( يدخل من يشاء في رحمته ، والظالمين أعد لهم عذابا أليما ) . .
فهي المشيئة المطلقة تتصرف بما تريد . ومن إرادتها أن يدخل في رحمته من يشاء ، ممن يلتجئون إليه ، يطلبون عونه على الطاعة ، وتوفيقه إلى الهدى . . ( والظالمين أعد لهم عذابا أليما ) . وقد أملى لهم وأمهلهم لينتهوا إلى هذا العذاب الأليم !
وهذا الختام يلتئم مع المطلع ، ويصور نهاية الابتلاء ، الذي خلق الله له الإنسان من نطفة أمشاج ، ووهبه السمع والأبصار ، وهداه السبيل إما إلى جنة وإما إلى نار . .
13- يدخل من يشاء في رحمته والظالمين أعدّ لهم عذابا أليما .
فهو سبحانه حكيم منزه عن الظلم ، فمن رأى في قلبه الرغبة في الهدى والإيمان ، والطمع في المغفرة ، والرجاء في الرحمة ، يسّر له ذلك وأعانه عليه ، ومن ظلم نفسه بالمعاصي ، وأعرض عن طاعة الله سلب عنه الهدى ، وأعدّ له عذابا أليما في الآخرة .
وفي الحديث الشريف أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه ذات يوم : ( هؤلاء أسماء أصحاب الجنة ، بأسمائهم وأسماء آبائهم وأمهاتهم ، لا يزيدون ولا ينقصون ، وهؤلاء أسماء أصحاب النار ، بأسمائهم وأسماء آبائهم وأمهاتهم ، لا يزيدون ولا ينقصون ) . قال الصحابة : أفلا نتكل على ذلك يا رسول الله ؟ قال : ( لا ، اعلموا فكل ميسر لما خلق له . إن الله عز وجل يقول : فأما من أعطى واتقى* وصدّق بالحسنى* فسنيسره لليسرى* وأما من بخل واستغنى* وكذّب بالحسنى* فسنيسره للعسرىviii . ( الليل : 5-10 ) .
أي : عليم بمن يستحق الهداية فييسرها له ، ويقيّض له أسبابها ، ومن يستحق الغواية فيصرفه عن الهدى ، وله الحكمة البالغة ، والحجة الدامغة ، ولهذا قال : إن الله كان عليما حكيما .
ثم قال : يدخل من يشاء في رحمته والظالمين أعد لهم عذابا أليما .
أي : يهدي من يشاء ويضلّ من يشاء ، فمن يهده فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي لهix .
i تفسير النيسابوري بهامش تفسير الطبري 29/109 .
ii تفسير المراغي ، للأستاذ أحمد مصطفى المراغي 29/164 ، وانظر تفسير النسفي 4/238 .
vi مختصر تفسير ابن كثير ، تحقيق محمد علي الصابوني ، المجلد الثالث ص584 .
رواه البخاري ( 1 ، 6689 ، 6953 ) ومسلم في كتاب الإمارة ( 3530 ) ، والترمذي في كتاب فضائل الجهاد ( 1571 ) والنسائي في كتاب الطهارة ( 74 ) وفي الطلاق ( 3383 ) وفي الأيمان والنذور ( 3734 ) ، وأبو داود في كتاب الطلاق ( 1882 ) ، وابن ماجة في كتاب الزهد ( 4217 ) وأحمد في مسنده ( 163 ، 283 ) من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه على المنبر قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( إنما الأعمال بالنيات ، وإنما لكل امرئ ما نوى ، فمن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو إلى امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه ) .
viii اعملوا فكل ميسر لما خلق له :
تقدم تخريجه ، انظر هامش ( 64 ) .
ix مختصر تفسير ابن كثير ، تحقيق محمد علي الصابوني ، المجلد الثالث ص585 .
" يدخل من يشاء في رحمته " أي يدخله الجنة راحما له " والظالمين " أي ويعذب الظالمين فنصبه بإضمار يعذب . قال الزجاج : نصب الظالمين لأن قبله منصوب ، أي يدخل من يشاء في رحمته ويعذب الظالمين أي المشركين ويكون " أعد لهم " تفسيرا لهذا المضمر . كما قال الشاعر :
أصبحت لا أحملُ السلاحَ ولا *** أملكُ رأسَ البعيرِ إن نَفَرَا
والذئبَ أخشاه إن مررت به *** وَحْدِي وأخشَى الرياحَ والمَطَرَا
أي أخشى الذئب أخشاه . قال الزجاج : والاختيار النصب وإن جاز الرفع . تقول : أعطيت زيدا وعمرا أعددت له برا ، فيختار النصب . أي وبررت عمرا أو أبر عمرا . وقوله في " الشورى " : " يدخل من يشاء في رحمته والظالمون " [ الشورى : 8 ] ارتفع لأنه لم يذكر بعده فعل يقع عليه فينصب في المعنى ؛ فلم يجز العطف على المنصوب قبله فارتفع بالابتداء . وها هنا قوله : " أعد لهم عذابا " يدل على ويعذب ، فجاز النصب . وقرأ أبان بن عثمان " والظالمون " رفعا بالابتداء والخبر " أعد لهم " .
" عذابا أليما " أي مؤلما موجعا . وقد تقدم هذا في سورة " البقرة " {[15714]} وغيرها والحمد لله . ختمت السورة .
وهو معنى { يدخل من يشاء } أي ممن{[70809]} علمه أهلاً للسعادة ، ليس بظالم { في رحمته } بحكمته فييسر له اتخاذ السبيل الموصل إليه بأن يوفقه للعدل ، ويعد له ثواباً جسيماً .
ولما بشر أهل العدل بالفعل المضارع المؤذن بالاستمرار ، ولم يجعله ماضياً لئلا يتعنت متعنت ممن هو متلبس بالضلال فيقول : أنا لا أصلح لأنه ما أدخلني ، عطف عليه ما لأضدادهم{[70810]} في جملة فعلية بناها على الماضي إعلاماً بأن عذابهم موجود قد فرغ منه فقال-{[70811]} : { والظالمين } أي وأهان العريقين في وصف المشي على غير سنن مرضى كالماشي في الظلام فهو يدخلهم في نقمته وقد { أعد لهم } أي-{[70812]} إعداداً أمضاه بعظمته ، فلا يزاد فيه ولا ينقص أبداً{[70813]} { عذاباً أليماً * } فالآية من الاحتباك : ذكر الإدخال والرحمة أولاً دلالة على الضد ثانياً ، والعذاب ثانياً دلالة على الثواب أولاً ، وسر ذلك أن ما ذكره أولى بترغيب أهل العدل فيه وإن ساءت حالهم في الدنيا ، وبترهيب أهل الظلم منه وإن حسنت حالهم في الدنيا ، فقد رجع هذا الآخر المفصل إلى السعادة والشقاوة على أولها المؤذن بأن الإنسان معتنى به غاية الاعتناء ، وأنه ما خلق إلا للابتلاء ، فهو إما كافر مغضوب عليه ، وإما شاكر منظور بعين الرضى إليه{[70814]} - فسبحان من خلقنا ويميتنا ويحيينا بقدرته{[70815]} والله الهادي .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.