وهذا الإنسان إذا أذاقه الله منه رحمة بعد ذلك الضر ، استخفته النعمة فنسي الشكر ؛ واستطاره الرخاء فغفل عن مصدره . وقال : هذا لي . نلته باستحقاقي وهو دائم علي ! ونسي الآخرة واستبعد أن تكون ( وما أظن الساعة قائمة ) . . وانتفخ في عين نفسه فراح يتألى على الله ، ويحسب لنفسه مقاماً عنده ليس له ، وهو ينكر الآخرة فيكفر بالله . ومع هذا يظن أنه لو رجع إليه كانت له وجاهته عنده ! ( ولئن رجعت إلى ربي إن لي
عنده للحسنى ) ! وهو غرور . . عندئذ يجيء التهديد في موضعه لهذا الغرور :
( فلننبئن الذين كفروا بما عملوا ، ولنذيقنهم من عذاب غليظ ) . .
عذاب غليظ : بالغ الغاية في الشدة والإحاطة بهم من كل جانب ، فهو كالوثاق الغليظ الذي لا يمكن للإنسان أن يخرج منه .
50- { ولئن أذقناه رحمة منا من بعد ضراء مسته ليقولن هذا لي وما أظن الساعة قائمة ولئن رجعت إلى ربي إن لي عنده للحسنى فلننبئن الذين كفروا بما عملوا ولنذيقنهم من عذاب غليظ } .
إذا جاءت للإنسان النعمة والمال والجاه ، وغير ذلك من آثار رحمة الله ، بأن فرج الله عنه الضر أو الفقر أو المرض ، وكساه ثوب الغنى أو العافية ؛ لم يشكر صاحب الرحمة والفضل ، بل نسب النعمة إلى نفسه ، أي أنه خبير بأسباب النعمة ، جدير بأن تأتي إليه ، كما قال قارون : { إنما أوتيته على علم عندي . . . } ( القصص : 78 ) .
فهذا الإنسان الكافر الجاحد يرى أن النعمة من كده ، ومن عمل يمينه ، ثم ينكر البعث والحشر والجزاء والعقاب في الآخرة ، فيقول :
{ وما أظن الساعة قائمة . . . }
لا أعتقد بمجيء القيامة ، وإنما هي أرحام تدفع وقبور تبلع ، وما يهلكنا إلا الدهر ، وليس هناك حساب ولا جزاء ، ولا حياة سوى الحياة الدنيا ، ولو سلمنا جدلا أن القيامة ستقوم -كما يذكر أتباع محمد- فسأكون في الآخرة أحسن حظا ، وأفضل حالا لاستحقاقي للخير في الدنيا وفي الآخرة ، فإذا بعثت في الآخرة فسيكون مآلي الجنة ونعيمها .
{ فلننبئن الذين كفروا بما عملوا . . . }
فوالله لنخبرنهم بحقيقة أعمالهم ، ولنخبرنهم بجحودهم وكنودهم وكفرهم ، واستحقاقهم للعذاب والعقاب .
ولنحرقنهم بنار جهنم في عذاب غليظ لا يمكنهم تركه ولا الفكاك منه ، لإحاطته بهم من كل جانب ، فهو كالوثاق الغليظ الذي لا يمكن للإنسان أن يخرج منه .
الرحمة : الصحة وسعة العيش وكل ما يسرّ الإنسان .
والضرّاء : ضد الرحمة مثل المرض وضيق العيش ونحوهما .
هذا لي : هذا ما أَستحقه لما لي من الفضل والعمل .
وإذا أنعم الله عليه بالخير والرحمة بعد الضّراء واليأس يقول : { هذا لِي وَمَآ أَظُنُّ الساعة قَآئِمَةً وَلَئِن رُّجِّعْتُ إلى ربي إِنَّ لِي عِندَهُ للحسنى } .
كل هذا من الغرور والضلال . ولكن الله تعالى يبين لهم أن تمرُّدهم هذا وبطرهم لا ينفعهم إذ يقول : { فَلَنُنَبِّئَنَّ الذين كَفَرُواْ بِمَا عَمِلُواْ وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ } وهو عذاب جهنم خالدين فيها أبدا .
قوله تعالى : " ولئن أذقناه رحمة منا " عاقبة ورخاء وغنى " من بعد ضراء مسته " ضر وسقم وشدة وفقر . " ليقولن هذا لي وما أظن الساعة قائمة " أي هذا شيء استحقه على الله لرضاه بعملي ، فيرى النعمة حتما واجبا على الله تعالى ، ولم يعلم أنه ابتلاه بالنعمة والمحنة ؛ ليتبين شكره وصبره . وقال ابن عباس : " هذا لي " أي هذا من عندي . " ولئن رجعت إلى ربي إن لي عنده للحسنى " أي الجنة ، واللام للتأكيد . يتمنى الأماني بلا عمل . قال الحسن بن محمد بن علي بن أبي طالب : للكافر أمنيتان أما في الدنيا فيقول : " لئن رجعت إلى ربي إن لي عنده للحسنى " ، وأما في الآخرة فيقول : " يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين " [ الأنعام : 27 ] و " يا ليتني كنت ترابا " [ النبأ : 40 ] . " فلننبئن الذين كفروا بما عملوا " أي لنجزينهم . قسم أقسم الله عليه . " ولنذيقنهم من عذاب غليظ " أي شديد .
ولما دل ذلك على عظيم جهله وغلبة أفكاره الرديئة على عقله ، أتبعه تأكيداً لذلك ما يدل على أن حاله بعد هذا اليأس الذي قطع فيه بلزوم الشر وامتناع حصول الخير أنه لو عاودته النعمة بغتة من وجه لا يرجوه ، وليس له دليل على ما دوامها وانصرامها لعاد إلى البطر والكبر والأشر ، ونسي ما كان فيه من الشدة ، فقال مسنداً إلى نفسه الخير بعد أن ذكر الشر ، ولم يسنده إليه تعليماً للأدب معبراً بمظهر العظمة تنبيهاً على أن ذلك من جليل التدبير { ولئن أذقناه } أي الإنسان الذي غلبت عليه حالة الأنس بنفسه حتى أسفلته عن أبناء جنسه إلى رتبة الحيوانات العجم بل دونها .
ولما أخبر آخر الآية السالفة عن حاله عند الشر ، قدم هنا ضده على صلته اهتماماً به بخلاف ما في سورة هود عليه السلام فقال : { رحمة منا } أي نعمة عظيمة دلت على إكرامه من جهة لا يرجوها ، وهو من فائدة التعبير بأداة الشك ، ودل بإثبات الجار على انفصالها عن الضر مع قرب زمانها منه ليكون قد جمع مباشرة الأحوال الثلاث : الانتقام والإكرام وما بينهما من الوسط الذي بين حالتي الرضا والسخط ، ثم شرع بيان ذلك فقال : { من بعد ضراء } أي محنة وشدة عظيمة { مسته } فطال بروكها عليه ؛ وأجاب القسم لتقدمه على الشرط بقوله : { ليقولن } بمجرد ذوق تلك الرحمة على أنها ربما كانت بلاء عظيماً لكونها استدراجاً إلى الهلاك : { هذا } أي الأمر العظيم { لي } أي مختص بي لما لي من الفضل ، لا مشاركة لأحد معي فيه مع أنه ثابت لا يتغير انتقالاً من حالة اليأس إلى حالة الأمن والبطر والكبر والأشر على قرب الزمن من ذوق المحن وينسى أنها من فضل الله ليقيدها بشكرها ، ويطردها بكفرها { وما أظن الساعة } أي القيامة التي هي لعظمها المستحقة أن تختص باسم الساعة { قائمة } أي ثابتاً قيامها ، فقطع الرجاء منها سواء عبر عن ذلك بلسان قاله أو بلسان حاله ، لكونه يفعل أفعال الشاك فيها كما كان قطع الرجاء من الخير عند مباشرته للشر لكنه هنا قال على سبيل التقدير : والفرض ، لدفع من يعظه محققاً لدوام نعمته : { ولئن رجعت } أي على سبيل الفرض بقسر قاسر ما { إلى ربي } أي الذي أحسن إليّ بهذا الخير الذي أنا فيه { إن لي عنده } وأكده على من يعظه بأنه يعذب إن لم يحسن قلبه وقالبه { للحسنى } أي الحالة والرتبة البالغة في الحسن حداً لا يوصف لأني أهل لذلك ، والدليل على تأهلي له ما أنا فيه الآن من الخير ، ونسي ما يشاهده غالباً من أن كثيراً من النعم يكون للاستدراج ، ومن أن كثيراً من الناس يكون في غاية النعمة فيصبح وقد أحاطت به كل نقمة ، فهو بين أمنيتين في الدنيا بقوله هذا ، وفي الآخرة يقول : يا ليتني كنت تراباً ، فلا يزال في المحال - نعوذ بالله من سوء الحال .
ولما كان هذا هو الكفر الصراح لنسيان نعمة المنعم وجعله الإنعام من الواجب اللازم وشكه فيما أخبر سبحانه على ألسنة جميع الرسل أنه محط حكمته ، سبب عنه سبحانه قوله ، مؤكداً في نظير تأكيد هذا الناسي : { فلننبئن } أي تنبئة عظيمة بخير الوصف فيها مستقصاة على سبيل العدل ، وجعل الضمير الوصف تصريحاً بالعموم وبياناً للعلة الموجبة فقال : { الذين كفروا } أي ستروا ما دلت عليه العقول ، وأوجبته صرائح النقول ، من إقامة الساعة لإظهار جلاله وجماله ، ومن أنه تعالى يحل بالإنسان السراء والضراء ليخافه ويرجوه ويشكره ويدعو { بما عملوا } لا ندع منه قليلاً ولا كثيراً صغيراً ولا كبيراً ، فليرون عياناً ضد ما ظنوه في الدنيا من أن لهم الحسنى وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثوراً }[ الفرقان : 23 ] { ولنذيقنهم } بعد إقامة الحجة عليهم بموازين القسط الوافية لمثاقيل الذر { من عذاب غليظ * } لا يدع جهة من أجسامهم ولا قواهم إلا أحاط بها ولا تقوى على دفعه قواهم .