وما الذي يعوقهم عن الإيمان بالله وهو ينزل على عبده آيات بينات تخرجهم من ظلمات الضلال والشك والحيرة إلى نور الهدى واليقين والطمأنينة ? وفي هذا وذاك من دلائل الرأفة والرحمة بهم ما فيه .
إن نعمة وجود الرسول بين القوم ، يدعوهم بلغة السماء ، ويخاطبهم بكلام الله ، ويصل بينهم وبين الله في ذوات نفوسهم وخواص شؤونهم . . نعمة فوق التصور حين نتملاها نحن الآن من بعيد . . فهذه الفترة - فترة الوحي وحياة الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] فترة عجيبة حقا . . إن الله - جل جلاله - يخاطب هذا البشر من صنع يديه ، على لسان عبده [ صلى الله عليه وسلم ] وفي رحمة علوية ندية يقول لهم : خذوا هذا ودعوا ذاك ! ها هو ذا طريقي فاسلكوه ! لقد تعثرت خطاكم فهاكم حبلي ! لقد أخطأتم وأثمتم فتوبوا وها هو ذا بابي مفتوح . تعالوا ولا تشردوا بعيدا ، ولا تقنطوا من رحمتي التي وسعت كل شيء . . وأنت يا فلان - بذاتك وشخصك - قلت كذا . وهو خطأ . ونويت كذا . وهو إثم . وفعلت كذا وهي خطيئة . . فتعال هنا قدامي وتطهر وتب وعد إلى حماي . . وأنت يا فلان - بذاتك وشخصك - أمرك الذي يعضلك هذا حله . وسؤالك الذي يشغلك هذا جوابه . وعملك الذي عملت هذا وزنه !
إنه الله . هو الذي يقول . يقول لهؤلاء المخاليق . وهم يعيشون معه . يحسون أنه معهم . حقيقة وواقعا . أنه يستمع إلى شكواهم في جنح الليل ويستجيب لها . وأنه يرعاهم في كل خطوة ويعنى بها . .
ألا إنه لأمر فوق ما يطيق الذي لم يعش هذه الفترة أن يتصور . ولكن هؤلاء المخاطبين بهذه الآيات عاشوها فعلا . . ثم احتاجوا إلى مثل هذا العلاج ومثل هذه اللمسات ، ومثل هذا التذكير . . وهو فضل من الله ورحمة فوق فضله ذاك ورحمته . يدركهما ويشعر بهما من لم تقدر له الحياة في هذه الفترة العجيبة :
ورد في صحيح البخاري أن رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] قال يوما لأصحابه : " أي المؤمنين أعجب إليكم ? " قالوا : الملائكة . قال " وما لهم لا يؤمنون وهم عند ربهم ? " . قالوا : فالأنبياء . قال : " وما لهم لا يؤمنون والوحي ينزل عليهم ? " . قالوا : فنحن . قال : " وما لكم لاتؤمنون وأنا بين أظهركم ? ولكن أعجب المؤمنين إيمانا قوم يجيئون بعدكم يجدون صحفا يؤمنون بما فيها " . .
9- { هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آَيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ } .
الوحي ينزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم حاملا الهدى والبيان ، حاملا دلائل الإيمان ، حاملا أخبار البشرية ، وخلق الكون ، وخلق آدم ، واستخلافه في الأرض ، وتاريخ البشرية ، وأخبار الرسل مع أقوامهم ، ومشاهد القيامة ، والبعث والحشر ، والجزاء والحساب ، والجنة والنار ، وكل هذه الآيات البينات من شأنها أن تُخرجكم من ظلمات الكفر والجهالة إلى نور الإيمان ورسالة الإسلام .
{ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ } .
في تشريعاته وتيسيراته ، ومن رحمته الهداية وإرسال محمد صلى الله عليه وسلم ، ومن رحمته رفع الحرج ، فأباح التيمم للمريض عند عدم قدرته على استخدام الماء ، وأباح الفطر للمريض والمسافر في رمضان ، ثم القضاء أو الفدية .
قال تعالى : { ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج . . . } ( المائدة : 6 ) .
وقال سبحانه : { يُريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر . . . } ( البقرة : 185 ) .
ومن رحمته قبول التوبة من عباده .
قال تعالى : { ورحمتي وسعت كل شيء . . . } ( الأعراف : 156 ) .
فما أعظم رأفته ، وما أعظم رحمته ، فقد قسم الرحمة مائة جزء ، أنزل جزءا واحدا في الدنيا يتراحم به الناس ، وادّخر تسعة وتسعين جزءا ، يرحم بها عباده يوم القيامة .
{ هو الذي ينزل على عبده } : أي هو الله ربكم الذي يدعوكم رسوله لتؤمنوا به ينزل على عبده محمد صلى الله عليه وسلم .
{ آيات بينات } : هي آيات القرآن الكريم الواضحات المعاني البينات الدلالة .
{ ليخرجكم من الظلمات إلى : أي ليخرجكم من ظلمات الكفر والجهل إلى نور الإِيمان النور } والعلم .
{ وإن الله بكم لرءوف رحيم } : ويدلكم على ذلك إرسال رسوله إليكم وإنزال كتابه ليخرجكم من الظلمات إلى النور .
وقوله تعالى : { هو الذي ينزل على عبده آيات بينات } أي إنكم تدعون إلى الإِيمان بالله الذي ينزل على عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم آيات واضحات المعاني بينات الدلائل كل ذلك ليخرجكم من الظلمات إلى النور من ظلمات الكفر والجهل إلى نور الإِيمان والعلم ، فما لكم لا تؤمنون إذاً ما هذا التردد والتلكؤ يا عباد الله في الإِيمان بالله وبرسول الله ، وإن الله بكم لرءوف رحيم فاعرفوا هذا وآمنوا به ويدلكم على ذلك إنزاله الكتاب وإرساله الرسول وتوضيح الأدلة وإقامة الحجج والبراهين .
- بيان لطف الله ورأفته ورحمته بعباده مما يستلزم محبته وطاعته وشكره .
فلهذا قال : { هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ } أي : ظاهرات تدل أهل العقول على صدق كل ما جاء به وأنه حق اليقين ، { لِيُخْرِجَكُمْ } بإرسال الرسول إليكم ، وما أنزله الله على يده من الكتاب والحكمة .
{ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ } أي : من ظلمات الجهل والكفر ، إلى نور العلم والإيمان ، وهذا من رحمته بكم ورأفته ، حيث كان أرحم بعباده من الوالدة بولدها { وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ }
قوله تعالى : " هو الذي ينزل على عبده آيات بينات " يريد القرآن . وقيل : المعجزات ، أي لزمكم الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم ، لما معه من المعجزات ، والقرآن أكبرها وأعظمها . " ليخرجكم " أي بالقرآن . وقيل : بالرسول . وقيل : بالدعوة . " من الظلمات " وهو الشرك والكفر " إلى النور " وهو الإيمان . " وإن الله بكم لرؤوف رحيم " .
ولما وصفه بالربوبية ، دل عليها بقوله : { هو } أي وحده لا غيره{[62398]} { الذي ينزل } أي على سبيل التدريج والموالاة بحسب الحاجة . ولما كان الخطاب في هذه السورة للمخلص ، قال مضيفاً إلى ضميره غير مقرون بما يدل على الجلال والكبرياء { على عبده } أي الذي هو أحق الناس بحضرة جماله{[62399]} وإكرامه لأنه ما تعبد لغيره قط { آيات } أي علامات هي من ظهورها حقيقة بتأن يرجع إليها ويتقيد بها{[62400]} { بينت } جداً على ما له من النعوت التي هي في غاية الوضوح { ليخرجكم }{[62401]} أي الله أي عبده بما أنزل إليه مع أنه بشر مثلكم ، والجنس إلى جنسه أميل ومنه أقبل ، ولا سيما إن كان قريباً ولبيباً أريباً { من الظلمات } التي أنتم منغمسون فيها من الحظوظ والنقائص{[62402]} التي جبل عليها الإنسان والغفلة والنسيان ، الحاملة على تراكم الجهل ، فمن آتاه سبحانه العلم والإيمان فقد أخرجه نم هذه الظلمات التي طرأت عليه { إلى النور } الذي كان{[62403]} وصفاً لروحه وفطرته الأولى السليمة .
ولما كان التقدير : فإن الله به للطيف خبير ، عطف عليه قوله مؤكداً لأجل زلزال من يطول به البلاء من المؤمنين وإنكار الكفار : { وإن الله } أي الذي له صفات الكمال { بكم } قدم الجارّ لأن عظيم رحمته لهذه الأمة موجب لعد نعمته{[62404]} على غيرنا عدماً بالنسبة إلى نعمته علينا { لرؤوف رحيم * } أي كنتم بالنظر إلى رحمته الخاصة التي هي لإتمام النعمة العامة صنفين : منكم من كان له به وصلة بما يفعل في أيام جاهليته من الخيرات كالإنفاق{[62405]} في سبيل المعروف ، وعبر بالإنفاق لكونه خيراً{[62406]} لا رياء ونحوه فيه كالصديق{[62407]} رضي الله عنه فعاد عليه ، بعد عموم {[62408]}رحمته بالبيان{[62409]} ، بخصوص رحمة عظيمة أوصلته إلى {[62410]}أعظم درجات{[62411]} العرفان ، ومنكم من كان بالغاً في اتباع الهوى فابتدأه بعد عموم رحمة البيان بخصوص رحمة هداه بها إلى أعمال الجنان ، وهي دون ما قبلها في الميزان ، وفوقها من حيث إنها بدون سبب من المرحوم .