واتت الفرصة وزرع النبي الفيء على المهاجرين خاصة لتحسين أحوالهم المادية ، ولكيلا يكون المال متداولا بين الأغنياء وحدهم .

قال تعالى : { وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } . ( الحشر : 6 ) .

تسلسل أفكار السورة

1- وصفت سورة الحشر حصار بني النضير ، وعناية السماء بالمؤمنين ، وانتهاء الحصار بجلاء اليهود وانتصار المؤمنين . ( الآيات : 1-4 ) .

2- تحدثت عن قطع المسلمين للنخيل وبينت أن ذلك كان بأمر الله ليذل به اليهود ويخزي الفاسقين . ( الآية : 5 ) .

3- ذكرت حكم الفيء والغنائم التي غنمها المسلمون من بني النضير ، وبينت أنها توزع على المهاجرين لسد حاجاتهم ، ولا يعطي منها شيئا للأنصار لأنها ليست غنيمة حرب استخدم فيها الكرّ والفرّ وركوب الإبل والخيل ، ولكنها غنيمة حصار محدود انتهى بتسليم اليهود بعد أن ألقى الله الرعب في قلوبهم .

( الآيتان : 6-7 ) .

4- باركت السورة كفاح المهاجرين وخروجهم من مكة إلى المدينة حفاظا على الدين وفداء للعقيدة ، كما باركت كرم الأنصار وأريحتهم ، ووصفتهم بالسماحة والإيثار ، والمحبة للبذل والعطاء .

كما باركت الأجيال اللاحقة التي وُلدت في محاضن الدعوة ، وكانت ثمرة كريمة لترابط المهاجرين والأنصار . ( الآيات : 8-10 ) .

5- حملت السورة على المنافقين ، وكشفت نفاقهم وكيدهم ، واتهمتهم بالجبن والصغار . ( الآيات : 11-13 ) .

6- بينت أن اللقاء بين المنافقين وأهل الكتاب لقاء في الظاهر فقط ، وبينهم من العداوة والإحن ما يظهر في الشدائد : { بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى . . . } ( الحشر : 14 ) .

1- أشارت إلى قصة الشيطان مع عابد يسمى برصيصا ، حين أغراه الشيطان بارتكاب الفاحشة ثم استدرجه إلى الكفر ثم تولى عنه وخذله ، ومثله كمثل المنافقين ، زينوا لليهود المقاومة والتحصن ضد المسلمين ثم خذلوهم . ( الآية : 16 ) .

2- في الجزء الأخير من السورة تلتفت الآيات إلى المؤمنين فتأمرهم بالتقوى والعمل الصالح ، وتبين فضل القرآن وأثره في هداية القلوب . ( الآيات : 18-21 ) .

3- تختم السورة بذكر أسماء اله الحسنى فهو سبحانه مالك الملك ( القدوس ) تقدست أسماؤه وتنزهت عن النقص ، ( السلام ) الذي يشمل عباده بالأمان والطمأنينة ويمنحهم السلامة والراحة ، ( المؤمن ) واهب الأمن وواهب الإيمان ، ( المهيمن ) الرقيب على كل شيء ، ( العزيز ) الغالب ، ( الجبار ) ، القاهر ، ( المتكبر ) البليغ الكبرياء والعظمة ، ( البارئ ) الموجد ، ( المصور ) خالق الصور للكائنات ، ومن معناها إعطاء الملامح المتميزة والسمات التي تمنح لكل شيء شخصيته الخاصة ، ( له الأسماء الحسنى ) الدالة على الصفة العالية والكمال المطلق ، فهو سبحانه متصف بكل كمال ومنزه عن كل نقص .

المقصد الإجمالي للسورة

قال الفيروزبادي :

معظم مقصود سورة الحشر هو : الخبر عن جلاء بني النضير ، وقسم الغنائم ، وتفصيل حال المهاجرين والأنصار ، والشكاية من المنافقين في واقعة بني قريظة ، وذكر برصيصاiv ، والنظر إلى العواقب ، وتأثير نزول القرآن ، وذكر أسماء الحق تعالى وصفاته ، وبيان أن جميع المخلوقات تدل على عظمته وكماله وتنزيهه ، في قوله سبحانه : { هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } . ( الحشر : 24 ) .

النظام الاقتصادي في الإسلام

أشارت الآية السابعة من سورة الحشر إلى الحكمة من توزيع الفيء على المهاجرين وحدهم دون الأغنياء من أهل المدينة فقال تعالى : { كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ . . . }( الحشر : 7 ) . أي : كيلا كون الفيء – أي الغنيمة – متداولا بين الأغنياء دون الفقراء ، وهذه قاعدة هامة من قواعد النظام الاقتصادي في الإسلام .

وقد احترم الإسلام الملكية الفردية لأنها حافز طبيعي للعمل والإنتاج ، ولكنه قلم أظفار هذه الملكية ، وحارب جبروت المال وطغيانه بما يأتي :

1- فرض الإسلام الزكاة وجعلها نسبة متفاوتة حسب التعب في كسب المال : فزكاة المال نسبتها 2 . 5% وكذلك زكاة التجارة 2 . 5% من رأس المال ، وزكاة الزراعة 5% أو 10% ، وقريب منها زكاة الماشية ، وزكاة الركاز وهو المال أو البترول أو المعادن أو الكنوز التي توجد في باطن الأرض نسبتها 20% .

وهكذا كلما كان عمل العبد أظهر كانت نسبة الزكاة أقل ، وكلما كان عمل القدرة الإلهية أظهر كانت نسبة الزكاة أكثر ، لأن الفضل لله في ظهور الكنز أو البترول فكانت النسبة 20% ، والجهد ظاهر من العبد في التجارة والعمل في الحياة فنسبة الزكاة فيها2 . 5% .

2- حرم الإسلام الربا والاحتكار ، وهما الوسيلتان الرئيسيتان لجعل المال دولة بين الأغنياء ، أي يتداوله الأغنياء ولا يصل إليه الفقراء .

3- جعل للإمام الحق في أن يأخذ فضول أموال الأغنياء فيردها على الفقراء ، وأن يفرض الضرائب في أموال الأغنياء عند خلو بيت المال .

4- جعل هناك صدقات موسمية مثل : صدقة الفطر ، والأضحية ، والهدي في الحج ، والكفارات مثل : كفارة اليمين ، والظهار ، والفطر في رمضان ، وكلها تنتهي إلى إطعام المساكين أو كسوتهم والتوسعة عليهم .

5- حث الإسلام على الصدقة والتراحم والتكافل والمودة والتعاطف بين الناس ، وبذلك نجد أن النظام الاقتصادي في الإسلام نظام متميز ليس فيه مساوئ الرأسمالية أو الشيوعية ، بل فيه محاسنهما مع التجرد من عيوبهما ، وذلك نظام العليم الخبير ، البصير بالنفوس الذي أعطى للإنسان حق التملك ثم جعله موظفا في ماله يجب عليه أن ينفق وأن يتصدق عن طواعية ورغبة في الثواب العاجل والآجل .

قال تعالى : { وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه . . . }( الحديد : 7 ) .

وقال سبحانه : { مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة والله يضاعف لمن يشاء والله واسع عليم } . ( البقرة : 261 ) .

ويقول المرحوم أحمد شوقي في الهمزية النبوية التي مطلعها :

ولد الهدى فالكائنات ضياء *** وفم الزمان تبسم وثناء

وإذا سخوت بلغت بالجود المدى *** وفعلت ما لا تفعل الأنواءv

وإذا عفوت فقادرا ومقدرا *** لا يستهين بعفوك الجهلاء

وإذا رحمت فأنت أم أو أب *** هذان في الدنيا هما الرحماء

وإذا خطبت فللمنابر هزة *** تعرو الندىvi وللقلوب بكاء

وإذا أخذت العهد أو أعطيته *** فجميع عهدك ذمة ووفاء

بك يا ابن عبد الله قامت سمحةvii *** بالحق من ملل الهدى غراء

الله فوق الخلق فيها وحده *** والناس تحت لوائها أكفاء

والدين يسر والخلافة بيعة *** والأمر شورى والحقوق قضاء

الاشتراكيون أنت إمامهم *** لولا دعاوى القوم والغلواءviii

داويت متئداix وداووا طفرةx *** وأخف من بعض الدواء داء

تمهيد :

سورة الحشر تسمى : سورة بني النضير .

روى البخاريxi عن سعيد بن جبير قال : قلت لابن عباس : سورة الحشر ؟ قال : سورة بني النضير ، وهم قوم من اليهود ، وهي مدنية ، وآياتها أربع وعشرون بلا خلافxii .

وجاء في تفسير المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية بالقاهرة ما يأتي :

بدأت السورة بأن الله سبح له ونزهه عما لا يليق به كل شيء في السماوات والأرض ، وأنه العزيز الذي لا يُغلب ، الحكيم في تصرفاته وتشريعه ، ومن آثار عزته وحكمته ما تحدثت عنه السورة من عاقبة بني النضير – وهم من اليهود بالمدينة – وكانوا قد صالحوا النبي صلى الله عليه وسلم بعد الهجرة على ألا يكونوا عليه ولا له ، فلما كانت هزيمة المسلمين في يوم أحد نكثوا عهدهم ، وحالفوا قريشا عليه صلى الله عليه وسلم ، فحاصرهم في حصونهم التي ظنوا أنها تمنعهم ثم أجلاهم عن المدينة ، ثم بينت حكم الفيء ، وهو ما كان من الغنائم بلا حرب ولا إسراع بركوب الخيل ونحوها ، فذكرت أنه لله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل ، وللفقراء والمهاجرين الذين أُخرجوا من ديارهم وأموالهم ، ثم تحدثت عن الأنصار وفضلهمxiii .

وفي حديث الآيات عن الأنصار تطرقت إلى إيثارهم المهاجرين على أنفسهم ، ولو كان بهم حاجة إلى ما آثروهم به ، ولفتت النظر إلى ما كان من وعود المنافقين لبني النضير ، في قولهم لهم : { لئن أخرجتم لنخرجنّ معكم . . . } وقولهم : { وإن قوتلتم لننصرنكم . . . }( الحشر : 11 ) . وفضحت كذبهم وتغريرهم في ذلك .

ثم خلصت السورة إلى تذكير المؤمنين بما ينبغي أن يكونوا عليه من تقوى الله ، والتزود للمستقبل القريب والبعيد ، وألا يكونوا كالذين أعرضوا عن الله فأنساهم أنفسهم ، وختمت ببيان شأن القرآن وعظيم تأثيره ، ذلك لأن الذي أنزله هو الله الذي لا إله إلا هو له الأسماء الحسنىxiv .

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

{ سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ( 1 ) هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ ( 2 ) وَلَوْلَا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ ( 3 ) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ( 4 ) }

المفردات :

سبح لله : نزه ومجده وعظمه ، بدلالته على قدرة خالقه وعلمه وإتقان مخلوقاته .

العزيز : القادر الغالب ، الذي لا ينازعه أحد .

الحكيم : الذي يفعل أفعال الحكمة والصواب ، أو الذي يُتقن خلق الأشياء ويحكمها .

التفسير :

1- { سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } .

كل شيء في الأرض أو في السماوات يسبح لله وينزهه ويعظمه ، إما بلسان الحال وإما بلسان المقال . أما لسان الحال فإن السماء العالية والجبال الراسية والبحار الجارية والليل المظلم والنهار المضيء ، والقمر الباهر والكوكب الزاهر والنبات والفضاء والهواء ، وما في الكون من تكامل وإبداع يدل دلالة واضحة على أن وراء هذا الكون البديع يدا حانية تمسك نظامه وتحفظ توازنه وتدبّر شؤونه ، وكل ما نراه في الكون من جمال وإبداع وتناسق ، هو من أثر هذه القدرة العليا .

وفي كل شيء له آية *** تدل على أنه الواحد .

وهذه الآثار المتعددة تشهد بتنزيه الله عن الشريك والنظير ، وتقول بلسان الحال : سبحان الله العزيز الحكيم ، القوي القدير الذي يحكم الصنعة ويدبر الأمر ، وهو على كل شيء قدير .

وأما لسان المقال ، فكما تسبح الإنس ، والملائكة والجن ، يقول الله تعالى : تسبح له السماوات السبع والأرض ومن فيهن وإن من شيء إلاّ يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم . . . ( الإسراء : 44 ) .

 
صفوة البيان لحسين مخلوف - حسنين مخلوف [إخفاء]  
{سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلۡأَرۡضِۖ وَهُوَ ٱلۡعَزِيزُ ٱلۡحَكِيمُ} (1)

مقدمة السورة:

سورة الحشر وتسمى سورة بني النضير .

{ سبح لله ما في السموات . . . } نزه الله تعالى عما لا يليق به جميع العوالم [ آية 1 الحديد ص 400 ] .

نزلت هذه السورة في نضير ، وهم رهط من اليهود من ذرية هارون بقرب المدينة . كانوا قد صالحوا الرسول صلى الله عليه وسلم على ألا يكونوا عليه ولا له ؛ فلما هزم المسلمون في غزوة أحد أظهروا العداوة له ، ونقضوا العهد ، وحالفوا قريشا على أن يكونوا يدا واحدة عليه صلى الله عليه وسلم . وكان أشدهم حربا على الإسلام ، وفحشا في الرسول صلى الله عليه وسلم زعيمهم : كعب بن الأشرف ، الذي اغتاله محمد بن مسلمة ، فحاصرهم النبي صلى الله عليه وسلم إحدى وعشرين ليلة . ولما قذف الله في قلوبهم الرعب أيسوا من نصرة المنافقين لهم كما وعدهم عبد الله بن أبي رأس المنافقين بالمدينة – طلبوا الصلح فأبى عليهم الرسول صلى الله عليه وسلم إلا الجلاء ؛ على أن لهم ما أقلت الإبل من الأمتعة والأموال ، إلا السلاح ، فجلوا إلى خيبر والحيرة ، وأريحاء وأذرعات بالشام . وكانوا أول من أجلى من أهل الذمة من الجزيرة . وكان جلاؤهم أول حشر من المدينة . ثم أجلى آخرهم في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه ؛ وهو آخر حشر لهم منها . وقد دبروا أثناء الحصار الغدر بالرسول صلى الله عليه وسلم والفنك به ؛ فأطلعه الله على كيدهم .

 
تيسير التفسير لإبراهيم القطان - إبراهيم القطان [إخفاء]  
{سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلۡأَرۡضِۖ وَهُوَ ٱلۡعَزِيزُ ٱلۡحَكِيمُ} (1)

مقدمة السورة:

سورة الحشر مدنية وآياتها أربع وعشرون ، نزلت بعد سورة البيّنة . وقد نزلت السورة بكاملها في حديث بني النّضير من اليهود ، وكانوا في ضواحي المدينة في الجهة الشرقية منها على بُعد عدة أميال ، وكان نزولها في السنة الرابعة من الهجرة . وكان بين النبي عليه الصلاة والسلام وبين بني النضير حلف وعهد ، فذهب رسول الله ومعه عدد من أصحابه ، فيهم أبو بكر وعمر وعليّ رضي الله عنهم ، إلى بني النضير ليستعينهم في دية قتيلين من بني عامر قتلهما عمرو بن أميّة الضّمري وهو لا يعلم أن معهما عهدا من رسول الله . فاستقبل يهود بني النضير الرسول الكريم وأصحابه خير استقبال ، وأظهروا له كل ترحيب ووعدوا بخير . لكنهم أضمروا الغدر . فلما أحس الرسول عليه الصلاة والسلام بالخيانة والغدر ترك أصحابه وذهب إلى المدينة ، ثم تبعه أصحابه لما استبطأوه ، فلما لحقوا به أخبرهم بما رآه من أمر اليهود ومن اعتزامهم الغدر به .

وقد بعث الرسول محمد بن مَسلمة ، أحد أصحابه وقال له : " اذهبْ إلى يهود بني النضير وقل لهم : إن رسول الله أرسلني إليكم أن اخرجوا من بلادي ، لقد نقضتم العهد الذي جعلت لكم بما هممتم به من الغدر بي ، لقد أجّلتكم عشرا ، فمن رُؤي بعد ذلك ضربت عنقه " . ومكثوا أياما يتجهزون للخروج ، فجاءهم رسولان من عند رأس المنافقين عبد الله بن أبيّ وقالا : لا تخرجوا من دياركم وأموالكم ، وأقيموا في حصونكم ، فإنّ معي ألفين من قومي وغيرهم من العرب يدخلون معكم ويموتون عن آخرهم قبل أن يوصل إليكم .

وتشاوروا في الموضوع طويلا ، وقال لهم بعضهم : إن ابن أبيّ غير صادق . ألم يعِد بني قيْنقاع من قبل ، ولما جدّ الجدّ تخلى عنهم ! وأخيرا قال كبيرهم حُيّي بن أخطب : كلا ، بل أنا مرسل إلى محمد ، إنا لا نخرج من ديارنا وأموالنا ، فليصنعْ ما بدا له ، وعندنا من الطعام ما يكفينا سنة ، وعندنا الماء . وهكذا صمّموا على البقاء .

وانقضت الأيام العشرة ولم يخرجوا ، فأخذ المسلمون السلاح وساروا إليهم فقاتلوهم عشرين ليلة ، وعبثا انتظر اليهود نصر ابن أبيّ ، رأس المنافقين . فلما يئسوا وملأ الرعب قلوبهم ، سألوا النبي عليه الصلاة والسلام أن يؤمنهم على أموالهم ودمائهم وذراريهم حتى يخرجوا من المدينة ، فصالحهم على أن يخرجوا ، لكل ثلاثة بعير ، يحملون عليه ما شاؤوا من الطعام والمال ولا يأخذون سلاحا أبدا . وتركوا وراءهم للمسلمين مغانم كثيرة من غلال وسلاح . وفي ذلك كله نزلت سورة الحشر ، وكان نصر الله عظيما .

وقد بدئت هذه السورة الكريمة بالإخبار بأن الله سبح له ونزهه عما لا يليق به كل شيء في السموات والأرض ، ثم بينت حكم الفيء ، وهو ما كان من الغنائم بلا حرب ، فذكرت أنه لله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل ، وللفقراء من المهاجرين الذين أُخرجوا من ديارهم وأموالهم . ثم تحدثت عن الأنصار وفضلهم ، وإيثارهم المهاجرين على أنفسهم ولو كان بهم حاجة إلى ما آثروا به .

وبيّنت كذب المنافقين وعدم وفائهم بوعودهم لنصر اليهود في قولهم : { لئن أُخرجتم لنخرجنّ معكم ، ولئن قوتلتم لننصرنّكم } ، وفضحت كِذبهم في ذلك .

ثم ذكّرت المؤمنين بما ينبغي أن يكونوا عليه من تقوى الله والتزود للمستقبل ، والاستعداد الدائم ، لا كالذين أعرضوا عن الله فأنساهم أنفسهم .

وختمت السورة بأعظم ختام ببيان شأن القرآن العظيم ، وما له من تأثير كبير ، وأن الذي أنزله هو الله الذي لا إله إلا هو ، له الأسماء الحسنى . . وهكذا يتناسب البدء مع حسن الختام .

لقد تقدم مثله في أول سورة الحديد وشرحناه ما استطعنا هناك .

 
أيسر التفاسير لكلام العلي الكبير للجزائري - أبوبكر الجزائري [إخفاء]  
{سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلۡأَرۡضِۖ وَهُوَ ٱلۡعَزِيزُ ٱلۡحَكِيمُ} (1)

شرح الكلمات :

{ سبح لله ما في السموات وما في الأرض } : أي نزّه الله تعالى وقدَّسَهُ بلسان الحال والقال ما في السموات وما في الأرض من سائر الكائنات .

{ وهو العزيز الحكيم } : أي العزيز في انتقامه من أعدائه الحكيم في تدبيره لأوليائه .

المعنى :

يخبر تعالى عن جلاله وعظمته بأنه سبحه أي نزهه عن كل النقائص من الشريك والصاحبة والولد والعجز والنقص مطلقاً بلسان القال ولسان الحال جميع ما في السموات وما في الأرض من الملائكة والإِنس والجن والحيوان والشجر والحجر والمدر ، وأنه هو العزيز الانتقام الحكيم في تدبير حياة الأنام .

/ذ5

 
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلۡأَرۡضِۖ وَهُوَ ٱلۡعَزِيزُ ٱلۡحَكِيمُ} (1)

مقدمة السورة:

تفسير سورة الحشر [ وهي ] مدنية .

( 1-7 ) بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ { سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ } .

إلى آخر القصة . هذه السورة تسمى { سورة بني النضير } وهم طائفة كبيرة من اليهود في جانب المدينة ، وقت بعثة النبي صلى الله عليه وسلم ، فلما بعث النبي صلى الله عليه وسلم ، وهاجر إلى المدينة ، كفروا به في جملة من كفر من اليهود ، فلما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة هادن سائر طوائف اليهود الذين هم جيرانه في المدينة ، فلما كان بعد [ وقعة ] بدر بستة أشهر أو نحوها ، خرج إليهم النبي صلى الله عليه وسلم ، وكلمهم أن يعينوه في دية الكلابيين الذين قتلهم عمرو بن أمية الضمري ، فقالوا : نفعل يا أبا القاسم ، اجلس هاهنا حتى نقضي حاجتك ، فخلا بعضهم ببعض ، وسول لهم الشيطان الشقاء الذي كتب عليهم ، فتآمروا بقتله صلى الله عليه وسلم ، وقالوا : أيكم يأخذ هذه الرحى فيصعد فيلقيها على رأسه يشدخه بها ؟ فقال أشقاهم عمرو بن جحاش : أنا ، فقال لهم سلام بن مشكم : لا تفعلوا ، فوالله ليخبرن بما هممتم به ، وإنه لنقض العهد الذي بيننا وبينه ، وجاء الوحي على الفور إليه من ربه ، بما هموا به ، فنهض مسرعا ، فتوجه إلى المدينة ، ولحقه أصحابه ، فقالوا : نهضت ولم نشعر بك ، فأخبرهم بما همت يهود به .

وبعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أن اخرجوا من المدينة ولا تساكنوني بها ، وقد أجلتكم عشرا ، فمن وجدت بعد ذلك بها ضربت عنقه " ، فأقاموا أياما يتجهزون ، وأرسل إليهم المنافق عبد الله بن أبي [ بن سلول ] : " أن لا تخرجوا من دياركم ، فإن معي ألفين يدخلون معكم حصنكم ، فيموتون دونكم ، وتنصركم قريظة وحلفاؤكم من غطفان " .

وطمع رئيسهم حيي بن أخطب فيما قال له ، وبعث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : إنا لا نخرج من ديارنا ، فاصنع ما بدا لك .

فكبر رسول الله صلى عليه وسلم وأصحابه ، ونهضوا إليهم ، وعلي بن أبي طالب يحمل اللواء .

فأقاموا على حصونهم يرمون بالنبل والحجارة ، واعتزلتهم قريظة ، وخانهم ابن أبي وحلفاؤهم من غطفان ، فحاصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقطع نخلهم وحرق . فأرسلوا إليه : نحن نخرج من المدينة ، فأنزلهم على أن يخرجوا منها بنفوسهم ، وذراريهم ، وأن لهم ما حملت إبلهم إلا السلاح ، وقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ، الأموال والسلاح .

وكانت بنو النضير ، خالصة لرسول الله صلى الله عليه وسلم لنوائبه ومصالح المسلمين ، ولم يخمسها ، لأن الله أفاءها عليه ، ولم يوجف المسلمون عليها بخيل ولا ركاب ، وأجلاهم إلى خيبر وفيهم حيي بن أخطب كبيرهم ، واستولى على أرضهم وديارهم ، وقبض السلاح ، فوجد من السلاح خمسين درعا ، وخمسين بيضة ، وثلاثمائة وأربعين سيفا ، هذا حاصل قصتهم كما ذكرها أهل السير .

فافتتح تعالى هذه السورة بالإخبار أن جميع من في السماوات والأرض تسبح بحمد ربها ، وتنزهه عما لا يليق بجلاله ، وتعبده وتخضع لجلاله{[1025]}  لأنه العزيز الذي قد قهر كل شيء ، فلا يمتنع عليه شيء ، ولا يستعصي عليه مستعصي{[1026]}  الحكيم في خلقه وأمره ، فلا يخلق شيئا عبثا ، ولا يشرع ما لا مصلحة فيه ، ولا يفعل إلا ما هو مقتضى حكمته .


[1025]:- في ب: لعظمته.
[1026]:- في ب: عسير.
 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلۡأَرۡضِۖ وَهُوَ ٱلۡعَزِيزُ ٱلۡحَكِيمُ} (1)

مقدمة السورة:

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

سورة الحشر مدنية.

تفسير القرآن للسمعاني 489 هـ :

وعن ابن عباس: أنه سماها سورة النضير.

المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :

هذه السورة مدنية باتفاق من أهل العلم وهي سورة بني النضير، وذلك أن رسول الله كان عاهد بني النضير على سلم، وهم يرون أنه لا ترد له راية، فلما جرت هزيمة أحد، ارتابوا وداخلوا قريشا وغدروا، فلما رجع النبي صلى الله عليه وسلم من أحد، تبين له معتقد بني النضير وغدرهم بعهده وموالاتهم للكفرة، فجمع إليهم وحاصرهم، وعاهدهم على أن يجليهم عن أرضهم، فارتحلوا إلى بلاد مختلفة: خيبر والشام وغير ذلك من البلاد.

زاد المسير في علم التفسير لابن الجوزي 597 هـ :

ذكر أهل العلم بالتفسير والسير: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى مسجد قباء، ومعه نفر من أصحابه، فصلى فيه، ثم أتى بني النضير، فكلمهم أن يعينوه في دية رجلين كان قد آمنهما، فقتلهما عمرو بن أمية الضمري وهو لا يعلم، فقالوا: نفعل، وهمّوا بالغدر به، وقال عمرو بن جحاش: أنا أظهر على البيت، فأطرح عليه صخرة، فقال سلام بن مشكم: لا تفعلوا، والله ليُخبرن بما هممتم به، وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر، فنهض سريعا، فتوجه إلى المدينة، فلحقه أصحابه، فقالوا: قمت ولم نشعر؟! فقال: همّت يهود بالغدر، فأخبرني الله بذلك، فقمت، وبعث إليهم رسول الله محمد بن مسلمة: أن اخرجوا من بلدتي، فلا تساكنوني، وقد هممتم بما هممتم به، وقد أجّلتكم عشرا، فمن رئي بعد ذلك ضربت عنقه، فمكثوا أياما يتجهزون، فأرسل إليهم ابن أبيّ: لا تخرجوا، فإن معي ألفين من قومي وغيرهم، وتمدكم قريظة وحلفاؤكم من غطفان، وطمع حُيي فيما قال ابن أبيّ، فأرسل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنا لا نخرج، فاصنع ما بدا لك، فكبّر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكبر المسلمون لتكبيره، وقال: حاربت يهود، ثم سار إليهم في أصحابه، فلما رأوه، قاموا على حصونهم معهم النبل والحجارة، فاعتزلتهم قريظة، وخذلهم ابن أبي، وحلفاؤهم من غطفان، وحاصرهم رسول الله، وقطع نخلهم، فقالوا: نحن نخرج عن بلادك، فأجلاهم عن المدينة، فمضى بعضهم إلى الشام، وبعضهم إلى خيبر، وقبض سلاحهم وأموالهم.

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

مقصودها:

بيان ما دل عليه آخر المجادلة من التنزه عن شوائب النقص بإثبات القدرة الشاملة بدليل شهودي على أنه يغلب هو ورسله. ومن حاده في الأذلين، لأنه قوي عزيز،...، وأدل ما فيها على ذلك تأمل قصة [بني] النضير المعلم بأول الحشر، المؤذن بالحشر الحقيقي بالقدرة عليه بعد إطباق الولي والعدو على الظن أنه لا يكون، فلذا سميت بالحشر وببني النضير، لأنه سبحانه وتعالى حشرهم بقدرته من المدينة الشريفة إلى خيبر والشام والحيرة، ثم حشرهم... وغيرهم من اليهود الحشر الثاني من خيبر إلى الشام، الذي هو آية الحشر الأعظم إلى أرض الحشر لقهر هذا النبي الكريم أهل الكتاب المدعين أنهم أفضل الناس وأنهم مؤيدون بما لهم من الدين الذي أصله قويم بما لوحت إليه الحديد، كما قهر أهل الأوثان الذين هم عالمون بأنهم بدلوا الدين الصحيح فثبت –بظهور دينه على كل دين على حد سواء.

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

نزلت هذه السورة في حادث بني النضير -حي من أحياء اليهود- في السنة الرابعة من الهجرة. تصف كيف وقع؟ ولماذا وقع؟ وما كان في أعقابه من تنظيمات في الجماعة الإسلامية.. ترويها بطريقة القرآن الخاصة، وتعقب على الأحداث والتنظيمات بطريقة القرآن كذلك في تربية تلك الجماعة تربية حية بالأحداث والتوجيهات والتعقيبات.

وقبل أن نستعرض النصوص القرآنية في السورة، نعرض شيئا مما ذكرته الروايات عن ذلك الحادث الذي نزلت السورة بشأنه؛ لنرى ميزة العرض القرآني، وبعد آماده وراء الأحداث التي تتنزل بشأنها النصوص، فتفي بمقتضيات الأحداث، وتمتد وراءها وحولها في مجالات أوسع وأشمل من مقتضيات تلك الأحداث المحدودة بالزمان والمكان.

كانت وقعة بني النضير في أوائل السنة الرابعة من الهجرة بعد غزوة أحد وقبل غزوة الأحزاب. ومما يذكر عنها أن رسول الله [صلى الله عليه وسلم] ذهب مع عشرة من كبار أصحابه منهم أبو بكر وعمر وعلي -رضي الله عنهم- إلى محلة بني النضير، يطلب منهم المشاركة في أداء دية قتيلين بحكم ما كان بينه وبينهم من عهد في أول مقدمه على المدينة. فاستقبله يهود بني النضير بالبشر والترحاب ووعدوا بأداء ما عليهم، بينما كانوا يدبرون أمرا لاغتيال رسول الله [صلى الله عليه وسلم] ومن معه. وكان [صلى الله عليه وسلم] جالسا إلى جدار من بيوتهم. فقال بعضهم لبعض: إنكم لن تجدوا الرجل على مثل حاله هذه. فمن رجل منكم يعلو هذا البيت، فيلقي عليه صخرة، فيريحنا منه؟ فانتدب لذلك عمرو بن جحاش بن كعب. فقال: أنا لذلك. فصعد ليلقي عليه صخرة كما قال. فألهم رسول الله [صلى الله عليه وسلم] ما يبيت اليهود من غدر. فقام كأنما ليقضي أمرا. فلما غاب استبطأه من معه، فخرجوا من المحلة يسألون عنه، فعلموا أنه دخل المدينة.

وأمر رسول الله [صلى الله عليه وسلم] بالتهيؤ لحرب بني النضير لظهور الخيانة منهم، ونقض عهد الأمان الذي بينه وبينهم. وكان قد سبق هذا إقذاع كعب بن الأشرف -من بني النضير- في هجاء رسول الله [صلى الله عليه وسلم] وتأليبه الأعداء عليه. وما قيل من أن كعبا ورهطا من بني النضير اتصلوا بكفار قريش اتصال تآمر وتحالف وكيد ضد النبي [صلى الله عليه وسلم] مع قيام ذلك العهد بينهم وبينه. مما جعل رسول الله [صلى الله عليه وسلم] يأذن لمحمد بن مسلمة في قتل كعب بن الأشرف. فقتله.

فلما كان التبييت للغدر برسول الله في محلة بني النضير لم يبق مفر من نبذ عهدهم إليهم. وفق القاعدة الإسلامية: (وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء إن الله لا يحب الخائنين).. فتجهز رسول الله [صلى الله عليه وسلم] وحاصر محلة بني النضير، وأمهلهم ثلاثة أيام -وقيل عشرة- ليفارقوا جواره ويجلوا عن المحلة على أن يأخذوا أموالهم، ويقيموا وكلاء عنهم على بساتينهم ومزارعهم. ولكن المنافقين في المدينة -وعلى رأسهم عبدالله بن أبي بن سلول رأس النفاق- أرسلوا إليهم يحرضونهم على الرفض والمقاومة، وقالوا لهم: أن اثبتوا وتمنعوا فإنا لن نسلمكم. وإن قوتلتم قاتلنا معكم، وإن أخرجتم خرجنا معكم.

وفي هذا يقول الله تعالى: (ألم تر إلى الذين نافقوا يقولون لإخوانهم الذين كفروا من أهل الكتاب: لئن أخرجتم لنخرجن معكم ولا نطيع فيكم أحدا أبدا، وإن قوتلتم لننصرنكم والله يشهد إنهم لكاذبون. لئن أخرجوا لا يخرجون معهم، ولئن قوتلوا لا ينصرونهم، ولئن نصروهم ليولن الأدبار ثم لا ينصرون. لأنتم أشد رهبة في صدورهم من الله، ذلك بأنهم قوم لا يفقهون...).

فتحصن اليهود في الحصون؛ فأمر رسول الله [صلى الله عليه وسلم] بقطع نخيلهم والتحريق فيها. فنادوه: أن يا محمد قد كنت تنهى عن الفساد وتعيبه على من صنعه: فما بال قطع النخيل وتحريقها؟ وفي الرد عليهم نزل قوله تعالى: (ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها فبإذن الله وليخزي الفاسقين)..

ولما بلغ الحصار ستا وعشرين ليلة، يئس اليهود من صدق وعد المنافقين لهم، وقذف الله في قلوبهم الرعب، فسألوا رسول الله [صلى الله عليه وسلم] أن يجليهم ويكف عن دمائهم، كما سبق جلاء بني قينقاع -وقد ذكرنا سببه وظروفه في تفسير سورة الأحزاب في الجزء الحادي والعشرين- على أن لهم ما حملت الإبل من أموالهم إلا السلاح. فأجابهم رسول الله [صلى الله عليه وسلم] فاحتملوا من أموالهم ما استقلت به الإبل. فكان الرجل منهم يهدم بيته عن خشبة بابه فيحمله على ظهر بعيره؛ أو يخربه حتى لا يقع في أيدي المسلمين؛ وكان المسلمون قد هدموا وخربوا بعض الجدران التي اتخذت حصونا في أيام الحصار.

وفي هذا يقول الله في هذه السورة: (هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأول الحشر ما ظننتم أن يخرجوا وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله، فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا، وقذف في قلوبهم الرعب، يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين، فاعتبروا يا أولي الأبصار. ولولا أن كتب الله عليهم الجلاء لعذبهم في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب النار. ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله ومن يشاق الله فإن الله شديد العقاب)..

وكان منهم من سار إلى خيبر، ومنهم من سار إلى الشام. وكان من أشرافهم ممن سار إلى خيبر سلام بن أبي الحقيق، وكنانة بن الربيع بن أبي الحقيق، وحي بن أخطب، ممن ورد ذكرهم بعد ذلك في تأليب المشركين على المسلمين في غزوة الأحزاب ووقعة بني قريظة "في سورة الأحزاب " وكان لبعضهم كذلك ذكر في فتح خيبر " في سورة الفتح".

وكانت أموال بني النضير فيئا خالصا لله وللرسول؛ لم يوجف المسلمون عليه بخيل ولا جمال. فقسمها رسول الله [صلى الله عليه وسلم] على المهاجرين خاصة دون الأنصار عدا رجلين من الأنصار فقيرين هما سهل بن حنيف، وأبو دجانة سماك بن خرشة. وذلك أن المهاجرين لم يكن لهم مال بعد الذي تركوه في مكة وتجردوا منه كله لعقيدتهم. وكان الأنصار قد أنزلوهم دورهم وشاركوهم مالهم في أريحية عالية، وأخوة صادقة، وإيثار عجيب. فلما واتت هذه الفرصة سارع رسول الله [صلى الله عليه وسلم] لإقامة الأوضاع الطبيعية في المجتمع الإسلامي، كي يكون للفقراء مال خاص، وكي لا يكون المال متداولا في الأغنياء وحدهم. ولم يعط من الأنصار إلا الفقيرين اللذين يستحقان لفقرهما..

وتكلم في أموال بني النضير بعض من تكلم -والراجح أنهم من المنافقين- فقال تعالى: (وما أفاء الله على رسوله منهم فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب، ولكن الله يسلط رسله على من يشاء والله على كل شيء قدير)..

وقال رسول الله [صلى الله عليه وسلم] للأنصار: " إن شئتم قسمتم للمهاجرين من أموالكم ودياركم وشاركتموهم في هذه الغنيمة. وإن شئتم كانت لكم دياركم وأموالكم، ولم يقسم لكم شيء من الغنيمة " فقالت الأنصار: بل نقسم من أموالنا وديارنا ونؤثرهم بالغنيمة ولا نشاركهم فيها.

وفي هذا نزل قوله تعالى: للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا، وينصرون الله ورسوله، أولئك هم الصادقون. والذين تبوؤوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا، ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة. ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون.

فهذا هو الحادث الذي نزلت فيه هذه السورة، وتعلقت به نصوصها، بما في ذلك خاتمة السورة التي يتوجه فيها الخطاب للذين آمنوا ممن شهدوا هذا الحادث وممن يعرفونه بعد ذلك. على طريقة القرآن في تربية النفوس بالأحداث وبالتعقيب عليها، وربطها بالحقائق الكلية الكبيرة..

ثم الإيقاع الأخير في السورة بذكر صفات الله الذي يدعو الذين آمنوا ويخاطبهم بهذا القرآن. وهي صفات ذات فاعلية وأثر في هذا الكون؛ وعلى أساس تصور حقيقتها يقوم الإيمان الواعي المدرك البصير.

وتبدأ السورة وتختتم بتسبيح الله الذي له ما في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم. فيتناسق البدء والختام مع موضوع السورة، ومع دعوة المؤمنين للتقوى والخشوع والتفكر في تدبير الله الحكيم.

والآن نسير مع النصوص القرآنية لنرى كيف تصور الأحداث، وكيف تربي النفوس بهذه الأحداث..

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

أغراض هذه السورة: وفق الاتفاق على أنها نزلت في شأن بني النضير ولم يعينوا ما هو الغرض الذي نزلت فيه. ويظهر أن المقصد منها حكم أموال بني النضير بعد الانتصار عليهم، كما سنبينه في تفسير الآية الأولى منها. وقد اشتملت إلى أن ما في السماوات وما في الأرض دال على تنزيه الله، وكون في السماوات والأرض ملكه، وأنه الغالب المدبر...

وعلى ذكر نعمة الله على ما يسر من إجلاء بني النضير مع ما كانوا عليه من المنعة والحصون والعدة. وتلك آية من آيات تأييد رسول الله صلى الله عليه وسلم وغلبته على أعدائه. وذكر ما أجراه المسلمون من إتلاف أموال بني النضير وأحكام ذلك في أموالهم وتعيين مستحقيه من المسلمين. وتعظيم شأن المهاجرين والأنصار والذين يجيئون بعدهم من المؤمنين. وكشف دخائل المنافقين ومواعيدهم لبني النضير أن ينصروهم وكيف كذبوا، وأنحى على بني النضير والمنافقين بالجبن وتفرق الكلمة، وتنظير حال تغرير المنافقين لليهود بتغرير الشيطان للذين يكفرون بالله، وتنصله من ذلك يوم القيامة، فكان عاقبة الجميع الخلود في النار. ثم خطاب المؤمنين بالأمر بالتقوى، والحذر من أحوال أصحاب النار، والتذكير بتفاوت حال الفريقين، وبيان عظمة القرآن وجلالته واقتضائه خشوع أهله...

وتخلل ذلك إيماء إلى حكمة شرائع انتقال الأموال بين المسلمين بالوجوه التي نظمها الإسلام، بحيث لا تشق على أصحاب الأموال. والآمر باتباع ما يشرعه الله على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم. وختمت بصفات عظيمة من الصفات الإلهية، وأنه يسبح له ما في السماوات والأرض؛ تزكية لحال المؤمنين وتعريضا بالكافرين...

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :

يمكن تلخيص موضوعات هذه السورة في ستّة أقسام هي:

الأوّل: من هذه السورة الذي هو آية واحدة فقط يعتبر مقدّمة للأبحاث المختلفة التي وردت في هذه السورة، فتتحدّث الآية عن تسبيح الله الحكيم العليم من قبل الموجودات جميعاً.

الثّاني: الذي يبدأ من الآية الثانية إلى الآية العاشرة، والذي يشمل تسع آيات فإنّه يوضّح قصّة اشتباك المسلمين مع ناقضي العهد من يهود المدينة...

الثّالث: والذي يتكوّن من الآية الحادية عشرة إلى الآية السابعة عشر وفيه يستعرض القرآن قصّة منافقي المدينة مع اليهود والتعاون بينهما.

الرّابع: الذي يتجاوز بضع آيات يشمل مجموعة من التوجيهات والنصائح العامّة لعموم المسلمين، وهي تمثّل استنتاجا للأحداث أعلاه...

الخامس: الذي يشمل آية واحدة فقط وهي الآية الحادية والعشرون فهو عبارة عن وصف بليغ للقرآن الكريم وبيان أثره في تطهير الروح والنفس.

القسم الأخير الذي هو آخر قسم من السورة، ويبدأ من الآية الثانية والعشرين إلى الآية الرابعة والعشرين فيتناول قسماً مهمّاً من أوصاف جلال وجمال الذات الإلهية المقدّسة، وبعض أسمائه الحسنى، وهذه الصفات تكون عوناً للإنسان في طريق معرفة الله سبحانه.

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

يقول: ذكر اللهَ ما في السماوات من الملائكة، وما في الأرض من الخلق {وهو العزيز} في ملكه {الحكيم} في أمره...

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

يعني بقوله جل ثناؤه {سبح لله}: صلى لله وسجد له {ما في السموات وما في الأرض} من خلقه.

{وهو العزيز الحكيم} يقول وهو العزيز في انتقامه ممن انتقم من خلقه على معصيتهم إياه، الحكيم في تدبيره إياهم.

تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :

{وهو العزيز الحكيم} العزيز: هو الغالب القاهر، وقيل: هو العزيز حين جعل في كل شيء من خلقه أثر الذل والحاجة.

{الحكيم} له معنيان: معنى الإحكام، ومعنى الحكمة. فأما معنى الإحكام؛ فهو أنه أحكم الأشياء على اختلافها وتضادها حين تشهد له بالوحدانية...

وأما معنى الحكمة، فهو أنه وضع الأشياء مواضعها.

لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :

قدَّس الله ونزَّهَهُ كُلُّ شيءٍ خَلَقه؛ فكلُّ ما خَلَقَه جَعَلَه على وحدانيته دليلاً، ولِمَنْ أراد أن يَعْرِفَ إلهيتَه طريقاً وسبيلاً. أتقن كلَّ شيءٍ وذلك دليلُ عِلْمِه وحكمته، ورَتَّبَ كُلَّ شيءٍ، وذلك شاهِدٌ على مشيئته وإرادته.

تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :

وقوله: {وَهُوَ الْعَزِيزُ} أي: منيع الجناب، {الْحَكِيمُ} في قدره وشرعه...

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

بهذه الحقيقة التي وقعت وكانت في الوجود؛ حقيقة تسبيح كل شيء في السماوات وكل شيء في الأرض لله، واتجاهها إليه بالتنزيه والتمجيد.. تفتتح السورة التي تقص قصة إخراج الله للذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم، وإعطائها للمؤمنين به، المسبحين بحمده، الممجدين لأسمائه الحسنى..

(وهو العزيز الحكيم).. القوي القادر على نصر أوليائه وسحق أعدائه.. الحكيم في تدبيره وتقديره...

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

افتتاح السورة بالإخبار عن تسبيح ما في السماوات والأرض لله تعالى تذكيرٌ للمؤمنين بتسبيحهم لله تسبيح شكر على ما أنالهم من فتح بلاد بني النضير، فكأنه قال سبحوا لله كما سَبح له ما في السماوات والأرض. وتعريض بأولئك الذين نزلت السورة فيهم بأنهم أصابهم ما أصابهم لتكبرهم عن تسبيح الله حق تسبيحه بتصديق رسوله صلى الله عليه وسلم، إذ أعرضوا عن النظر في دلائل رسالته أو كابروا في معرفتها.

والقول في لفظ هذه الآية كالقول في نظيرها في أول سورة الحديد، إلا أن التي في أول سورة الحديد فيها: {ما في السماوات والأرض}، وها هنا قال: {ما في السموات وما في الأرض} وعلى هذا المنوال جاءت فواتح سور الصف والجمعة والتغابن كما سيأتي في مواضعها. وأوثر الأخبار عن {سبح لله ما في السموات وما في الأرض} بفعل الماضي لأن المخبر عنه تسبيح شكر عن نعمة مضت قبل نزول السورة وهي نعمة إخراج أهل النضير.

أضواء البيان في تفسير القرآن بالقرآن للشنقيطي 1393 هـ :

إن أصل التسبيح من مادة سبح، والسباحة والتسبيح مشتركان في أصل المادة، فبينهما اشتراك في أصل المعنى، والسباحة في الماء ينجو بها صاحبها من الغرق، وكذلك المسبح لله والمنزه له ينجو من الشرك ويحيا بالذكر والتمجيد لله تعالى.

 
الوجيز في تفسير الكتاب العزيز للواحدي - الواحدي [إخفاء]  
{سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلۡأَرۡضِۖ وَهُوَ ٱلۡعَزِيزُ ٱلۡحَكِيمُ} (1)

 
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي [إخفاء]  
{سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلۡأَرۡضِۖ وَهُوَ ٱلۡعَزِيزُ ٱلۡحَكِيمُ} (1)

مقدمة السورة:

سورة الحشر{[1]} وتسمى سورة النضير{[2]} ، مقصودها بيان ما دل عليه آخر المجادلة من التنزه عن شوائب النقص بإثبات القدرة الشاملة بدليل{[3]} شهودي على أنه يغلب هو ورسله ، ومن حاده في الأذلين ، لأنه قوي عزيز ، المستلزمة للعلم التام المستلزم [ للحكمة البالغة المستلزمة-{[4]} ] للحشر المظهر لفلاح المفلح وخسار الخاسر على وجه الثبات الكاشف أتم كشف لجميع صفات الكمال ، وأدل{[5]} ما فيها على ذلك تأمل قصة [ بني{[6]}- ] النضير المعلم بأول الحشر المؤذن بالحشر الحقيقي بالقدرة عليه بعد إطباق الولي والعدو على الظن أنه لا يكون ، فلذا{[7]} سميت بالحشر وببني النضير لأنه سبحانه وتعالى حشرهم بقدرته من المدينة الشريفة إلى خيبر والشام والحيرة ثم حشرهم [ وغيرهم{[8]}- ] من اليهود الحشر الثاني من خيبر إلى الشام الذي هو آية الحشر الأعظم إلى أرض الحشر لقهر هذا النبي الكريم أهل الكتاب المدعين ، لأنهم{[9]} أفضل الناس وأنهم مؤيدون بما{[10]} لهم من الدين الذي أصله قويم{[11]} بما لوحت إليه الحديد ، كما قهر أهل الأوثان الذين هم عالمون بأنهم بدلوا الدين الصحيح فثبت –بظهور دينه على كل دين على حد سواء ، كما وعد به سبحانه صدقه في كل ما جاء به بعد التوحيد{[12]}- الإيمان بالبعث الآخر لأنه محط الحكمة وموضع إظهار النقمة والرحمة{[13]} ( بسم الله ) الملك الأعظم الذي لا راد لأمره{[14]} فلا خلف لعباده ( الرحمن ) الذي عمت نعمة إيجاده فلا محيص عن معاده ( الرحيم ) الذي خص أهل وداده بالتوفيق لما يرضيه عنهم فيوجب لهم الفوز بإسعاده{[15]} .

لما{[63590]} ختمت المجادلة بأنه معز أهل طاعته ، ومذل أهل معصيته ومحادته ، علله بتنزهه{[63591]} عن النقائص تأييداً للوعد بنصرهم فقال : { سبح } أي أوقع التنزيه{[63592]} الأعظم عن كل شائبة نقص { لله } الذي أحاط بجميع صفات{[63593]} الكمال .

ولما كان الكفار من جميع بني آدم قد عبد بعضهم الشمس وبعضهم القمر وبعضهم غيرهما من{[63594]} الكواكب ، وكانت الكواكب مبثوثة في السماوات كلها لا تخص سماء بعينها وكذا الملائكة ، جمع دلالة على أن الكل عبيد فقال : { ما في السماوات } أي كلها . ولما كان الكلام في النهي عن موادة الذين يحادون الله ، وكان ذلك لمن دون الخلص ، أكد بإعادة النافي لاحتياجهم للتأكيد فقال : { وما } ولما كان جميع ما عبدوه ما أشركوا به من الأرضيات من شجر وصنم وبقر وغيرها لا يعد والأرض التي هم عليها ، أفرد فقال : { في الأرض } .

ولما شمل هذا جميع العالم ، أشار إلى أن عظمته لا تنتهي فقال : { وهو } أي والحال أنه وحده { العزيز } الذي يغلب كل شيء ولا يمتنع عليه شيء{[63595]} { الحكيم * } الذي نفذ علمه{[63596]} في الظواهر والبواطن وأحاط بكل شيء فأتقن{[63597]} ما أراد ، فكل ما خلقه جعله على وحدانيته دليلاً ، وإلى بيان ما له من العزة والحكمة سبيلاً .

وقال الإمام {[63598]}أبو جعفر{[63599]} بن الزبير : لا خفاء باتصال أيها بما{[63600]} تأخر من آي سورة المجادلة ، ألا ترى أن قوله تعالى :{ يا أيها الذين آمنوا لا تتولوا قوماً غضب الله عليهم } إنما يراد به يهود فذكر سبحانه سوء سريرتهم وعظيم جرأتهم ، ثم قال في آخر السورة :{ لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله } ، فحصل من هذا كله تنفير المؤمنين عنهم وإعلامهم بأن بغضهم من الإيمان وودهم من النفاق لقبيح ما انطووا عليه وشنيع{[63601]} ما ارتكبوه ، فلما أشارت هذه الآي إلى ما ذكر أتبعت بالإعلام في أول سورة الحشر بما عجل لهم من هوانهم{[63602]} وإخراجهم من ديارهم وأموالهم وتمكين المسلمين منهم ، جرياً على ما تقدم الإيماء إليه من سوء مرتكبهم ، والتحمت الآي باتحاد المعنى وتناسبه ، وتناسج الكلام ، وافتتحت السورة بالتنزيه لبنائها على ما أشار إليه غضبه تعالى عليهم إذ لا يكون إلا على أعظم جريمة وأسوأ مرتكب وهو اعتداؤهم وعصيانهم المفصل في مواضع من الكتاب ، وقد قال تعالى فيهم بعد ذكر غضبه عليهم{ أولئك شر مكاناً وأضل عن سواء السبيل }[ المائدة : 60 ] ، وقال تعالى :{ لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون }[ المائدة : 78 ] ، فبين تعالى أن لعنته إياهم إنما ترتبت على عصيانهم واعتدائهم ، وقد فصل اعتداءهم أيضاً في مواضع ، فلما كان الغضب{[63603]} مشيراً إلى ما ذكر من عظيم الشرك ، أتبعه سبحانه وتعالى تنزيه نفسه جل وتعالى فقال :{ سبح لله ما في السماوات وما في الأرض } وإنما يرد{[63604]} مثله من التنزيه أثر جريمة تقع من العباد وعظيمة يرتكبونها وتأمل ذلك حيث وقع ، ثم عاد الكلام إلى الإخبار بما فعل تعالى بأهل الكتاب مما يتصل{[63605]} بما تقدم ، ثم تناسجت الآي - انتهى .


[1]:- هكذا ثبتت العبارة في النسخة المخزونة بالرباط – المراقش التي جعلناها أصلا وأساسا للمتن، وكذا في نسخة مكتبة المدينة ورمزها "مد" وموضعها في نسخة دار الكتب المصرية ورمزها "م": رب زدني علما يا فتاح.
[2]:- في م ومد: قال أفقر الخلائق إلى عفو الخالق؛ وفي الأصل: أبو إسحاق – مكان: أبو الحسن، والتصحيح من الأعلام للزركلي ج1 ص 50 وعكس المخطوطة أمام ص 56 وهامش الأنساب للسمعاني ج2 ص280.
[3]:- ضبطه في الأعلام بضم الراء وتخفيف الباء.
[4]:- ضبطه الشيخ عبد الرحمن بن يحيى المعلمي اليماني رحمه الله في تعليقه على الأنساب ج2 ص280 وقال: البقاعي يكسر الموحدة وفتح القاف مخففة وبعد الألف عين مهملة بلد معروف بالشام ينسب إليه جماعة أشهرهم الإمام المفسر إبراهيم بن عمر بن حسن الرباط بن علي بن أبي بكر البقاعي أبو الحسن برهان الدين من أجلة أهل القرن التاسع له عدة مؤلفات ولد سنة 809 وتوفي سنة 885 – اهـ.
[5]:- في م ومد: لطف الله بهم أجمعين، إلا أن لفظ "اجمعين" ليس في مد. والعبارة من "وآله" إلى هنا ليست في نسخة المكتبة الظاهرية ورمزها "ظ".
[6]:- في م ومد: لطف الله بهم أجمعين، إلا أن لفظ "اجمعين" ليس في مد. والعبارة من "وآله" إلى هنا ليست في نسخة المكتبة الظاهرية ورمزها "ظ".
[7]:- في م ومد وظ: برسالته.
[8]:- ليس في م ومد وظ.
[9]:- سورة 38 آية 29.
[10]:- في م وظ: اخرجه.
[11]:- ليس في م.
[12]:- ليس في م.
[13]:- في النسخ كلها: لا، وفي البخاري: ما، وقول علي رضي الله عنه نقل من البخاري فأثبتناها.
[14]:- في ظ: فهما، وفي متن البخاري كذلك، وعلى حاشيته: فهم.
[15]:- في ظ ومد: عمرو.
[63590]:من م، وفي الأصل وظ: ولما.
[63591]:- من م، وفي الأصل وظ: بتنزيهه.
[63592]:- من م، وفي الأصل وظ: للشبه.
[63593]:- زيد من ظ.
[63594]:زيد من ظ وم.
[63595]:- سقط من ظ.
[63596]:- من ظ وم، وفي الأصل: حكمه.
[63597]:- زيد في الأصل: كل، ولم تكن الزيادة في ظ وم فحذفناها.
[63598]:- تكرر ما بين الرقمين في الأصل فقط.
[63599]:- تكرر ما بين الرقمين في الأصل فقط.
[63600]:- من ظ وم، وفي الأصل: ما.
[63601]:- من ظ وم، وفي الأصل: تشنيع.
[63602]:- من ظ وم، وفي الأصل: هواهم.
[63603]:- زيد في الأصل: أيضا، ولم تكن الزيادة في ظ وم فحذفناها.
[63604]:- من ظ وم، وفي الأصل: يسره.
[63605]:- من م، وفي الأصل وظ: يتوصل.