ولما ذكر التبتل وهو الانقطاع عما عدا الله ، ذكر بعده ما يفيد أنه ليس هناك إلا الله ، يتجه إليه من يريد الاتجاه :
( رب المشرق والمغرب ، لا إله إلا هو ، فاتخذه وكيلا ) . .
فهو رب كل متجه . . رب المشرق والمغرب . . وهو الواحد الأحد الذي لا إله إلا هو . فالانقطاع إليه هو الانقطاع للحقيقة الوحيدة في هذا الوجود ؛ والتوكل عليه هو التوكل على القوة الوحيدة في هذا الوجود . والاتكال على الله وحده هو الثمرة المباشرة للاعتقاد بوحدانيته ، وهيمنته على المشرق والمغرب ، أي على الكون كله . . والرسول الذي ينادى : قم . . لينهض بعبئه الثقيل ، في حاجة ابتداء للتبتل لله والاعتماد عليه دون سواه . فمن هنا يستمد القوة والزاد للعبء الثقيل في الطريق الطويل .
5- رب المشرق والمغرب لا إله إلا هو فاتخذه وكيلا .
هو سبحانه وتعالى رب المشرق الذي تشرق منه الشمس ، والمغرب الذي تغرب منه الشمس ، والمراد أن الجهات كلها لله وتحت تصرفه .
رب المشرقين ورب المغربين . ( الرحمان : 17 ) .
أي : مشرقي الشمس والقمر ومغربيها ، أو مشرقي الصيف والشتاء ومغربيها .
وورد في القرآن الكريم أيضا قوله تعالى : فلا أقسم برب المشارق والمغارب إنا لقادرون . ( المعارج : 40 ) .
أي : مشارق الشمس التي هي 360 مشرقا ، بعدد أيام السنة ، ومغاربها التي هي 360 مغربا ، بعدد أيام السنة . وكذلك مشارق القمر والكواكب ومغاربها .
لا إله إلا هو . . . لا إله غيره ، ولا ربّ سواه .
فاتخذه وكيلا . فاعتمد عليه ، وفوّض أمرك إليه ، وتوكّل عليه حق التوكل .
قال تعالى : ومن يتوكل على الله فهو حسبه إن الله بالغ أمره قد جعل الله لكل شيء قدرا . ( الطلاق : 3 ) .
ونحو الآية قوله تعالى : فاعبده واصطبر لعبادته هل تعلم له سميّا . ( مريم : 65 ) .
وقوله سبحانه وتعالى : إياك نعبد وإياك نستعين . ( الفاتحة : 5 ) .
{ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ } وهذا اسم جنس يشمل المشارق والمغارب [ كلها ] ، فهو تعالى رب المشارق والمغارب ، وما يكون فيها من الأنوار ، وما هي مصلحة له من العالم العلوي والسفلي ، فهو رب كل شيء وخالقه ومدبره .
{ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ } أي : لا معبود إلا وجهه الأعلى ، الذي يستحق أن يخص بالمحبة والتعظيم ، والإجلال والتكريم ، ولهذا قال : { فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا } أي : حافظا ومدبرا لأمورك كلها .
قوله تعالى : " رب المشرق والمغرب " قرأ أهل الحرمين وابن محيصن ومجاهد وأبو عمرو وابن أبي إسحاق وحفص " رب " بالرفع على الابتداء والخبر " لا إله إلا هو " . وقيل : على إضمار " هو " . الباقون " رب " بالخفض على نعت الرب تعالى في قوله تعالى : " واذكر اسم ربك " " رب المشرق " ومن علم أنه رب المشارق والمغارب انقطع بعمله وأمله إليه . " فاتخذه وكيلا " أي قائما بأمورك . وقيل : كفيلا بما وعدك .
ولما كان الواجب على كل أحد شكر المنعم ، بين أنه سبحانه الذي أنعم بسكن الليل الذي أمر بالتهجد فيه و-{[69460]} منتشر النهار الذي أمر بالسبح{[69461]} فيه ، فقال واصفاً الرب المأمور بذكره في قراءة ابن عامر ويعقوب والكوفيين غير حفص معظماً له بالقطع في قراءة الباقين بالرفع : { رب المشرق } أي موجد محل الأنوار التي بها ينمحي هذا الليل الذي أنت قائم فيه ويضيء بها الصباح وعند الصباح يحمد القوم السرى بما أنالهم{[69462]} من الأنوار في مرائي قلوبهم وما زينها به من شهب المعاني كما أوجد لهم في {[69463]}آفاق أفلاكهم{[69464]} من شموس المعاني المثمرة لبدور الأنس في مواطن القدس ، فلا يطلع كوكب في الموضع الذي هو ربه إلا بإذنه ، وهو رب كل مكان ، وما أحسن ما قال الإمام الرباني تقي الدين ابن دقيق العيد :
كم ليلة فيك وصلنا السرى *** لا نعرف الغمض ولا نستريح
واختلف الأصحاب ماذا الذي *** يزيح من شكواهم أو يريح
فقيل تعريسهم ساعة{[69465]} *** وقلت بل ذكراك وهو الصحيح
ولما ذكر مطالع الأنوار ، لأنها المقصود لما لها من جلي الإظهار ، ووحد لأنه أوفق لمقصود السورة الذي هو{[69466]} محطة لانجماح المدلول عليه بالتزمل ، أتبعه مقابله فقال : { والمغرب } أي الذي يكون عنه الليل والذي-{[69467]} هو محل السكن{[69468]} وموضع الخلوات ولذيذ{[69469]} المناجاة ، فلا تغرب شمس ولا قمر ولا نجم إلا بتقديره سبحانه ، وإذا كان رب ما فيه هذه الصنائع التي هي أبدع ما يكون كان رب ما دون ذلك .
ولما علم بهذا أنه المختص بتدبير الكائنات ، المتفرد بإيجاد الموجودات ، كان أهلاً لأن يفرد بالعبادة وجميع التوجه{[69470]} فقال مستأنفاً : { لا إله } أي معبود بحق { إلا هو } أي ربك الذي دلت تربيته لك على مجامع العظمة وأنهى صفات الكمال والتنزه عن كل شائبة نقص . ولما علم تفرده سبحانه كان الذي ينبغي لعباده أن لا يوجه أحد-{[69471]} منهم شيئاً من رغبته لغيره فلذلك سبب عنه قوله : { فاتخذه } أي خذه بجميع جهدك وذلك بإفرادك إياه بكونه تعالى { وكيلاً * } أي على كل من خالفك بأن تفوض جميع أمورك إليه فإنه يكفيكها كلها ويكلؤها غاية الكلاية فإنه المتفرد بالقدرة عليها ، ولا شيء أصلاً في يد غيره ، فلا تهتم بشيء أصلاً ، وليس ذلك بأن يترك الإنسان كل عمل ، فإن ذلك طمع فارغ بل بالإجمال في طلب كل ما ندب الإنسان إلى طلبه ، ليكون متوكلاً في السبب لا من دون{[69472]} سبب ، فإنه يكون حينئذ كمن يطلب{[69473]} الولد من غير زوجة ، وهو مخالف لحكمة هذه الدار المبنية على الأسباب ، ولو لم يكن في{[69474]} إفراده بالوكالة إلا أنه يفارق{[69475]} الوكلاء بالعظمة والشرف والرفق من جميع الوجوه فإن وكيلك من الناس-{[69476]} دونك وأنت تتوقع أن يكلمك كثيراً في مصالحك وربك أعظم العظماء وهو يأمرك أن تكلمه كثيراً في مصالحك وتسأله طويلاً ووكيلك من الناس - إذا حصّل مالك سألك الأجرة وهو سبحانه يوفر مالك ويعطيك الأجر ، ووكيلك من{[69477]} الناس ينفق عليك من مالك وهو سبحانه يرزقك وينفق عليك من ماله ، ومن تمسك بهذه الآية عاش حراً كريماً ، ومات خالصاً شريفاً ، ولقي الله تعالى عبداً صافياً مختاراً تقياً ، ومن شرط الموحد أن يتوجه إلى{[69478]} الواحد ويقبل على الواحد ويبذل له نفسه عبودية ويأتمنه على نفسه ويفوض إليه أموره ويترك التدبير ويثق به ويركن إليه ويتذلل لربوبيته ، ويتواضع لعظمته ويتزين ببهائه ويتخذه عدة لكل نائبة دنيا وآخرة .