لقد أقرأه فلا ينسى ( إلا ما شاء الله )ويسره لليسرى . لينهض بالأمانة الكبرى . . ليذكر . فلهذا أعد ، ولهذا بشر . . فذكر حيثما وجدت فرصة للتذكير ، ومنفذا للقلوب ، ووسيلة للبلاغ . ذكر ( إن نفعت الذكرى ) . . والذكرى تنفع دائما ، ولن تعدم من ينتفع بها كثيرا كان أو قليلا . ولن يخلو جيل ولن تخلو أرض ممن يستمع وينتفع ، مهما فسد الناس وقست القلوب وران عليها الحجاب . .
وحين نتأمل هذا الترتيب في الآيات ، ندرك عظمة الرسالة ، وضخامة الأمانة ، التي اقتضت للنهوض بها هذا التيسير لليسرى ، وذلك الإقراء والحفظ وتكفل الله بهما ؛ كي ينهض الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] بعبء التذكير ، وهو مزود بهذا الزاد الكبير .
التذكير وتزكية النفس والعمل للآخرة
{ فذكّر إن نفعت الذكرى 9 سيذّكر من يخشى 10 ويتجنبها الأشقى 11 الذي يصلى النار الكبرى 12 ثم لا يموت فيها ولا يحيى 13 قد أفلح من تزكّى 14 وذكر اسم ربه فصلّى 15 بل تؤثرون الحياة الدنيا 16 والآخرة خير وأبقى 17 إنّ هذا لفي الصّحف الأولى 18 صحف إبراهيم وموسى 19 }
التذكير : أن ينبّه الإنسان إلى شيء كان قد علمه من قبل ثم غفل عنه .
ذكّر من تنفع الذكرى معه ، وأد رسالتك حيث وجدت أرضا طيبة تصلح للغراس ، وسر في دعوتك ورسالتك ، اقرأ القرآن وبلّغ عن الرحمان ، ولن يخلو جيل ولن تخلو أرض ممن يستمع وينتفع .
لقد أرسله الله رحمة للعالمين وختم به الرسالات ، وجعله صاحب الشريعة الخاتمة ، وأنزل عليه القرآن الكريم مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه ، فإذا أدّى واجبه في الدعوة فقد بلّغ الرسالة وأدى الأمانة .
وليس أن يحزن على أهل مكة ، ولا أن يبخعه الهم والحزن بسبب المكذبين ، أي فاتركهم وشأنهم وانشغل بمن ينتفع بهذا الكتاب ، ويكون التذكير وسيلة لإيمانه وهدايته .
قال تعالى : فذكّر بالقرآن من يخاف وعيد . ( ق : 45 ) .
أما من طبع على قلبه فلم تنفذ إليه الهداية فاتركه وشأنه .
قال تعالى : فأعرض عن من تولّى عن ذكرنا ولم يرد إلا الحياة الدنيا* ذلك مبلغهم من العلم إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بمن اهتدى . ( النجم : 29 ، 30 ) .
وقيل : إن المعنى : ذكّر إن نفعت الذكرى أو إن لم تنفع .
والمقصود استبعاد النفع بالنسبة لهؤلاء المذكورين ، رؤوس الكفر والضلال بمكة .
والمطلوب تذكير الجميع سواء انتفعوا بالذكرى أو لم ينتفعوا ، كأنه قيل : افعل ما أمرت به لتؤجر وإن لم ينتفعوا به ، وفيه تسلية له صلى الله عليه وسلم .
ومنه قوله تعالى : ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصّنا . . . ( النور : 33 ) .
أي : لا تكرهوا فتياتكم على الغاء مطلقا ، وإن أردن تحصنا من باب أولى ، حيث إن الآية نزلت في عبد الله بن أبيّ بن سلول كبير المنافقين ، وكان يكره جواريه على البغاء ليستفيد من أموالهن ، وكن كارهات راغبات في التطهر .
وعند التأمل نجد أن الأصل تبليغ الدعوة لأول مرة ، أما تكرير الدعوة فيترك ذلك لفقه الداعية وتوقعه للقبول .
ومن هنا يؤخذ الأدب في نشر العلم ، فلا يضعه عند غير أهله .
أخرج مسلم ، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ما أنت بمحدّث قوما حديثا لا تبلغه عقولهم ، إلا كان لبعضهم فتنة )xix .
وروى الديلمي في مسند الفردوس ، عن علي ، كما روى البخاري موقوفا : ( حدّثوا الناس بما يعرفون ، أتريدون أن يكذّب الله ورسوله )xx .
وقال عيسى عليه السلام : لا تضعوا الحكمة في غير أهلها فتلظلموها ، ولا تمنعوها أهلها فتظلموهم ، وكن كالطبيب يضع دواءه حيث يعلم أنه ينفع .
{ فَذَكِّرْ } بشرع الله وآياته { إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى } أي : ما دامت الذكرى مقبولة ، والموعظة مسموعة ، سواء حصل من الذكرى جميع المقصود أو بعضه .
ومفهوم الآية أنه إن لم تنفع الذكرى ، بأن كان التذكير يزيد في الشر ، أو ينقص من الخير ، لم تكن الذكرى مأمورًا بها ، بل منهيًا عنها ، فالذكرى ينقسم الناس فيها قسمين : منتفعون وغير منتفعين .
قوله تعالى : " فذكر " أي فعظ قومك يا محمد بالقرآن . " إن نفعت الذكرى " أي الموعظة . وروى يونس عن الحسن قال : تذكرة للمؤمن ، وحجة على الكافر . وكان ابن عباس يقول : تنفع أوليائي ، ولا تنفع أعدائي . وقال الجرجاني : التذكير واجب وإن لم ينفع . والمعنى : فذكر إن نفعت الذكرى ، أو لم تنفع ، فحذف ، كما قال : " سرابيل تقيكم الحر{[15975]} " [ النحل : 81 ] . وقيل : إنه مخصوص بأقوام بأعيانهم . وقيل : إن " إن " بمعنى ما ، أي فذكر ما نفعت الذكرى ، فتكون " إن " بمعنى ما ، لا بمعنى الشرط ؛ لأن الذكرى نافعة بكل حال . قاله ابن شجرة . وذكر بعض أهل العربية : " أن " " إن " بمعنى إذ ، أي إذ نفعت ، كقوله تعالى : " وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين{[15976]} " [ آل عمران : 139 ] أي إذ كنتم ، فلم يخبر بعلوهم إلا بعد إيمانهم . وقيل : بمعنى قد .
ولما كمله صلى الله عليه وسلم وهيأه سبحانه وتعالى للأيسر ويسره غاية التيسير ، سبب عنه وجوب التذكير لكل أحد في كل حالة تكميلاً لغيره شفقة على خلق الله بعد{[72882]} لما له في نفسه فإن لله ساعات له-{[72883]} فيها نفحات تقضى فيها الحاجات ، وذلك لأنه قد{[72884]} صار كالطبيب الحاذق في علاج المرضى فيقوم بنفع عباده لشكره بعد-{[72885]} ذكره بإذن منه إشارة إلى أن-{[72886]} التلميذ يحتاج إلى إذن المشايخ وتزكيتهم ، وإلى-{[72887]} أن أعظم الأدواء أن يقتصر الإنسان على ما عنده ولا يطلب الازدياد مما ليس عنده من خير الزاد فقال تعالى : { فذكر } أي بهذا الذكر الحكيم ، وعبر بأداة الشك إفهاماً للإطلاق الكليّ فقال : { إن نفعت الذكرى * } أي إن جوزت نفعها وترجيته ولو كان-{[72888]} على وجه ضعيف - بما أشار إليه تأنيث الفعل بعد ما أفادته أداة الشك ، ولا شك أن الإنسان لعدم علمه{[72889]} الغيب لا يقطع بعدم نفع أحد بل لا يزال على رجاء منه وإن استبعده ، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يزال يدعو إلى الله تعالى وإن اشتد الأمر ، ولا يحقر أحداً أن يدعوه ولا ييأس من أحد وإن اشتد عليه ، و{[72890]}الأمر بالإعراض عمن تولى ونحو ذلك إنما هو بالإعراض عن الحزن عليه ومن تقطيع النفس لأجله حسرات ونحو ذلك-{[72891]} .