وبعد أن يثبت مشيئتهم في اختيار الطريق يعقب بطلاقة المشيئة الإلهية ، وعودة الأمور إليها في النهاية . وهي الحقيقة التي يحرص القرآن على تقريرها في كل مناسبة لتصحيح التصور الإيماني من ناحية طلاقة المشيئة الإلهية وشمولها الكامل الأخير ، وراء جميع الأحداث والأمور :
( وما يذكرون إلا أن يشاء الله ، هو أهل التقوى وأهل المغفرة ) . .
فكل ما يقع في هذا الوجود ، مشدود إلى المشيئة الكبرى ، يمضي في اتجاهها وفي داخل مجالها . فلا يقع أن يشاء أحد من خلقه ما يتعارض مع مشيئته ، ومشيئته تسيطر على أقدار الوجود كله ، وهي التي أنشأته وأنشأت نواميسه وسننه ، فهو يمضي بكل ما فيه وكل من فيه في إطار من تلك المشيئة المطلقة من كل إطار ومن كل حد ومن كل قيد .
والذكر توفيق من الله ييسره لمن يعلم من حقيقة نفسه أنه يستحق التوفيق . والقلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء . فإذا علم من العبد صدق النية وجهه إلى الطاعات .
والعبد لا يعرف ماذا يشاء الله به . فهذا من الغيب المحجوب عنه . ولكنه يعرف ماذا يريد الله منه ، فهذا مما بينه له . فإذا صدقت نيته في النهوض بما كلف أعانه الله ووجهه وفق مشيئته الطليقة .
والذي يريد القرآن أن يطبعه في حس المسلم هو طلاقة هذه المشيئة ، وإحاطتها بكل مشيئة ، حتى يكون التوجه إليها من العبد خالصا ، والاستسلام لها ممحضا . . فهذه هي حقيقة الإسلام القلبية التي لا يستقر في قلب بدونها . وإذا استقرت فيه كيفته تكييفا خاصا من داخله ، وأنشأت فيه تصورا خاصا يحتكم إليه في كل أحداث الحياة . . وهذا هو المقصود ابتداء من تقرير طلاقة المشيئة الإلهية وشمولها عقب الحديث عن كل وعد بجنة أو نار ، وبهدى أو ضلال .
فأما أخذ هذا الإطلاق ، والانحراف به إلى جدل حول الجبر والاختيار ، فهو اقتطاع لجانب من تصور كلي وحقيقة مطلقة ، والتحيز بها في درب ضيق مغلق لا ينتهي إلى قول مريح . لأنها لم تجيء في السياق القرآني لمثل هذا التحيز في الدرب الضيق المغلق !
( وما يذكرون إلا أن يشاء الله ) . . فهم لا يصادمون بمشيئتهم مشيئة الله ، ولا يتحركون في اتجاه ، إلا بإرادة من الله ، تقدرهم على الحركة والاتجاه .
والله ( هو أهل التقوى ) . . يستحقها من عباده . فهم مطالبون بها . .
( وأهل المغفرة ) . . يتفضل بها على عباده وفق مشيئته .
والتقوى تستأهل المغفرة ، والله - سبحانه - أهل لهما جميعا .
بهذه التسبيحة الخاشعة تختم السورة ، وفي النفس منها تطلع إلى وجه الله الكريم ، أن يشاء بالتوفيق إلى الذكر ، والتوجيه إلى التقوى ، والتفضل بالمغفرة .
أهل التقوى : الله تعالى حقيق بأن يتّقى عذابه ، أو أن يتقيه عباده .
وأهل المغفرة : حقيق بأن يغفر لمن آمن به وأطاعه .
40- وما يذكرون إلا أن يشاء الله هو أهل التقوى وأهل المغفرة .
تختم سورة المدثر ببيان طلاقه المشيئة الإلهية ، فهو سبحانه خالق الإنسان ، وهو العليم بما توسوس به نفسه ، فمن رأى منه –سبحانه- الاستجابة للحق ، والرغبة في الهدى ، يسر له اليسرى ، ووفقه وأعانه ، ومنحه الهداية والمعونة ، واللطف والخير ، ومن دسّى نفسه ، وآثر الهوى والشهوات ، وأعرض عن هدايات السماء ، سلب الله عنه الهدى والتوفيق ، والاستماع للتذكرة ، والاستفادة بهدي القرآن الكريم .
وما يتعظون به إلا أن يشاء الله لهم الهدى ، فيتذكروا ويتعظوا ، وفيه تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم ، وترويح عن قلبه الشريف ، مما كان يخامره من إعراضهم وتكذيبهم له .
الله عز وجل أهل لأن يتقى ، وأن يطاع فلا يعصى ، وأن يذكر فلا ينسى ، وأن يخاف الإنسان مقام ربه ، وينهى النفس عن الهوى ، والله تعالى أهل للمغفرة والرحمة ، لمن اتقاه وأطاعه .
روى الإمام أحمد ، والترمذي وحسّنه ، عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية : هو أهل التقوى وأهل المغفرة . ثم قال : ( قال ربكم : أنا أهل أن أتقى ، فمن اتقاني فلم يجعل معي إلها ، فأنا أهل أن أغفر له )vii .
تم بحمد الله تفسير سورة ( المدثر ) مساء الثلاثاء * من المحرم 1422 ه ، الموافق 3 من أبريل 2001 م بمدينة المقطم بالقاهرة .
نسأل الله تعالى القبول والتوفيق ، وصل اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين .
اللهم اجعلنا جميعا من أهل التقوى ، ومن أهل المغفرة ، اللهم آمين .
i انظر تفسير الخطيب ، الجزء الرابع ، تفسير سورة المزمل ، وفي ظلال القرآن 29/180 .
ii جاورت بحراء فلما قضيت جواري :
رواه البخاري في تفسير القرآن ( 4922 ) ومسلم في الإيمان( 161 ) من حديث يحيى بن أبي كثير قال : سألت أبا سلمة ابن عبد الرحمان عن أول ما نزل من القرآن قال : { يا أيها المدثر } قلت : يقولون : { اقرأ باسم ربك الذي خلق } فقال أبو سلمة : سألت جابر بن عبد الله رضي الله عنه عن ذلك وقلت له مثل قلت : فقال جابر : لا أحدثك إلا ما حدثنا رسول الله صلى الله عله وسلم قال : ( جاورت بحراء فلما قضيت جواري هبطت فنوديت فنظرت عن يميني فلم أر شيئا ونظرت عن شمالي فلم أر شيئا ونظرت أمامي فلم أر شيئا ونظرت خلفي فلم أر شيئا فرفعت رأسي فرأيت شيئا ، فأتيت خديجة فقلت : دثّروني وصبوا علي ماء باردا قال : فدثّروني وصبوا علي ماء باردا ، قال : فنزلت { يا أيها المدثر . قم فأنذر . وربك فكبر } .
iii ذكر بعض المفسرين تبعا للزمخشري أن الذين أسلموا : ( خالد ، وعمارة ، وهشام ) ، والصحيح انه الوليد ، أما عمارة فإنه مات كافرا . انظر صفوة التفاسير للصابوني نقلا عن حاشية الشهاب 8/274 .
iv يؤتى بجهنم يومئذ لها سبعون ألف زمام :
رواه مسلم في الجنة ( 2842 ) والترمذي في صفة جهنم ( 2573 ) من حديث عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( يؤتى بجهنم يومئذ لها سبعون ألف زمام ، مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها ) .
v إني أرى ما لا ترون وأسمع ما لا تسمعون :
رواه الترمذي في الزهد ( 2312 ) وابن ماجة في الزهد ( 4190 ) وأحمد في مسنده ( 21005 ) من حديث أبي ذر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إني أرى ما لا ترون وأسمع ما لا تسمعون ، إن السماء أطت وحق لها أن تئط ما فيها موضع أربع أصابع إلا وملك واضع جبهته ساجدا لله ، والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا وما تلذذتم بالنساء على الفرشات ، ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون إلى الله ، والله لوددت أني كنت شجرة تعضد ) . وقال الترمذي : حسن غريب .
vi في ظلال القرآن الجزء 29 ، ص( 192 ، 193 ) بتلخيص وتصرف ، الطبعة السادسة ، بدون ذكر اسم المطبعة . والغالب أنها طبعة مصورة في بيروت ثم لم تذكر اسمها .
vii أنا أهل أن أتقى فمن اتقاني :
رواه أحمد في مسنده ( 12034 ) والترمذي في تفسير القرآن ( 3328 ) وابن ماجة في الزهد ( 4299 ) والدارمي في الرقاق ( 2724 ) من حديث أنس بن مالك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال في هذه الآية { هو أهل التقوى وأهل للمغفرة } قال : ( قال الله عز وجل : أنا أهل أن أتقى فمن اتقاني فلم يجعل معي إلها فأنا أهل أن أغفر له ) .
قال الترمذي : هذا حديث حسن غريب ، وسهيل ليس بالقوي في الحديث ، وقد تفرد بهذا الحديث عن ثابت .
{ وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ } فإن مشيئته{[1288]} نافذة عامة ، لا يخرج عنها حادث قليل ولا كثير ، ففيها رد على القدرية ، الذين لا يدخلون أفعال العباد تحت مشيئة الله ، والجبرية الذين يزعمون أنه ليس للعبد مشيئة ، ولا فعل حقيقة ، وإنما هو مجبور على أفعاله ، فأثبت تعالى للعباد مشيئة حقيقة وفعلا ، وجعل ذلك تابعا لمشيئته ، { هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ } أي : هو أهل أن يتقى ويعبد ، لأنه الإله الذي لا تنبغي العبادة إلا له ، وأهل أن يغفر لمن اتقاه واتبع رضاه . تم تفسير سورة المدثر ولله الحمد{[1289]} .