ثم يأخذ في استكمال المشهد بعد عرض الهول المادي في صورة جهنم ، بعرض الهول النفسي الذي يفرض الصمت والكظم . .
( هذا يوم لا ينطقون . ولا يؤذن لهم فيعتذرون ) . .
فالهول هنا يكمن في الصمت الرهيب ، والكبت الرعيب ، والخشوع المهيب ، الذي لا يتخلله كلام ولا اعتذار . فقد انقضى وقت الجدل ومضى وقت الاعتذار : ( ويل يومئذ للمكذبين ) ! . . وفي مشاهد أخرى يذكر حسرتهم وندامتهم وحلفهم ومعاذيرهم . . واليوم طويل يكون فيه هذا ويكون فيه ذاك - على ما قال ابن عباس رضي الله عنهما - ولكنه هنا يثبت هذه اللقطة الصامتة الرهيبة ، لمناسبة في الموقف وظل في السياق .
35 ، 36- هذا يوم لا ينطقون* ولا يؤذن لهم فيعتذرون .
في يوم القيامة ساعات متعددة ، في ساعات يسمح لهم بالكلام ، أو الاعتذار عما فعلوه في الدنيا ، وفي ساعات يعم الصمت الرهيب ولا يسمح لهم بالكلام ، أو هم من تلقاء أنفسهم قد اشتدت رهبتهم ، وأهوالهم من شدة ما رأوا ، فلاذوا بالصمت .
قال تعالى : ووقع القول عليهم بما ظلموا فهم لا ينطقون . ( النمل : 85 ) .
وعرصات القيامة حالات ، والرب تعالى يخبر عن هذه الحالة تارة ، وعن هذه الحالة تارة ، ليدلّ على شدة الأهوال والزلازل يومئذ .
أي : بحجة ، أو في وقت من أوقاته ، لأنه يوم طويل ، ذو مواقف ، ومواقيت ، أو جعل نطقهم كلا نطق ، لأنه لا ينفع لا يسمع . اه .
وقال الحسن : لا ينطقون بحجة وإن كانوا ينطقون ، والعرب تقول : أنت لم تقل شيئا ، لمن تكلم بكلام غير مفيد .
فلا ينافي ذلك قوله تعالى على لسان المشركين : والله ربنا كنا مشركين . ( الأنعام : 23 ) .
وقوله تعالى : ولا يكتمون الله حديثا . ( النساء : 42 ) .
وقوله سبحانه : ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون . ( الزمر : 31 ) .
لا يسمح لهم بإبداء العذر عما ارتكبوه في الدنيا ، لأنها أعذار مرفوضة ، أو هي كاذبة ، أو أعذار غير موضوعية ، بعد أن قامت الحجة عليهم وثبتت عليهم التهمة .
قال تعالى : لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم . . . ( التوبة : 66 ) .
وقال سبحانه : يا أيها الذين كفروا لا تعتذروا اليوم إنما تجزون ما كنتم تعملون . ( التحريم : 7 ) .
والمراد أنهم ليس لهم عذر ولا حجة فيما ارتكبوا من المفاسد والمنكرات ، وأنه لا قدرة لهم على دفع العذاب عن أنفسهم .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
ليس أنه لا يقبل العذر منهم إذا أتوا به، ولكن معناه: أنه لا عذر لهم ليقبل منهم، وهو كقوله تعالى: {فما تنفعهم شفاعة الشافعين} [المدثر: 48] معناه: أنه لا شفيع لهم، لا أنهم إذا أتوا بشفعاء لم يشفع لهم، وإذا لم يكن عذر لهم فهم لا يعتذرون بعذر.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
(ولا يؤذن لهم) فالإذن: الإطلاق في الفعل، تقول: يسمع بالإذن، فهذا أصله، وقد كثر استعماله حتى صار كل دليل ظهر به أن للقادر أن يفعل كذا فهو أذن له، وكل ما اطلق الله فيه بأي دليل كان، فقد أذن فيه.
(فيعتذرون) فالاعتذار: الانتفاء من خلاف المراد بالمانع من المراد، وليس لأحد عذر في معصية الله؛ لأنه تعالى لا يكلف نفسا ما لا يطاق، وقد يكون له عذر في معصية غيره؛ لأنه قد يكلف خلاف الصواب وقد يكلف ما لا يمكن لعارض من الاسباب.
(فيعتذرون)...قال الفراء: تقديره لا ينطقون ولا يعتذرون.
معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي 516 هـ :
قال الجنيد: أي لا عذر لمن أعرض عن منعمه وكفر بأياديه ونعمه.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
لا يكون لهم إذن واعتذار متعقب له، من غير أن يجعل الاعتذار مسبباً عن الإذن ولو نصب لكان مسبباً عنه لا محالة.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما كانوا لا يقدرون على شيء ما إلا بإذن الله، وكان الموجع لهم عدم الإذن، بني للمفعول قوله دلالة- على عدم ناصر لهم أو فرج يأتيهم: {ولا يؤذن} أي من آذن ما {لهم} أي في كلام أصلاً.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
عطف {ولا يؤذن لهم فيعتذرون} على جملة {لا ينطقون}، أي لا يؤذن إذناً يتفرع عليه اعتذارهم أي لا يؤذن لهم في الاعتذار. فالاعتذار هو المقصود بالنفي، وجعل نفي الإِذن لهم توطئة لنفي اعتذارهم، ولذلك جاء {فيعتذرون} مرفوعاً ولم يجيء منصوباً على جواب النفي إذ ليس المقصود نفي الإِذن وترتّب نفي اعتذارهم على نفي الإِذن لهم إذ لا محصول لذلك، فلذلك لم يكن نصب {فيعتذرون} مساوياً للرفع بل ولا جائزاً بخلاف نحو {لا يُقضى عليهم فيموتوا} [فاطر: 36] فإن نفي القضاء عليهم وهم في العذاب مقصود لذاته لأنه استمرار في عذابهم ثم أجيب بأنه لو قُضي عليهم لماتوا، أي فقَدوا الإِحساس، فمعنى الجوابية هنالك مما يقصد. ولذا فلا حاجة هنا إلى ما ادعاه أبو البقاء أن {فيعتذرون} استئناف تقديره: فهم يعتذرون...
واعلم أنه لا تعارض بين هذه الآية وبين الآيات التي جاء فيها ما يقضي أنهم يعتذرون نحو قوله تعالى: {قالوا ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين فاعترفنا بذنوبنا فهل إلى خروج من سبيل} [غافر: 11] لأن وقت انتفاء نطقهم يوم الفصل.
وأما نطقهم المحكي في قوله: {ربنا أمتنا اثنتين فذلك صراخهم في جهنم بعد انقضاء يوم الفصل، وبنحو هذا أجاب ابن عباس نافع بنَ الأزرق حين قال نافع: إنِّي أجد في القرآن أشياء تختلف عليَّ قال الله: {ولا يتساءلون} [المؤمنون: 101]، وقال: {وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون} [الصافات: 27] فقال ابن عباس: لا يتساءلون في النفخة الأولى حين نُفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الأرض فلا يتساءلون حينئذٍ، ثم في النفخة الثانية أقبل بعضهم على بعض يتساءلون. والذي يجمع الجواب عنْ تلك الآيات وعن أمثالها هو أنه يجب التنبه إلى مسألة الوحدات في تحقق التناقض.
" ولا يؤذن لهم فيعتذرون " أي إن يوم القيامة له مواطن ومواقيت ، فهذا من المواقيت التي لا يتكلمون فيها ، ولا يؤذن لهم في الاعتذار والتنصل . وعن عكرمة عن ابن عباس قال : سأل ابن الأزرق عن قوله تعالى : " هذا يوم لا ينطقون " و " فلا تسمع إلا همسا " [ طه : 108 ] وقد قال تعالى : " وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون " [ الصافات : 27 ] فقال له : إن الله عز وجل يقول : " وإن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون " [ الحج : 47 ] فإن لكل مقدار من هذه الأيام لونا من هذه الألوان . وقيل : لا ينطقون بحجة نافعة ، ومن نطق بما لا ينفع ولا يفيد فكأنه ما نطق . قال الحسن : لا ينطقون بحجة وإن كانوا ينطقون . وقيل : إن هذا وقت جوابهم " اخسؤوا فيها ولا تكلمون " [ المؤمنون : 108 ] وقد تقدم{[15729]} . وقال أبو عثمان : أسكتتهم رؤية الهيبة وحياء الذنوب . وقال الجنيد : أي عذر لمن أعرض عن منعمه وجحده وكفر أياديه ونعمه ؟ و " يوم " بالرفع قراءة العامة على الابتداء والخبر ، أي تقول الملائكة : " هذا يوم لا ينطقون " ويجوز أن يكون قوله : " انطلقوا " [ المرسلات : 29 ] من قول الملائكة ، ثم يقول الله لأوليائه : هذا يوم لا ينطق الكفار . ومعنى اليوم الساعة والوقت . وروى يحيى بن سلطان . عن أبي بكر عن عاصم " هذا يوم لا ينطقون " بالنصب ، ورويت عن ابن هرمز وغيره ، فجاز أن يكون مبنيا لإضافته إلى الفعل وموضعه رفع . وهذا مذهب الكوفيين . وجاز أن يكون في موضع نصب على أن تكون الإشارة إلى غير اليوم . وهذا مذهب البصريين ؛ لأنه إنما بني عندهم إذا أضيف إلى مبني ، والفعل ها هنا معرب . وقال الفراء في قوله تعالى : " ولا يؤذن لهم فيعتذرون " الفاء نسق أي عطف على " يؤذن " وأجيز ذلك ؛ لأن أواخر الكلام بالنون . ولو قال : فيعتذروا لم يوافق الآيات . وقد قال : " لا يقضى عليهم فيموتوا " [ فاطر : 36 ] بالنصب وكله صواب ، ومثله : " من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه " [ البقرة : 245 ] بالنصب والرفع .