ثم يعقبه الإيقاع الأخير في السورة :
( فأعرض عنهم وانتظر إنهم منتظرون ) . .
وفي طياته تهديد خفي بعاقبة الانتظار ، بعد أن ينفض الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] يده من أمرهم ، ويدعهم لمصيرهم المحتوم .
وتختم السورة على هذا الإيقاع العميق ، بعد تلك الجولات والإيحاءات والمشاهد والمؤثرات ، وخطاب القلب البشري بشتى الإيقاعات التي تأخذه من كل جانب ، وتأخذ عليه كل طريق . .
{ فأعرض عنهم وانتظر إنهم منتظرون }
فأعرض عنهم : لا تبال بتكذيبهم .
وانتظر : النصرة أو إنزال العذاب بهم .
إنهم منتظرون : الغلبة عليك أو الموت أو القتل .
لقد أديت رسالتك وبلغت لهم دعوتك وقابلوها بالرفض والاستهزاء فوجب أن تمضي في طريقك داعيا إلى الله تعالى مبشرا برسالتك قوما آخرين معرضا عن هؤلاء الكافرين منتظرا ما ينزل بهم من الهزيمة في الدنيا والعقوبة في الآخرة إنهم ينتظرون هلاكك ، أو الانتصار عليك ولكن الله تعالى سيخلف ظنهم وينزل بهم عاقبة كفرهم وجحودهم كقوله تعالى : أم يقولون شاعر نتربص به ريب المنون قل تربصوا فإني معكم من المتربصين . ( الطور : 30-31 ) .
وكقوله تعالى : ومن الأعراب من يتخذ ما ينفق مغرما ويتربص بكم الدوائر عليهم دائرة السوء والله سميع عليم . ( التوبة : 98 ) .
فأعرض عنهم قيل : معناه فأعرض عن سفيههم ولا تجبهم إلا بما أمرت به .
{ وانتظر إنهم منتظرون } أي انتظر يوم الفتح يوم يحكم الله لك عليهم أه .
قوله تعالى : قل يوم الفتح لا ينفع الذين كفروا إيمانهم وهم ينظرون .
أي : لا يقبل إيمانهم في تلك الحالة لأن الإيمان المقبول هو الذي يكون في دار الدنيا .
ولا هم ينظرون : أي ولا يمهلون بالإعادة إلى الدنيا ليؤمنوا فيقبل إيمانهم ثم لما بين المسائل وأتقن الدلائل ولم ينفعهم قال تعالى : فأعرض عنهم أي : لا تناظرهم بعد ذلك وإنما الطريق بعد هذا هو القتال .
وقوله تعالى : وانتظر إنهم منتظرون يحتمل وجوها :
أحدها : وانتظر هلاكهم فإنهم ينتظرون هلاكك ، وعلى هذا فرق بين الانتظارين لأن انتظار النبي صلى الله عليه وسلم بأمر الله تعالى بعد وعده وانتظارهم بتسويل أنفسهم والتعويل على الشيطان .
وثانيها وانتظر النصر من الله فإنهم ينتظرون النصر من آلهتهم وفرق بين الانتظارين .
وثالثها : وانتظر . . . عذابهم بنفسك فإنهم ينتظرون بأنفسهم استهزاء .
كما قالوا : فأتنا بما تعدنا . . . ( الأعراف : 70 ) .
وقالوا : متى هذا الوعد إن كنتم صادقين . ( النحل : 71 ) .
إلى غير ذلك ، والله أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب والحمد لله رب العالمين وصلاته على سيد المرسلين محمد النبي وآله وصحبه أجمعين وعلى أزواجه الطاهرات أمهات المؤمنين . xvi
i أي سورة السجدة المجاورة لسورة لقمان .
ii في ظلال القرآن بقلم سيد قطب 21/92 .
iii عقد مؤتمر علمي عالمي في الولايات المتحدة الأمريكية حوالي سنة 1995م وذكر أن عمر الكون 13 بليون سنة ، أما عمر وجود الإنسان في هذا الكون فمدته حوالي سبعة بلايين سنة ، أي أن المدة التي قضاها الكون ليتحول من كرة ملتهبة إلى دنيا صالحة للحياة ، فيها سماء أرض وهواء هي ستة بلايين سنة ، ونحن لا نحكم هذه المعلومات في تفسير الآية وإنما نستأنس بها بجوار فهمنا للآية وقد تحدثت عن هذا الموضوع فيما سبق من التفسير .
iv قال الفخر الرازي : وهذا مثل ما يقول القاتل لغيره :
إن يوما ولدت فيه كان يوما مباركا
وقد يجوز أن يكون قد ولد ليلا ، ولا يخرج عن مراده لأن المراد هو الزمان الذي هو ظرف ولادته أه .
التفسير الكبير للإمام الفخر الرازي مجلد 9 ص 136-139 وانظر تفسير المراغي والتفسير المنير للدكتور وهبة الزحيلي .
v في ظلال القرآن 21/101 طبعة عيسى البابي الحلبي وشركاه .
vi تفسير القرطبي المجلد 6 ص 5327 دار الغد العربي القاهرة .
vii تفسير القاسمي محمد جمال الدين القاسمي المتوفى 1322ه تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي دار إحياء التراث العربي بيروت لبنان المجلد الخامس ص 486 .
ix لقد سألتني عن عظيم وإنه ليسير على من يسره الله عليه :
رواه الترمذي في الإيمان ( 2616 ) وابن ماجة في الفتن ( 3973 ) وأحمد في مسنده ( 21511 ) من حديث معاذ بن جبل قال : كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر فأصبحت يوما قريبا منه ونحن نسير قلت : يا رسول الله أخبرني بعمل يدخلني الجنة ويباعدني عن النار قال : " لقد سألتني عن عظيم وإنه ليسير على من يسره الله عليه تعبد الله ولا تشرك به شيئا وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت ثم قال " ألا أدلك على أبواب الخير الصوم جنة والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار وصلاة الرجل من جوف الليل " قال ثم تلا : تتجافى جنوبهم عن المضاجع حتى بلغ يعملون ثم قال : " ألا أخبرك براس الأمر كله وعموده وذروة سنامه " قلت : بلى يا رسول الله قال : " رأس الأمر الإسلام وعموده الصلاة وذروة سنامه الجهاد ثم قال : " ألا أخبرك بملاك ذلك كله " ؟ قلت : بلى يا نبي الله فأخذ بلسانه وقال : كف عليك هذا ، فقلت : يا نبي الله وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به ؟ فقال : " ثكلتك أمك يا معاذ وهل يكب الناس في النار على وجوههم أو على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم قال أبو عيسى هذا حديث حسن صحيح .
x أعددت لع_بادي الصالحين ما لا عين رأت :
رواه البخاري في بدء الخلق ( 3244 ) وفي التفسير ( 4779-4780 ) وفي التوحيد ( 7498 ) ومسلم في الجنة ( 2824 ) والترمذي في التفسير ( 3197-3292 ) وابن ماجة في الزهد ( 4328 ) واحمد ( 9365-9688-10051 ) والدارمي في الرقاق ( 2828 ) من حديث أبي هريرة .
xi انظر تفسير القرطبي مجلد 6 ص 5338 ففيه طائفة من الأحاديث كما نجد ذلك في تفسير ابن كثير والتفسير المنير وتفسير المراغي وغيرها .
رواه مسلم في الإيمان ( 189 ) والترمذي في تفسير القرآن ( 3198 ) من حديث المغيرة بن شعبة يرفعه قال : سأل موسى ربه ما أدنى أهل الجنة منزلة ؟ قال : هو رجل يجيء بعد ما أدخل أهل الجنة الجنة ، فيقال له : ادخل الجنة فيقول : أي رب كيف وقد نزل الناس منازلهم وأخذوا أخذاتهم فيقال له أترضى أن يكون لك مثل ملك من ملوك الدنيا ؟ فيقول : رضيت ربي فيقول : لك ذلك ومثله ومثله ومثله ومثله ، فقال في الخامسة رضيت رب فيقول هذا لك وعشرة أمثاله ولك ما اشتهت نفسك ولذت عينك فيقول : رضيت رب قال رب فأعلاهم منزلة ؟ قال : أولئك الذين أردت غرست كرامتهم بيدي وختمت عليها فلم تر عين ولم تسمع أذن ولم يخطر على قلب بشرن قال ومصداقه في كتاب الله عز وجل فلا تعلم نفس ما أخفى لهم من قرة أعين الآية .
xiii أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت : تقدم تخريجه انظر هامش رقم ( 55 ) .
xiv تفسير القرطبي المجلد 6 ص 5228 مطابع دار الغد العربي .
xv تفسير القرطبي مجلد 6/5339 .
xvi التفسير الكبير للإمام الفخر الرازي المجلد 9 ص 192 دار إحياء التراث العربي بيروت لبنان .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{فأعرض عنهم وانتظر} بهم العذاب... {إنهم منتظرون} العذاب...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وقوله:"فأعْرِضْ عَنْهُمْ وانْتَظِرْ إنّهُمْ مُنْتَظِرونَ" يقول لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: فأعرض يا محمد عن هؤلاء المشركين بالله، القائلين لك: متى هذا الفتح، المستعجليك بالعذاب، وانتظر ما الله صانع بهم.
"إنهم منتظرون "ما تعدهم من العذاب ومجيء الساعة.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
... ويحتمل أن يكون قوله: {فأعرض عنهم} أي لا تكافئهم لأذاهم إياك، {وانتظر} مكافأتنا إياهم {إنهم منتظرون}.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
"فأعرض عنهم" يا محمد، فإنه لا ينفع فيهم الدعاء والوعظ.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
أعْرِض عنهم باشتغالك بنا، وإقبالك علينا، وانقطاعك إلينا. {وَانتَظِرْ} زوائدَ وَصْلِنا، وعوائدَ لطفنا.
{إِنَّهُم مُّنتَظِرُونَ} هواجِمَ مقتنا وخفايا مكرنا.. وعن قريب يجد كلُّ منتظرَه محتضراً.
{وانتظر إنهم منتظرون} يحتمل وجوها أحدها: وانتظر هلاكهم فإنهم ينتظرون هلاكك، وعلى هذا فرق بين الانتظارين، لأن انتظار النبي صلى الله عليه وسلم بأمر الله تعالى بعد وعده، وانتظارهم بتسويل أنفسهم والتعويل على الشيطان.
وثانيها: وانتظر النصر من الله فإنهم ينتظرون النصر من آلهتهم وفرق بين الانتظارين.
وثالثها: وانتظر عذابهم بنفسك فإنهم ينتظرونه بلفظهم استهزاء، كما قالوا: {فأتنا بما تعدنا} [الأعراف: 70] وقالوا {متى هذا الوعد إن كنتم صادقين} [النمل: 71] إلى غير ذلك.
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 671 هـ :
" فأعرض عنهم "معناه فأعرض عن سفههم ولا تجبهم إلا بما أمرت به.
التسهيل لعلوم التنزيل، لابن جزي 741 هـ :
البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :
أي منتظر هلاكهم، فإنهم أحقاء أن ينتظر هلاكهم، يعني: إنهم هالكون لا محالة، أو: وانتظر ذلك، فإن الملائكة في السماء ينتظرونه.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{وانتظر} أي ما نفعل بهم مما فيه إظهار أمرك وإعلاء دينك، ولما كان الحال مقتضياً لتردد السامع في حالهم هل هو الانتظار، أجيب على سبيل التأكيد بقوله: {إنهم منتظرون} أي ما يفعل بك وما يكون من عاقبة أمرك فيما تتوعدهم به وفي غيره.
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :
والأظهرُ أنْ يقالَ: إنَّهم منتظرون هلاكَهم كما في قوله تعالى: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ الله فِي ظُلَلٍ مّنَ الغمام} [سورة البقرة، الآية210] الآيةَ، ويقرُبُ منه ما قيلَ وانتظرْ عذابَنا إنَّهم مُنتظروه فإنَّ استعجالَهم المذكورَ وعكوفَهم على ما هُم عليه من الكُفر والمَعاصي في حُكم انتظارِهم العذابَ المترتِّبَ عليه لا محالةَ.
تيسير التفسير لاطفيش 1332 هـ :
{فأعرض عنهْم} لا تشتغل بجدالهم ولا تبال بتكذبيهم، وهذا مما يؤمر به ولو بعد الأمر بالقتال فلا حاجة إلى أنه منسوخ بآية القتال.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وفي طياته تهديد خفي بعاقبة الانتظار، بعد أن ينفض الرسول [صلى الله عليه وسلم] يده من أمرهم، ويدعهم لمصيرهم المحتوم.
وتختم السورة على هذا الإيقاع العميق، بعد تلك الجولات والإيحاءات والمشاهد والمؤثرات، وخطاب القلب البشري بشتى الإيقاعات التي تأخذه من كل جانب، وتأخذ عليه كل طريق..
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
انتظر أياماً يكون لك فيها النصر، ويكون لهم فيها الخسران مثل سني الجوع إنْ كان حصلت بعد نزول هذه السورة، ومثل يوم بدر ويوم فتح مكة وهما بعد نزول هذه السورة لا محالة، ففي الأمر بالانتظار تعريض بالبشارة للمؤمنين بالنظر، وتعريض بالوعيد للمشركين بالعذاب في الدارين.
التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :
وحرصا على كرامة الرسول الأعظم من سفه السفهاء وجدلهم الفارغ، دعاه الحق سبحانه وتعالى إلى الإعراض عنهم عندما يقوم بتبليغ الرسالة، ماداموا لا يبحثون عن الحق، وإنما يجادلون من أجل الباطل كما دعاه إلى ملازمة الصبر، في انتظار النصر...
فقد بلّغهم رسول الله وأنذرهم، لقد بشّرهم بالجنة لمن آمن، وحذرهم النار لمن كفر فلم يسمعوا. إذن: فما هو إلا الوحي أو حدّ مرهف فالعاقل الوحي يقنعه، والجاهل السيف يردعه.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
الآن، حيث لم تؤثّر في هؤلاء البشارة ولا الإنذار، ولا هم أهل منطق واستدلال ليعرفوا الله سبحانه بمشاهدة الآثار الإلهيّة في خفايا الخلقة فيعبدوه، وليس لهم وجدان حيّ يترنّم في أعماقهم بنغمة التوحيد فيسمعونها، فأعرض عنهم، وانتظر رحمة الله سبحانه، ولينتظروا عذابه فإنّهم لا يستحقّون سواه.