تأويلات أهل السنة للماتريدي - الماتريدي  
{لَّا يَسۡـَٔمُ ٱلۡإِنسَٰنُ مِن دُعَآءِ ٱلۡخَيۡرِ وَإِن مَّسَّهُ ٱلشَّرُّ فَيَـُٔوسٞ قَنُوطٞ} (49)

الآية 49 وقوله تعالى : { لَا يَسْأَمُ الْإِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ } وقال في آية أخرى : { وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ } [ فصلت : 51 ] .

هاتان الآيتان في ظاهر المخرج إحداهما مخالفة للأخرى ، لأنه ذكر في إحداهما الإياس والقنوط إذا مسّته الشدة والبلاء ، ومن طباع الخلق والعُرف فيهم أنهم [ إذا ]{[18614]} أيِسوا ، وقنطوا ، لا يدعون ولا يسألون ، بل يتركون سؤالهم ، وإذا طمعوا ، ورجوا ، عند ذلك سألوا ودعوا . هذا هو العُرف فيهم .

فدل أن بينهما مخالفة من حيث الظاهر . لكن نقول : إن الآية تخرّج على وجوه :

[ أحدها ]{[18615]} : يحتمل أن كل واحدة من الآيتين في إنسان بعينه ، يشار إليه سوى الآخر : كانت عبادة أحدهما على الإياس والقنوط من الخير وترك الدعاء والسؤال ، وكانت عبادة الآخر [ على ]{[18616]} الدعاء والتضرّع إليه والسؤال عن كشف ذلك عنه .

فأخبر ، جلّ ، وعلا ، رسوله عليه السلام ما أضمر كل واحد منهما : في نفس أحدهما الإياس والقنوط [ وفي نفس ]{[18617]} الآخر الدعاء والسؤال والطّمع في الخير ليكون له عليهم دلالة الرسالة وآية النبوّة ، إذ أنبأ عن ضمير كل واحد منهما وما في نفسه ليُعلَم أنه رسول ، وإنما علم ذلك بالله ، جلّ ، وعلا ، والله أعلم .

والثاني : أن الكفرة كانوا فِرقًا ، وكانوا على مذاهب شتى مختلفة .

فرقة كانت تطمئن في حال الرخاء والسعة ، وتيأس وتتقلّب في حال البلاء والشدة كقوله : { ومن الناس من يعبد الله على حرف فإن أصابه خير اطمأن به } الآية [ الحجج : 11 ] .

وفرقة كانت تفزع إلى الله ، وتقبل إليه عند إصابة الشدة والبلاء ، وتُعرض عنه عند كشف ذلك عنهم وتوسيع النعم عليهم نحو قوله تعالى : { فإذا ركبوا في الفلك } الآية [ العنكبوت : 65 ] ونحوه كثير في القرآن .

وفرقة كانت{[18618]} في الحالين /487–ب/ جميعا على الإعراض عنه وترك الإقبال إليه والطاعة له ؛ لا يفزعون ، ولا يُقبَلون لا في حال الرخاء والسعة ولا في حال البلاء والشدة كقوله : { فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرّعوا ولكن قست قلوبهم } [ الأنعام : 43 ] .

وفرقة كانت ترى الحسنة والخير من أنفسهم ، وإذا صارت سيئة وشدة تطيّروا بالرسل عليهم السلام كقوله تعالى : { فإذا جاءتهم الحسنة قالوا لنا هذه وإن تصبهم سيئة يطّيّروا بموسى ومن معه } [ الأعراف : 131 ] وقوله تعالى : { قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ } [ النمل : 47 ] .

وإذا كانت الكفرة على هذه المذاهب المختلفة ، وكانت أجناسا شتى فتكون كل آية منها في جنس غير الجنس الآخر وفي أهل مذهب غير أهل مذهب آخر .

فأما المسلمون فيكونون في الحالين جميعا على التوحيد والإقبال على الله تعالى في حال الرخاء والسعة وفي حال البلاء والشدة ، وهو على ما استثناهم الله تعالى عند ذكر الكفرة حين{[18619]} قال : { إنه لفرِحٌ فخُور } { إلا الذين صبروا وعملوا الصالحات } [ هود : 10 و11 ] وقال تعالى : { والعصر } { إن الإنسان لفي خسر } { إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر } [ العصر 1 – 3 ] وأمثال ذلك من الآيات . وصفهم عز وجل بالثبات والقرار على دينهم في الأحوال كلها ، والله أعلم .

والثالث : وجائز أن يكون ما ذكر من الآيتين على ما ذكر إخبارًا{[18620]} عما طُبِع عليه البشر ؛ أُنشئ البشر ، وطُبع على الرغبة في الخير والسعة والنّفار عن الشدة والبلاء والكراهة له . فهذا إخبار عما طُبعوا عليه ، وأُنشئوا ، ليس على حقيقة إظهار ذلك منهم قولا أو فعلا على ما طُبع كل إنسان راغبا حرّاصًا في السعة والرخاء ، وإنه ما ذكر لا يسأم من دعاء الخير كارها نافرا عن البلاء والشدة ، والله أعلم .


[18614]:ساقطة من الأصل وم.
[18615]:ساقطة من الأصل وم.
[18616]:ساقطة من الأصل وم.
[18617]:في الأصل وم: و.
[18618]:أدرج بعدها في الأصل وم: قال.
[18619]:في الأصل وم: حيث.
[18620]:في الأصل وم: إخبار.