التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور  
{وَلَا يُؤۡذَنُ لَهُمۡ فَيَعۡتَذِرُونَ} (36)

وعطف { ولا يؤذن لهم فيعتذرون } على جملة { لا ينطقون } ، أي لا يؤذن إذناً يتفرع عليه اعتذارهم ، أي لا يؤذن لهم في الاعتذار . فالاعتذار هو المقصود بالنفي ، وجعل نفي الإِذن لهم توطئة لنفي اعتذارهم ، ولذلك جاء { فيعتذرون } مرفوعاً ولم يجىء منصوباً على جواب النفي إذ ليس المقصود نفي الإِذن وترتّب نفي اعتذارهم على نفي الإِذن لهم إذ لا محصول لذلك ، فلذلك لم يكن نصب { فيعتذرون } مساوياً للرفع بل ولا جائزاً بخلاف نحو { لا يُقضى عليهم فيموتوا } [ فاطر : 36 ] فإن نفي القضاء عليهم وهم في العذاب مقصود لذاته لأنه استمرار في عذابهم ثم أجيب بأنه لو قُضي عليهم لماتوا ، أي فقَدوا الإِحساس ، فمعنى الجوابية هنالك مما يقصد . ولذا فلا حاجة هنا إلى ما ادعاه أبو البقاء أن { فيعتذرون } استئناف تقديره : فهم يعتذرون ، ولا إلى ما قاله ابن عطية تبعاً للطبري : إنه ينصب لأجل تشابه رؤوس الآيات ، وبعد فإن مناط النصب في جواب النفي قصدُ المتكلم جعْلَ الفعل جواباً للنفي لا مجرد وجود فعل مضارع بعد فعل منفي .

واعلم أنه لا تعارض بين هذه الآية وبين الآيات التي جاء فيها ما يقضي أنهم يعتذرون نحو قوله تعالى : { قالوا ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين فاعترفنا بذنوبنا فهل إلى خروج من سبيل } [ غافر : 11 ] لأن وقت انتفاء نطقهم يوم الفصل .

وأما نطقهم المحكي في قوله : { ربنا أمتنا اثنتين فذلك صراخهم في جهنم بعد انقضاء يوم الفصل ، وبنحو هذا أجاب ابن عباس نافع بنَ الأزرق حين قال نافع : إنِّي أجد في القرآن أشياء تختلف عليَّ قال الله : { ولا يتساءلون } [ المؤمنون : 101 ] ، وقال : { وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون } [ الصافات : 27 ] فقال ابن عباس : لا يتساءلون في النفخة الأولى حين نُفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الأرض فلا يتساءلون حينئذٍ ، ثم في النفخة الثانية أقبل بعضهم على بعض يتساءلون . والذي يجمع الجواب عنْ تلك الآيات وعن أمثالها هو أنه يجب التنبه إلى مسألة الوحدات في تحقق التناقض .