اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَلَا يُؤۡذَنُ لَهُمۡ فَيَعۡتَذِرُونَ} (36)

قوله : { وَلاَ يُؤْذَنُ } العامة : على عدم تسمية الفاعل . وحكى الأهوازي عن زيد بن{[59071]} علي : «ولا يَأذَنُ » سمى الفاعل ، وهو الله تعالى .

وقوله : فيعتذرون « . في رفعه وجهان :

أحدهما : أنه مستأنف ، أي فهم يعتذرون .

قال أبو البقاء : ويكون المعنى : أنهم لا ينطقون نطقاً ينفعهم ، أو ينطقون نطقاً في بعض المواقف ولا ينطقون في بعضها .

والثاني : أنه معطوف على » يؤذن «فيكون منفياً ، ولو نصب لكان متسبباً عنه .

وقال ابن عطيَّة : «ولم ينصب في جواب النَّفْي لتشابه{[59072]} رءوس الآي ، والوجهان جائزان » .

فظهر من كلامه أنهما بمعنى واحد ، وليس كذلك بل المرفوع له معنى غير معنى المنصوب ، وإلى هذا ذهب الأعلم إلى أن الفعل قد يرتفع ويكون معناه النصب ، ورد عليه ابن عصفور .

قال الفرَّاء في قوله : » وَلاَ يُؤْذَنُ لهُمْ فيَعْتَذِرُون :َ «الفاء نسق ، أي عطف على «يؤذن » ، وأجيز ذلك ، لأن آخر الكلام بالنون ، ولو قال : فيعتذروا ، لم يوافق الآيات ، وقد قال : { لاَ يقضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُواْ } [ فاطر : 36 ] ، بالنصب ، وكل صواب ، ومثله : { مَّن ذَا الذي يُقْرِضُ الله قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ } [ البقرة : 245 ] ، بالرفع والنصب .

فصل في تخويف الكفار

هذا نوع آخر من أنواع تخويف الكفار ، لأن الله - تعالى - بين أنه ليس لهم عذر ولا حجة فيما أتوا به من القبائح ، ولا لهم قدرة على رفع العذاب عن أنفسهم ، واعلم أن يوم القيامة له مواطن ومواقيت ، فهذا من المواقيت التي لا يتكلمون فيها ولا يعتذرون .

روى عكرمة : أن ابن عباس - رضي الله عنهما - سأله ابن الأزرق عن قوله تعالى : { هذا يَوْمُ لاَ يَنطِقُونَ } و { فَلاَ تَسْمَعُ إِلاَّ هَمْساً } [ طه : 108 ] ، وقد قال تعالى : { وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ يَتَسَآءَلُونَ } [ الطور : 25 ] . فقال له : إن الله - تعالى - يقول : { وَإِنَّ يَوْماً عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ } [ الحج : 47 ] فإن لكل مقدار من هذه الأيام لوناً من هذه الألوان{[59073]} .

وقال الحسن : فيه إضمار ، أي هذا يوم لا ينطقون فيه بحجة نافعة ، ومن نطق بما لا ينفع ولا يفيد ، فكأنه ما نطق ، كما يقال لمن ذكر كلاماً غير مفيد : ما قلت شيئاً{[59074]} ، وقيل : إن هذا وقت جوابهم : { اخسئوا فِيهَا وَلاَ تُكَلِّمُونِ } [ المؤمنون : 108 ] .

قال الفراء : أراد بقوله : «لا ينطقون » تلك الساعة ، وذلك القدر من الوقت الذي لا ينطقون فيه ، كما تقول : آتيك يوم يقدم فلان ، والمعنى : ساعة يقدم ، وليس باليوم كله ؛ لأن القدوم إنما يكون في وقت يسير ولا يمتد في كل اليوم .

وأجاب ابن الخطيب{[59075]} : بأن قوله تعالى { لاَ يَنطِقُونَ } لفظ مطلق ، والمطلق لا يفيد العموم لا في الأنواع ، ولا في الأوقات ، بدليل أنك تقول : فلان لا ينطق بالشر ولكنه ينطق بالخير ، وتارة تقول : فلان لا ينطق شيئاً ألبتة ، فهذا يدل على أن مفهوم «لا ينطق » مشترك بين الدائم والمؤقت ، وإذا كان كذلك فمفهوم «لا ينطق » يكفي في صدقه عدم النطق ببعض الأشياء ، وفي بعض الأوقات ، وذلك لا ينافي حصول النطق بشيء آخر في وقت آخر ، فيكتفى في صدق قوله : «لا يَنطقُونَ » أنهم لا ينطقون بعذر وعلة في وقت واحد ، وهو وقت السؤال .

فإن قيل : لو حلف لا ينطق في هذا اليوم حنث في قطعه في جزء منه . قلنا : ذلك لعرف الإيمان وبحثنا في عرف اللفظ من حيث هو .

قال ابن الخطيب{[59076]} : فإن قيل : قوله : { ولا يُؤذنُ لهُم فيَعتَذِرُونَ } يوهم أن لهم عذراً ، وقد منعوا من ذكره ، فهم لا يؤذن لهم في ذكر ذلك العذر الفاسد .


[59071]:ينظر: البحر المحيط 8/399، والدر المصون 6/460.
[59072]:في ب: لمناسبة.
[59073]:ذكره القرطبي في "تفسيره" (19/108) عن الحسن.
[59074]:ينظر التخريج السابق.
[59075]:ينظر الفخر الرازي 30/246.
[59076]:ينظر الفخر الرازي 3/247.