فهذه صفة الرسول الذي حمل القول وأداه ، فأما الرسول الذي حمله إليكم فهو( صاحبكم ) . . عرفتموه حق المعرفة عمرا طويلا . فما لكم حين جاءكم بالحق تقولون فيه ما تقولون . وتذهبون في أمره المذاهب ، وهو( صاحبكم )الذي لا تجهلون . وهو الأمين على الغيب الذي يحدثكم عنه عن يقين :
( وما صاحبكم بمجنون . ولقد رآه بالأفق المبين . وما هو على الغيب بضنين . وما هو بقول شيطان رجيم . فأين تذهبون ? إن هو إلا ذكر للعالمين ) . .
ولقد قالوا عن النبي الكريم الذي يعرفونه حق المعرفة ، ويعرفون رجاحة عقله ، وصدقه وأمانته وتثبته ، قالوا عنه : إنه مجنون .
وإن شيطانا يتنزل عليه بما يقول . قال بعضهم هذا كيدا له ولدعوته كما وردت بذلك الأخبار . وقاله بعضهم عجبا ودهشة من هذا القول الذي لا يقوله البشر فيما يألفون ويعهدون . وتمشيا مع ظنهم أن لكل شاعر شيطانا يأتيه بالقول الفريد . وأن لكل كاهن شيطانا يأتيه بالغيب البعيد . وأن الشيطان يمس بعض الناس فينطق على لسانهم بالقول الغريب ! وتركوا التعليل الوحيد الصادق ، وهو أنه وحي وتنزيل من رب العالمين .
فجاء القرآن يحدثهم في هذا المقطع من السورة عن جمال الكون البديع ، وحيوية مشاهده الجميلة . ليوحي إلى قلوبهم بأن القرآن صادر عن تلك القدرة المبدعة ، التي أنشأت ذلك الجمال . على غير مثال . وليحدثهم بصفة الرسول الذي حمله ، والرسول الذي بلغه . وهو صاحبهم الذي عرفوه . غير مجنون . والذي رأى الرسول الكريم - جبريل - حق الرؤية ، بالأفق المبين الواضح الذي تتم فيه الرؤية عن يقين . وأنه [ صلى الله عليه وسلم ] لمؤتمن على الغيب ، لا تظن به الظنون في خبره الذي يرويه عنه ، فما عرفوا عنه إلا الصدق واليقين . ( وما هو بقول شيطان رجيم )فالشياطين لا توحي بهذا النهج القويم .
بضنين : لا يبخل بالوحي ، ولا يقصر في التبليغ .
ليس محمد صلى الله عليه وسلم بمتهم حين يخبر أنه يرى جبريل على صورته الحقيقية ، وأنه يتلقى عند الوحي ، وأنتم عرفتموه شابا وناشئا صادقا أمينا ، ومحمد صلى الله عليه وسلم كان لا يضنّ بالوحي ، ولا يحتفظ به لنفسه ، بل يبلّغه فور وصوله إليه .
قال تعالى : يا أيها الرسول بلّغ الذي أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلّغت رسالته ، والله يعصمك من الناس إن الله لا يهدي القوم الكافرين . ( المائدة : 67 ) .
{ وما هو } يعني محمداً صلى الله عليه وسلم ، { على الغيب } أي الوحي ، وخبر السماء وما اطلع عليه مما كان غائباً عنه من الأنباء والقصص ، { بضنين } قرأ أهل مكة والبصرة والكسائي بالظاء أي بمتهم ، يقال : فلان يظن بمال ويزن أي يتهم به : والظنة : التهمة ، وقرأ الآخرون بالضاد أي ببخيل ، يقول إنه يأتيه علم الغيب فلا يبخل به عليكم بل يعلمكم ويخبركم به ، ولا يكتمه كما يكتم الكاهن ما عنده حتى يأخذ عليه حلواناً ، تقول العرب : ضننت بالشيء بكسر النون أضن به ضناً وضنانةً فأنا به ضنين أي بخيل .
" وما هو على الغيب بظنين " : بالظاء ، قراءة ابن كثير وأبي عمرو والكسائي ، أي بمتهم ، والظنة التهمة . قال الشاعر :
أما وكتابُ الله لا عَنْ شَنَاءَةٍ *** هُجِرْتُ ولكن الظنينَ ظنينُ
واختاره أبو عبيد ؛ لأنهم لم يبخلوه ولكن كذبوه ؛ ولأن الأكثر من كلام العرب : ما هو بكذا ، ولا يقولون : ما هو على كذا ، إنما يقولون : ما أنت على هذا بمتهم . وقرأ الباقون " بضنين " بالضاد : أي ببخيل من ضننت بالشيء أضن ضنا [ فهو ] ضنين . فروى ابن أبي نجيح عن مجاهد قال : لا يضن عليكم بما يعلم ، بل يعلم الخلق كلام الله وأحكامه . وقال الشاعر :
أجود بمكنُونِ الحديثِ وإنني *** بسرِّكِ عمن سالنِي لضَنِينُ
والغيب : القرآن وخبر السماء . ثم هذا صفة محمد عليه السلام . وقيل : صفة جبريل عليه السلام . وقيل : بظنين : بضعيف . حكاه الفراء والمبرد . يقال : رجل ظنين : أي ضعيف . وبئر ظنون : إذا كانت قليلة الماء . قال الأعشى :
ما جُعِلَ الجُدُّ{[15834]} الظَّنونُ الذي *** جُنِّبَ صَوْبَ اللجِبِ الماطِرِ
مثلَ الفُراتيِّ إذا ما طَمَا *** يقذِفُ بالبُوصِيِّ والمَاهِرِ
والظنون : الدين الذي لا يدري أيقضيه آخذه أم لا ؟ ومنه حديث علي عليه السلام في الرجل يكون له الدين الظنون ، قال : يزكيه لما مضى إذا قبضه إن كان صادقا . والظنون : الرجل السيء الخلق ، فهو لفظ مشترك .
ولما انتفى ما يظن من لبس السمع وزيغ البصر ، لم يبق إلا ما يتعلق بالتأدية فنفى ما يتوهم من ذلك بقوله-{[71966]} : { وما } أي{[71967]} سمعه ورآه والحال أنه ما { هو على الغيب } أي الأمر الغائب عنكم في النقل عنه ولا في غيره من باب الأولى { بضنين * } أي بمتهم ، من الظنة وهي التهمة ، كما يتهم الكاهن لأنه يخطىء في بعض ما يقول ، فهو حقيق بأن يوثق بكل شيء يقوله في كل أحواله ، هذا في قراءة ابن كثير وأبي عمرو والكسائي ورويس عن يعقوب بالظاء ، والمعنى في قراءة الباقين بالضاد-{[71968]} : ببخيل كما يبخل الكاهن رغبة في الحلوان ، بل هو حريص على أن يكون كل من أمته عالماً بكل ما أمره الله تعالى{[71969]} بتبليغه .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.