ذلك هو اليوم الذي لا يحتاطون له ، ولا يحترسون منه ، مع شدة حرص الإنسان على الخير ، وجزعه من الضر . . وهنا يصور لهم نفوسهم عارية من كل رداء ، مكشوفة من كل ستار ، عاطلة من كل تمويه :
( لا يسأم الإنسان من دعاء الخير ، وإن مسه الشر فيؤوس قنوط . ولئن أذقناه رحمة منا من بعد ضراء مسته ، ليقولن : هذا لي ، وما أظن الساعة قائمة ، ولئن رجعت إلى ربي إن لي عنده للحسنى . فلننبئن الذين كفروا بما عملوا ، ولنذيقنهم من عذاب غليظ . وإذا أنعمنا على الإنسان أعرض ونأى بجانبه ، وإذا مسه الشر فذو دعاء عريض ) . .
إنه رسم دقيق صادق للنفس البشرية ، التي لا تهتدي بهدى الله ، فتستقيم على طريق . . رسم يصور تقلبها ، وضعفها ، ومراءها ، وحبها للخير ، وجحودها للنعمة ، واغترارها بالسراء ، وجزعها من الضراء . . رسم دقيق عجيب . .
هذا الإنسان لا يسأم من دعاء الخير . فهو ملح فيه ، مكرر له ، يطلب الخير لنفسه ولا يمل طلبه . وإن مسه الشر . مجرد مس . فقد الأمل والرجاء وظن أن لا مخرج له ولا فرج ، وتقطعت به الأسباب وضاق صدره وكبر همه ؛ ويئس من رحمة الله وقنط من رعايته . ذلك أن ثقته بربه قليلة ، ورباطه به ضعيف !
الخير : النعيم ، كالمال والصحة والولد .
الشر : كل ضيق ، كالفقر والمرض وعدم الإنجاب .
اليأس : فقد الرجاء في الظفر بالشيء .
القنوط : يأس مفرط يظهر أثره على المرء ، فينكسر ويتضاءل .
49- { لا يسئم الإنسان من دعاء الخير وإن مسه الشر فيئوس قنوط } .
الكافر يرى أن الدنيا كل همه ، فهو حريص جدا على الخير ، بمعنى المال والجاه والسلطة ، وكل ما يتصل بذلك من ألوان النعيم التي يحرص عليها ، ولا يمل من طلبها ، وإذا أظلمت الدنيا وقل المال أو الجاه ، أو أصابه المرض أو الشر أو العسر ؛ أصابه اليأس والقنوط والانكسار ، وظهر ذلك في وجهه لأنه لا يعرف معنى اليقين والأمل في الله ، والصبر على البلاء ، والرضا بأحكام القضاء .
نزلت هذه الآية في الوليد بن المغيرة ، وقيل : في عتبة بن ربيعة ، وعموما فالعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب .
{ لا يسئم الإنسان من دعاء الخير وإن مسه الشر فيئوس قنوط } .
{ وإذا أنعمنا على الإنسان أعرض ونأى بجانبه وإذا مسه الشر فذو دعاء عريض } .
ولا منافاة بين قوله تعالى : { فيئوس قنوط } .
وبين قوله تعالى : { فذو دعاء عريض } .
مع أن كلا القولين عند مس الشر ، لأن الأول في قوم ، والثاني في قوم آخرين ، أو يئوس قنوط بالقلب ، وذو دعاء عريض باللسان ، إن حالة الكافر أو العاصي تتلخص في حب المال ، واليأس والقنوط من ذهاب النعمة ، ولذلك فهو يتشبث بالدعاء العريض الكثير لترد عليه النعمة ، أما المؤمن فعنده يقين بالله ، إذا جاءت النعمة شكر الله وأنفق النعمة في وجوه الخير ، وإذا جاءت الشدة صبر واحتسب ثوابه عند الله .
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( عجبا لأمر المؤمن إن أمره كله خير ، إن أصابته نعماء شكر فكان خيرا له ، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له )1 .
من دعاء الخير : من طلب المال ، ويطلق الخير على المال والصحة والجاه والسلطة وغيرها .
والقنوط : بضم القاف ، ظهور أثر اليأس على الإنسان من المذلة والانكسار .
ثم بين الله تعالى أن الإنسان متبدّل الأحوال ، لا يملّ من طل بالمال والمنفعة ، فان أحسّ بخيرٍ وقدرة وأقبلت عليه الدنيا ، تكبّر وصعَّر خدّه ، وإن أصابته محنة وبلاء تطامنَ ويئس من الفرج .
قوله تعالى : " لا يسأم الإنسان من دعاء الخير " أي لا يمل من دعائه بالخير . والخير هنا المال والصحة والسلطان والعز . قال السدي : والإنسان ها هنا يراد به الكافر . وقيل : الوليد بن المغيرة . وقيل : عتبة وشيبة ابنا ربيعة وأمية بن خلف . وفي قراءة عبد الله " لا يسأم الإنسان من دعاء المال " . " وإن مسه الشر " الفقر والمرض " فيؤوس قنوط " " فيؤوس " من روح الله " قنوط " من رحمته . وقيل : " يؤوس " من إجابة الدعاء " قنوط " بسوء الظن بربه . وقيل : " يؤوس " أي يئس من زوال ما به من المكروه " قنوط " أي يظن أنه يدوم ، والمعنى متقارب .
ولما دل أتباعهم للظن حتى في ذلك اليوم الذي تنكشف فيه الأمور ، وتظهر عظائم المقدور ، وإلقاؤهم بأيديهم فيه على أنهم في غاية العراقة في الجهل والرسوخ في العجز ، أتبع ذلك الدليل على أن ذلك طبع هذا النوع فلا يزال متبدل الأحوال متغير المناهج ، إن أحسن بخير انتفخ عظمه وتطاول كبراً ، وإن مس ببلاء تضاءل ذلاً وامتلأ ضعفاً وعجزاً ، وذلك ضد مقصود السورة الذي هو العلم ، بياناً لأن حال هذا النوع بعيد من العلم ، عريق الصفات في الجهل والشر إلا من عصمه الله فقال تعالى : { لا يسئم } أي يمل ويضجر { الإنسان } أي من الأنس بنفسه الناظر في أعطافه ، الذي لم يتأهل للمعارف الإلهية والطرق الشرعية { من دعاء الخير } أي من طلبه طلباً عظيماً ، وذلك دال مع شرهه على جهله ، فإنه لو كان عالماً بأن الخير يأتيه أو لا يأتيه لخفف عن نفسه من جهده في الدعاء
{ ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء }[ الأعراف : 188 ] { وإن مسه الشر } أي هذا النوع قليله وكثيره بغتة من جهة لا يتوقعها { فيؤوس } أي عريق في اليأس ، وهو انقطاع الرجاء والأمل والحزن العظيم والقطع بلزوم تلك الحالة بحيث صار قدوة في ذلك { قنوط * } أي مقيم في دار انقطاع الأمل والخواطر الرديئة ، فهو تأكيد للمعنى على أحسن وجه وأتمه ، وهذا هو ما طبع عليه الجنس ، فمن أراد الله به منهم خيراً عصمه ، ومن أراد به شراً أجراه مع الطبع فكان كافراً ، لأنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون ، قال أبو حيان : واليأس من صفة القلب ، وهو أن ينقطع رجاؤء من الخير ، والقنوط أن يظهر عليه آثار اليأس فيتضاءل وينكسر ، وبدأ بصفة القلب لأنها هي المؤثرة فيما يظهر على الصورة من الانكسار .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.