في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَمِنۡ ءَايَٰتِهِۦٓ أَنَّكَ تَرَى ٱلۡأَرۡضَ خَٰشِعَةٗ فَإِذَآ أَنزَلۡنَا عَلَيۡهَا ٱلۡمَآءَ ٱهۡتَزَّتۡ وَرَبَتۡۚ إِنَّ ٱلَّذِيٓ أَحۡيَاهَا لَمُحۡيِ ٱلۡمَوۡتَىٰٓۚ إِنَّهُۥ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٌ} (39)

37

ومن آياته أنك ترى الأرض خاشعة ، فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت . إن الذي أحياها لمحيي الموتي ، إنه على كل شيء قدير . .

ونقف لحظة أمام دقة التعبير القرآني في كل موضع . فخشوع الأرض هنا هو سكونها قبل نزول الماء عليها . فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت . وكأنما هي حركة شكر وصلاة على أسباب الحياة . ذلك أن السياق الذي وردت فيه هذه الآية سياق خشوع وعبادة وتسبيح ، فجيء بالأرض في هذا المشهد ، شخصاً من شخوص المشهد ، تشارك فيه بالشعور المناسب وبالحركة المناسبة . .

ونستعير هنا صفحة من كتاب " التصوير الفني في القرآن " عن التناسق الفني في مثل هذا التعبير :

" عبر القرآن عن الأرض قبل نزول المطر . وقبل تفتحها بالنبات ، مرة بأنها( هامدة ) ، ومرة بأنها( خاشعة ) . وقد يفهم البعض أن هذا مجرد تنويع في التعبير . فلننظر كيف وردت هاتان الصورتان :

" لقد وردتا في سياقين مختلفين على هذا النحو :

" وردت( هامدة )في هذا السياق : ( يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث ، فإنا خلقناكم من تراب ، ثم من نطفة ، ثم من علقة ، ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة . لنبين لكم ونقر في الأرحام ما نشاء إلى أجل مسمى ؛ ثم نخرجكم طفلاً ، ثم لتبلغوا أشدكم ؛ ومنكم من يتوفى ، ومنكم من يرد إلى أرذل العمر ، لكيلا يعلم من بعد علم شيئاً . وترى الأرض هامدة ، فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت ، وأنبتت من كل زوج بهيج ) . .

ووردت( خاشعة )في هذا السياق : ( ومن آياته الليل والنهار والشمس والقمر . لا تسجدوا للشمس ولا للقمر ، واسجدوا لله الذي خلقهن ، إن كنتم إياه تعبدون . فإن استكبروا فالذين عند ربك يسبحون له بالليل والنهار ، وهم لا يسأمون . ومن آياته أنك ترى الأرض خاشعة ، فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت ) .

" وعند التأمل السريع في هذين السياقين ، يتبين وجه التناسق في( هامدة )و( خاشعة ) . إن الجو في السياق الأول جو بعث وإحياء وإخراج ؛ فمما يتسق معه تصوير الأرض( هامدة )ثم تهتز وتربو وتنبت من كل زوج بهيج . وإن الجو في السياق الثاني هو جو عبادة وخشوع وسجود ، يتسق معه تصوير الأرض( خاشعة )فإذا نزل عليها الماء اهتزت وربت .

؛ ثم لا يزيد على الاهتزاز والإرباء هنا ، الإنبات والإخراج ، كما زاد هناك ، لأنه لا محل لها في جو العبادة والسجود . ولم تجىء ( اهتزت وربت )هنا للغرض الذي جاءتا من أجله هناك . إنهما تخيلان حركة للأرض بعد خشوعها . وهذه الحركة هي المقصودة هنا ، لأن كل ما في المشهد يتحرك حركة العبادة ، فلم يكن من المناسب أن تبقى الأرض وحدها خاشعة ساكنة ، فاهتزت لتشارك العابدين المتحركين في المشهد حركتهم ، ولكي لا يبقى جزء من أجزاء المشهد ساكناً ، وكل الأجزاء تتحرك من حوله . وهذا لون من الدقة في تناسق الحركة المتخيلة يسمو على كل تقدير ؛ الخ . الخ .

ونعود إلى النص القرآني فنجد أن التعقيب في نهاية الآية يشير إلى إحياء الموتى ، ويتخذ من إحياء الأرض نموذجاً ودليلاً :

( إن الذي أحياها لمحيي الموتى ، إنه على كل شيء قدير ) . .

ويتكرر في القرآن عرض مثل هذا المشهد واتخاذه نموذجاً للإحياء في الآخرة ، ودليلاً كذلك على القدرة . ومشهد الحياة في الأرض قريب من كل قلب ، لأنه يلمس القلوب قبل أن يلمس العقول ، والحياة حين تنبض من بين الموات ، توحي بالقدرة المنشئة إيحاء خفياً ينبض في أعماق الشعور . والقرآن يخاطب الفطرة بلغتها من أقرب طريق .

 
تفسير القرآن الكريم لعبد الله شحاته - شحاته [إخفاء]  
{وَمِنۡ ءَايَٰتِهِۦٓ أَنَّكَ تَرَى ٱلۡأَرۡضَ خَٰشِعَةٗ فَإِذَآ أَنزَلۡنَا عَلَيۡهَا ٱلۡمَآءَ ٱهۡتَزَّتۡ وَرَبَتۡۚ إِنَّ ٱلَّذِيٓ أَحۡيَاهَا لَمُحۡيِ ٱلۡمَوۡتَىٰٓۚ إِنَّهُۥ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٌ} (39)

37

المفردات :

خاشعة : جامدة يابسة لا نبات فيها ، وأصل الخشوع التذلل ، استعير لحال الأرض الجدبة اليابسة .

اهتزت : تحركت بالنبات .

ربت : انتفخت وعلت بالنّبات .

إنه على كل شيء قدير : من الإحياء والإماتة .

التفسير :

39-{ ومن آياته أنك ترى الأرض خاشعة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت إن الذي أحياها لمحي الموتى إنه على كل شيء قدير } .

ومن دلائل قدرة الله تعالى أنك أيها المخاطب ترى الأرض هامدة خاشعة لا نبات بها ولا زرع ولا ماء ، فإذا ساق الله إليها الماء وبثّ الزّارع فيها الزرع ، واختلط الزرع بالتراب والماء ، نبت الزرع ونما واهتزت به الأرض وتحركت ، وزادت وربت ، ودبت فيها الحياة ، وكما أحيا الله الأرض بعد موتها ، كذلك يبعث الموتى يوم القيامة بقدرته .

{ إنه على كل شيء قدير } . فهو سبحانه قادر على البعث والنشر والحشر ، والحساب والجزاء .

قال تعالى : { كما بدأنا أول خلق نعيده . . . } ( الأنبياء : 104 ) .

وقال سبحانه وتعالى : { وهو الذي يبدؤا الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه وله المثل الأعلى في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم } . ( الروم : 27 ) .

 
تيسير التفسير لإبراهيم القطان - إبراهيم القطان [إخفاء]  
{وَمِنۡ ءَايَٰتِهِۦٓ أَنَّكَ تَرَى ٱلۡأَرۡضَ خَٰشِعَةٗ فَإِذَآ أَنزَلۡنَا عَلَيۡهَا ٱلۡمَآءَ ٱهۡتَزَّتۡ وَرَبَتۡۚ إِنَّ ٱلَّذِيٓ أَحۡيَاهَا لَمُحۡيِ ٱلۡمَوۡتَىٰٓۚ إِنَّهُۥ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٌ} (39)

خاشعة : هامدة لا حياة فيها .

اهتزت : تحركت .

وربتْ : زادت .

ثم بين بعد ذلك بآية أرضية تراها العين في كل حين ، وهي حال الأرض : هامدة يابسة لا نبات فيها ، تنتعش وتهتزُّ بعد أن ينزل المطر . . والذي أحياها هذه الحياة قادر على أن يحيي الموتى ، { إِنَّهُ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } .

 
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي [إخفاء]  
{وَمِنۡ ءَايَٰتِهِۦٓ أَنَّكَ تَرَى ٱلۡأَرۡضَ خَٰشِعَةٗ فَإِذَآ أَنزَلۡنَا عَلَيۡهَا ٱلۡمَآءَ ٱهۡتَزَّتۡ وَرَبَتۡۚ إِنَّ ٱلَّذِيٓ أَحۡيَاهَا لَمُحۡيِ ٱلۡمَوۡتَىٰٓۚ إِنَّهُۥ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٌ} (39)

قوله تعالى : " ومن آياته أنك ترى الأرض خاشعة " الخطاب لكل عاقل أي " ومن آياته " الدالة على أنه يحيي الموتى " أنك ترى الأرض خاشعة " أي يابسة جدبة ، هذا وصف الأرض بالخشوع . قال النابغة :

رمادٌ ككُحْلِ العين لأْيًا أُبَيِّنُهُ *** ونُؤْيٌ كَجِذْمِ الحَوْضِ أثْلَمُ خَاشِعُ{[13444]}

والأرض الخاشعة : الغبراء التي تنبت . وبلدة خاشعة : أي مغبرة لا منزل بها . ومكان خاشع . " فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت " أي بالنبات ؛ قال مجاهد . يقال : اهتز الإنسان أي تحرك . ومنه :

تراه كَنَصْلِ السيف يَهْتَزُّ للنَّدَى *** إذا لم تَجِدْ عندَ امْرِئِ السَّوْءِ مَطْمَعَا

" وربت " أي انتفخت وعلت قبل أن تنبت . قاله مجاهد . أي تصعدت عن النبات بعد موتها . وعلى هذا التقدير يكون في الكلام تقديم وتأخير وتقديره : ربت واهتزت . والاهتزاز والربو قد يكونان قبل الخروج من الأرض ، وقد يكونان بعد خروج النبات إلى وجه الأرض ، فربوها ارتفاعها . ويقال للموضع المرتفع : ربوة ورابية ، فالنبات يتحرك للبروز ثم يزداد في جسمه بالكبر طولا وعرضا . وقرأ أبو جعفر وخالد " وربأت " ومعناه عظمت من الربيئة . وقيل : " اهتزت " أي استبشرت بالمطر " وربت " أي انتفخت بالنبات . والأرض إذا انشقت بالنبات : وصفت بالضحك ، فيجوز وصفها بالاستبشار أيضا . ويجوز أن يقال الربو والاهتزاز واحد ، وهي حالة خروج النبات . وقد مضى هذا المعنى في " الحج " {[13445]} " إن الذي أحياها لمحيي الموتى إنه على كل شيء قدير " تقدم في غير موضع{[13446]} .


[13444]:شبه الرماد بكحل العين لسواده، فإنه يسودّ متى تقادم عهده وأصابته الأمطار. والنؤي حفير حول الخيمة. والجذم الأصل. وأثلم مهدوم. وخاشع تداعت آثاره واستوى بالأرض. يريد أن ذلك الرماد تغير ولم أتبينه إلا بعد لأي، أي بعد جهد ومشقة.
[13445]:راجع ج 12 ص 13 طبعة أولى أو ثانية.
[13446]:راجع ج 14 ص 45 طبعة أولى أو ثانية.
 
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي [إخفاء]  
{وَمِنۡ ءَايَٰتِهِۦٓ أَنَّكَ تَرَى ٱلۡأَرۡضَ خَٰشِعَةٗ فَإِذَآ أَنزَلۡنَا عَلَيۡهَا ٱلۡمَآءَ ٱهۡتَزَّتۡ وَرَبَتۡۚ إِنَّ ٱلَّذِيٓ أَحۡيَاهَا لَمُحۡيِ ٱلۡمَوۡتَىٰٓۚ إِنَّهُۥ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٌ} (39)

ولما ذكر بعض آيات السماء لشرفها ، ولأن بعضها عبد ، ومن آثار الإلهية ، فذكر دلالتها على وحدانيته اللازم منه إبطال عبادتها ، أتبعه بعض آيات الأرض بخلاف ما في يس ، فإن السياق هناك للبعث وآيات الأرض أدل فقال : { ومن آياته } أي الدالة على عظم شأنه وعلو سلطانه { أنك ترى الأرض } أي بعضها بحاسة البصر وبعضها بعين البصيرة قياساً على ما أبصرته ، لأن الكل بالنسبة إلى القدرة على حد سواء .

ولما كان السياق للوحدانية ، عبر بما هو أقرب إلى حال العابد بخلاف ما مضى في الحج فقال : { خاشعة } أي يابسة لا نبات فيها فهي بصورة الذليل الذي لا منعة عنده لأنه لا مانع من المشي فيها لكونها مطمئنة بعد الساتر لوجهها بخلاف ما إذا كانت مهتزة رابية متزخرفة تختال بالنبات .

ولما كان إنزال الماء مما استأثر به سبحانه ، فهو من أعظم الأدلة على عظمة الواحد ، صرف القول إلى مظهر العظمة فقال : { فإذا أنزلنا } بما لنا من القدرة التامة والعظمة { عليها الماء } من الغمام أو سقناه إليها من الأماكن العالية وجلبنا به إليه من الطين ما تصلح به للانبات وإن كانت سبخة كأرض مصر { اهتزت } أي تحركت حركة عظيمة كثيرة سريعة ، فكانت كمن يعالج ذلك بنفسه { وربت } أي تشققت فارتفع ترابها وخرج منها النبات وسما في الجو مغطياً لوجهها ، وتشعبت عروقه ، وغلظت سوقه ، فصار يمنع سلوكها على ما كان فيه من السهولة ، وصار بحسن زيه بمنزلة المختال في أثواب ثرية بعد أن كان عارياً ذليلاً في أطمار رثة وحال زرىء ، وكذلك القلوب إذا خشعت لاستشعارها بما ألمت به من الذنوب أقبل الحق سبحانه عليها فطهرها بمياه المعارف فظهرت فيها بركات الندم وعفا عن أربابها ما قصروا في صدق القدم وأشرقت بحلى الطاعات وزهت بملابس القربات ، وزكت بأنواع التجليات .

ولما كان هذا دليلاً عظيما مشاهداً على القدرة على إيجاد المعدوم ، وإعادة البالي المحطوم ، أنتج ولا بد قوله مؤكداً لأجل ما هم فيه من الإنكار صارفاً القول عن مظهر العظمة إلى ما ينبه على القدرة على البعث ولا بد : { إن الذي أحياها } بما أخرج من نباتها الذي كان بلي وتحطم وصار تراباً { لمحيي الموتى } كما فعل بالنبات من غير فرق . ولما كانوا مع إقرارهم بتمام قدرته كأنهم ينكرون قدرته لإنكارهم البعث قال معللاً مؤكداً : { أنه على كل شيء قدير * } لأن الممكنات متساوية الأقدام بالنسبة إلى القدرة ، فالقادر قدرة تامة على شيء منها قادر على غيره .