ثم يفصل الأمر في قدر النفقة . فهو اليسر والتعاون والعدل . لا يجور هو ، ولا تتعنت هي . فمن وسع الله عليه رزقه فلينفق عن سعة . سواء في السكن أو في نفقة المعيشة أو في أجر الرضاعة . ومن ضيق عليه في الرزق ، فليس عليه من حرج ، فالله لا يطالب أحدا أن ينفق إلا في حدود ما آتاه . فهو المعطي ، ولا يملك أحد أن يحصل على غير ما أعطاه الله . فليس هناك مصدر آخر للعطاء غير هذا المصدر ، وليست هناك خزانة غير هذه الخزانة : ( لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها ) . .
ثم لمسة الإرضاء ، وإفساح الرجاء ، للاثنين على السواء :
( سيجعل الله بعد عسر يسرا ) . .
فالأمر منوط بالله في الفرج بعد الضيق ، واليسر بعد العسر . فأولى لهما إذن أن يعقدا به الأمر كله ، وأن يتجها إليه بالأمر كله ، وأن يراقباه ويتقياه والأمر كله إليه . وهو المانح المانع . القابض الباسط . وبيده الضيق والفرج ، والعسر واليسر ، والشدة والرخاء .
وإلى هنا يكون قد تناول سائر أحكام الطلاق ومتخلفاته ، وتتبع كل أثر من آثاره حتى انتهى إلى حل واضح ؛ ولم يدع من البيت المتهدم أنقاضا ولا غبارا يملأ النفوس ويغشى القلوب ، ولم يترك بعده عقابيل غير مستريحة بعلاج ، ولا قلاقل تثير الاضطراب .
وكذلك يكون قد عالج جميع الوساوس والهواجس التي تثور في القلوب ، فتمنعها من السماحة والتيسير والتجمل للأمر . فأبعد أشباح الفقر والضيق وضياع الأموال من نفس الزوج إذا هو أسكن وأنفق ووسع على مطلقته أو مرضعة ولده . ومن نفس الزوجة التي تضيق بنفقة الإعسار ، أو تطمع في زيادة ما تصيب من مال زوجها السابق . فأكد اليسر بعد العسر لمن اتقى ، والضيق بعد الفرج ، والرزق من حيث لا يحتسب ، وفوق رزق الدنيا رزق الآخرة والأجر الكبير هناك بعد التكفير .
كما عالج ما تخلفه حالة الخلاف والشقاق التي أدت إلى الطلاق . من غيظ وحنق ومشادة وغبار في الشعور والضمير . . فمسح على هذا كله بيد الرفق والتجمل ، ونسم عليه من رحمة الله والرجاء فيه ؛ ومن ينابيع المودة والمعروف التي فجرها في القلوب بلمسات التقوى والأمل في الله وانتظار رضاه .
وهذا العلاج الشامل الكامل ، وهذه اللمسات المؤثرة العميقة ، وهذا التوكيد الوثيق المتكرر . . هذه كلها هي الضمانات الوحيدة في هذه المسألة لتنفيذ الشريعة المقررة . فليس هناك ضابط إلا حساسية الضمائر وتقوى القلوب . وإن كلا الزوجين ليملك مكايدة صاحبه حتى تنفقئ مرارته إذا كانت الحواجز هي فقط حواجز القانون ! ! وبعض الأوامر من المرونة بحيث تسع كل هذا . فالأمر بعدم المضارة : ولا تضاروهن يشمل النهي عن ألوان من العنت لا يحصرها نص قانوني مهما اتسع . والأمر فيه موكول إلى هذه المؤثرات الوجدانية ، وإلى استجاشة حاسة التقوى وخوف الله المطلع على السرائر ، المحيط بكل شيء علما . وإلى التعويض الذي يعده الله للمتقين في الدنيا والآخرة . وبخاصة في مسألة الرزق التي تكرر ذكرها في صور شتى ، لأنها عامل مهم في تيسير الموقف ، وتندية الجفاف الذي تنشئه حالة الطلاق . .
وإن الزوجين ليفارقان - في ظل تلك الأحكام والتوجيهات - وفي قلوبهما بذور للود لم تمت ، ونداوة قد تحيي هذه البذور فتنبت . . ذلك إلى الأدب الجميل الرفيع الذي يريد الإسلام أن يصبغ به حياة الجماعة المسلمة ، ويشيع فيها أرجه وشذاه .
إلا ما آتاها : إلا بقدر ما أعطاها من الأرزاق ، قلّ أو كثر .
7-{ لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آَتَاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ مَا آَتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا } .
لينفق الغني من ماله ، فإذا كان موسرا يسّر على المطلقة وعلى أولادها ، ووسّع عليهم مما أعطاه الله له ، فالجود من الموجود ، وأولى الناس بالمشاركة في المال والتوسعة في العطاء زوجته السابقة وأولاده منها ، أما إذا كان الزوج فقيرا ، فلينفق مما آتاه الله من الأرزاق ، قلَّت أو كثرت ، فلا يكلّف الفقير نفقة مثل نفقة الغنيّ .
{ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ مَا آَتَاهَا . . . }
أي : بقدر ما أعطاها من الطاقة والقوّة .
وقريب منه قوله تعالى : { لا يكلّف الله نفسا إلا وسعها . . . } ( البقرة : 286 ) .
أي : إلا في إمكانياتها وسعتها .
وقد فاوت الله بين الناس في العطاء ، وجعلهم درجات ، وطلب الله من كل إنسان أن ينفق على أسرته حسب حالته ، وحسب يساره أو إعساره ، فإذا كان الزوج فقيرا ثم وسّع الله عليه ، وجب أن يزيد في نفقة أسرته ، وإذا كان غنيا ثم افتقر ، خفّض ميزانية النفقة ، وعلى الأسرة أن تصبر وتتحمل وتتعاون ، وتتقبّل ما ينفقه الزوج حسب حالته ، فلا ينبغي لزوجة الفقير أن تتطلع إلى نفقة واسعة مثل زوجة الغني ، بل تصبر حتى يوسّع الله على زوجها فيوسع عليها .
{ سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا } .
سيجعل الله بعد الشدة فرجا ، وبعد الضيق سعة ، وفيه وعد من الله تعالى بمساعدة الفقراء إذا قنعوا ورضوا .
قال تعالى : { فإنّ مع العسر يسرا*إنّ مع العسر يسرا } . ( الشرح : 5-6 ) .
وما أجمل هذا التشريع الإلهي الذي يربط النفقة بحالة الزوج .
جاء في تفسير الآلوسي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إن المؤمن أخذ عن الله أدبا حسنا ، إذا هو سبحانه وسَّع عليه وسَّع ، وإذا هو عزّ وجل قَتَّر عليه قتّر " .
{ لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً ( 7 ) }
لينفق الزوج مما وسَّع الله عليه على زوجته المطلقة ، وعلى ولده إذا كان الزوج ذا سَعَة في الرزق ، ومن ضُيِّق عليه في الرزق وهو الفقير ، فلينفق مما أعطاه الله من الرزق ، لا يُكَلَّف الفقير مثل ما يُكَلَّف الغني ، سيجعل الله بعد ضيق وشدة سَعَة وغنى .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.