( وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو ، وإن يردك بخير فلا راد لفضله ، يصيب به من يشاء من عباده ، وهو الغفور الرحيم ) . .
فالضر نتيجة لازمة لسنة الله الجارية حين يتعرض الإنسان لأسبابه ، والخير كذلك . .
فإن مسك الله بضر عن طريق جريان سنته فلن يكشفه عنك إنسان ، إنما يكشف باتباع سنته ، وترك الأسباب المؤدية إلى الضر إن كانت معلومة ، أو الالتجاء إلى الله ليهديك إلى تركها إن كانت مجهولة . وإن أراد بك الخير ثمرة لعملك وفق سنته فلن يرد هذا الفضل عنك أحد من خلقه . فهذا الفضل يصيب من عباده من يتصلون بأسبابه وفق مشيئته العامة وسنته الماضية . ( وهو الغفور الرحيم )الذي يغفر ما مضى متى وقعت التوبة ، ويرحم عباده فيكفر عنهم سيئاتهم بتوبتهم وعملهم الصالح وعودتهم إلى الصراط المستقيم .
هذه خلاصة العقيدة كلها ، مما تضمنته السورة ، يكلف الرسول [ ص ] أن يعلنهما للناس ، ويوجه إليه الخطاب بها كأنما على مشهد منهم . وهم هم المقصودون بها . إنما هو أسلوب من التوجيه الموحي المؤثر في النفوس . ويقف رسول الله [ ص ] بها في وجه القوة والكثرة ؛ ووجه الرواسب الجاهلية ، ووجه التاريخ الموغل بالمشركين في الشرك . . يعلنها في قوة وفي صراحة وهو في عدد قليل من المؤمنين في مكة ، والقوة الظاهرة كلها للمشركين . .
ولكنها الدعوة وتكاليفها ، والحق وما ينبغي له من قوة ومن يقين .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَإِن يَمْسَسْكَ اللّهُ بِضُرّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاّ هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَآدّ لِفَضْلِهِ يُصَيبُ بِهِ مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرّحِيمُ } .
يقول تعالى ذكره لنبيه : وإن يصبك الله يا محمد بشدّة أو بلاء فلا كاشف لذلك إلا ربك الذي أصابك به دون ما يعبده هؤلاء المشركون من الاَلهة والأنداد . وَإنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ يقول : وإن يردك ربك برخاء أو نعمة وعافية وسرور ، فَلا رادّ لِفَضْلِهِ يقول : فلا يقدر أحد أن يحول بينك وبين ذلك ولا يردّك عنه ولا يحرمكه لأنه الذي بيده السرّاء والضرّاء دون الاَلهة والأوثان ودون ما سواه . يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ يقول : يصيب ربك يا محمد بالرخاء والبلاء والسرّاء والضرّاء من يشاء ويريد من عباده ، وهو الغفور لذنوب من تاب وأناب من عباده من كفره وشركه إلى الإيمان به وطاعته ، الرحيم بمن آمن به منهم وأطاعه أن يعذّبه بعد التوبة والإنابة .
وقوله { وإن يمسسك الله بضر } الآية ، مقصد هذه الآية أن الحول والقوة لله ، ويبين ذلك للناس بما يحسونه من أنفسهم ، و «الضر » لفظ جامع لكل ما يكرهه الإنسان كان ذلك في ماله أو في بدنه ، وهذه الآية مظهرة فساد حال الأصنام ، لكن كل مميز أدنى ميز يعرف يقيناً أنها لا تكشف ضرّاً ولا تجلب نفعاً ، وقوله { وإن يردك بخير } لفظ تام العموم{[6238]} ، وخصص النبي صلى الله عليه وسلم الفقه بالذكر في قوله «من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين »{[6239]} وهو على جهة التشريف للفقه ، وقوله تعالى : { وهو الغفور الرحيم } ترجية وبسط ووعد َّما .
عطف على جملة : { ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك } [ يونس : 106 ] لقصد التعريض بإبطال عقيدة المشركين أن الأصنام شفعاء عند الله ، فلما أبطَلت الآية السابقة أن تكون الأصنام نافعة أو ضارة ، وكان إسناد النفع أو الضر أكثر ما يقع على معنى صدورهما من فاعلهما ابتداء ، ولا يتبادر من ذلك الإسناد معنى الوساطة في تحصيلهما من فاعل ، عقبت جملة { ولا تدْعُ من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك } [ يونس : 106 ] بهذه الجملة للإعلام بأن إرادة الله النفع أو الضر لأحد لا يستطيع غيره أن يصرفه عنها أو يتعرض فيها إلا من جعل الله له ذلك بدعاء أو شفاعة .
ووجه عطفها على الجملة السابقة لما بينهما من تغاير في المعنى بالتفصيل والزيادة ، وبصيغتي العموم في قوله : { فلا كاشف له إلا هو } وفي قوله : { فلا رادَّ لفضله } الداخل فيهما أصنامهم وهي المقصودة ، كما صُرح به في قوله تعالى في سورة [ الزمر : 38 ] { أفرأيتم ما تدعون من دون الله إن أرادني الله بضر هل هن كاشفات ضره أو أرادني برحمة هل هن مُمسكات رحمته }
وتوجيهُ الخطاب للنبيء لأنه أولى الناس بالخير ونفي الضر . فيعلم أن غيره أولى بهذا الحكم وهذا المقصود .
والمس : حقيقته وضع اليد على جسم لاختبار ملمسه ، وقد يطلق على الإصابة مجازاً مرسلاً . وقد تقدم عند قوله تعالى : { إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان } في آخر سورة [ الأعراف : 201 ] .
والإرادة بالخير : تقديرُه والقصدُ إليه . ولما كان الذي لا يعجزه شيء ولا يتردد علمه فإذا أراد شيئاً فعله ، فإطلاق الإرادة هنا كناية عن الإصابة كما يدل عليه قوله بعده : { يصيب به من يشاء من عباده } . وقد عبر بالمس في موضع الإرادة في نظيرها في سورة [ الأنعام : 17 ] { وإن يمسسك بخير فهو على كل شيء قدير } ولكن عبر هنا بالإرادة مبالغة في سلب المقدرة عمن يريد معارضة مراده تعالى كائناً من كان بحيث لا يستطيع التعرض لله في خيره ولو كان بمجرد إرادته قبل حصول فعله ، فإن التعرض حينئذٍ أهون لأن الدفع أسهل من الرفع ، وأما آية سورة الأنعام فسياقها في بيان قدرة الله تعالى لا في تنزيهه عن المعارض والمعاند .
والفضل : هو الخير ، ولذلك فإيقاعه موقع الضمير للدلالة على أن الخير الواصل إلى الناس فضل من الله لا استحقاق لهم به لأنهم عبيد إليه يصيبهم بما يشاء .
وتنكير ( ضُر ) و ( خير ) للنوعية الصالحة للقلة والكثرة .
وكل من جملة ؛ فلا كاشف له إلا هو } وجملة : { فلا رادَّ لفضله } جواب للشرط المذكور معها ، وليس الجواب بمحذوف .
وجملة : { يصيب به من يشاء من عباده } واقعة موقع البيان لما قبلها والحوصلة له ، فلذلك فصلت عنها .
والضمير المجرور بالباء عائد إلى الخير ، فيكون امتناناً وحثاً على التعرض لمرضاة الله حتى يكون مما حقت عليهم مشيئة الله أن يصيبهم بالخير ؛ أو يعودُ إلى ما تقدم من الضر ، والضمير باعتبار أنه مذكور فيكون تخويفاً وتبشيراً وتحذيراً وترغيباً .
وقد أجملت المشيئة هنا ولم تبين أسبابها ليسلك لها الناس كل مسلك يأملون منه تحصيلها في العطاء وكل مسلك يتقون بوقعهم فيها في الحرمان .
والإصابة : اتصال شيء بآخر ووروده عليه ، وهي في معنى المس المتقدم ، فقوله : { يصيب به من يشاء } هو في معنى قوله في سورة [ الأنعام : 17 ] { وإن يمسسك بخير فهو على كل شيء قدير } .
والتذييل بجملة : { وهو الغفور الرحيم } يشير إلى أن إعطاء الخير فضل من الله ورحمة وتجاوز منه تعالى عن سيئات عباده الصالحين ، وتقصيرهم وغفلاتهم ، فلو شاء لما تجاوز لهم عن شيء من ذلك فتورطوا كلهم .
ولولا غفرانه لَما كانوا أهلاً لإصابة الخير ، لأنهم مع تفاوتهم في الكمال لا يخلون من قصور عن الفضل الخالد الذي هو الكمال عند الله ، كما أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله : « إني ليُغان على قلبي فأستغفر الله في اليوم سبعين مرة » .
ويشير أيضاً إلى أن الله قد تجاوز عن كثير من سيئات عباده المسْرفين ولم يؤاخذهم إلا بما لا يرضى عنه بحال كما قال : { ولا يرضَى لعباده الكفر } [ الزمر : 7 ] ، وأنه لولا تجاوزه عن كثير لمسهم الله بضر شديد في الدنيا والآخرة .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره لنبيه: وإن يصبك الله يا محمد بشدّة أو بلاء فلا كاشف لذلك إلا ربك الذي أصابك به دون ما يعبده هؤلاء المشركون من الآلهة والأنداد. "وَإنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ "يقول: وإن يردك ربك برخاء أو نعمة وعافية وسرور، "فَلا رادّ لِفَضْلِهِ" يقول: فلا يقدر أحد أن يحول بينك وبين ذلك ولا يردّك عنه ولا يحرمكه لأنه الذي بيده السرّاء والضرّاء دون الآلهة والأوثان ودون ما سواه. "يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ" يقول: يصيب ربك يا محمد بالرخاء والبلاء والسرّاء والضرّاء من يشاء ويريد من عباده، "وهو الغفور" لذنوب من تاب وأناب من عباده من كفره وشركه إلى الإيمان به وطاعته، "الرحيم" بمن آمن به منهم وأطاعه أن يعذّبه بعد التوبة والإنابة.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
(وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ) فيه نهي الرجاء والطمع إلى من دونه إذ أخبر أنه لا يوجد ذلك من عند غيره.
(وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ) أخبر أنه إن أراد خيرا وفضلا فلا راد لذلك الفضل والخير. والإيمان من أعظم الخيرات وأفضلها. فإذا أراد الله به الإنسان كان، لا يملك أحد دفع ما أراد ولا رده دل أنه إذا أراد الإيمان لأحد كان مؤمنا.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
أتبع النهي عن عبادة الأوثان ووصفها بأنها لا تنفع ولا تضرّ، أنّ الله عزّ وجلّ هو الضارّ النافع، الذي إن أصابك بضرّ لم يقدر على كشفه إلاّ هو وحده دون كل أحد، فكيف بالجماد الذي لا شعور به. وكذلك إن أرادك بخير لم يرد أحد ما يريده بك من فضله وإحسانه، فكيف بالأوثان؟ فهو الحقيق إذاً بأن توجه إليه العبادة دونها...
فإن قلت: لم ذكر المسّ في أحدهما، والإرادة في الثاني؟ قلت: كأنه أراد أن يذكر الأمرين جميعاً: الإرادة والإصابة في كل واحد من الضرّ والخير، وأنه لا رادّ لما يريده منهما، ولا مزيل لما يصيب به منهما، فأوجز الكلام بأن ذكر المسّ وهو الإصابة في أحدهما، والإرادة في الآخر؛ ليدلّ بما ذكر على ما ترك...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
{وإن يمسسك الله بضر...}، مقصد هذه الآية أن الحول والقوة لله، ويبين ذلك للناس بما يحسونه من أنفسهم...
... {وإن يردك بخير} يدل على أن المقصود هو الإنسان وسائر الخيرات مخلوقة لأجله...
البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :
وجاء "فلا رادّ لفضله "سمى الخير فضلاً إشعاراً بأنّ الخيور من الله تعالى، هي صادرة على سبيل الفضل والإحسان والتفضل. ثم اتسع في الإخبار عن الفضل والخير فقال: "يصيب به من يشاء من عباده"، ثم أخبر بالصفتين الدالتين على عدم المؤاخذة وهما: "الغفور" الذي يستر ويصفح عن الذنوب، "والرحيم" الذي رحمته سبقت غضبه...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ثم قال تعالى عاطفاً على قوله {فإن فعلت}: {وإن يمسسك الله} أي الذي لا راد لأمره {بضر} أي أيّ ضر كان على أي وجه كان وإن كان ظاهراً جداً بما أنبأ عنه الإظهار {فلا كاشف له} أي أصلاً بوجه من الوجوه {إلا هو} لأنه أراده وما أراده لا يكون غيره فلا ترج سواه في أن يبذله بخير، وعبر بالمس لأنه أخوف {وإن يردك} أي مطلق إرادة {بخير فلا} أي أصابك لا محالة فإنه لا {راد} ونبه على أنه لا يجب عليه سبحانه شيء بأن وضع مكان الضمير قوله: {لفضله} أي عمن يريده به كما يفعل بعض العاتين من أتباع ملوك الدنيا في رد بعض ما يريدون، بل هو بحيث لا ينطق أحد إلا بإذنه فلا تخش غيره، فالآية من الاحتباك: ذكر المس أولاً دليلاً على إرادته ثانياً، والإرادة ثانياً دليلاً على حذفها أولاً، ولم يستثن في الإرادة كما استثنى في الكشف لأن دفع المراد محال، وعبر بالإرادة في الخير وبالمس في الضير تنبيهاً على أنه صلى الله عليه وسلم مراد بالخير بالذات وبالضر بالعرض تطييباً لقلبه لما تكرر في هذه السورة من الإخبار بإحقاق العذاب على الفاسقين والإيئاس من الظالمين، فلما تقرر ذلك حسن موقع قوله مبيناً لحال ذلك الفضل: {يصيب به} أي بذلك الفضل أو بالذي تقدم من الخير والضير {من يشاء} أي كائناً من كان من أدنى وأعلى، وبين العلة في كونهم مقهورين بقوله: {من عباده} وهذا كله إشارة إلى أن ما أوجب الإعراض عن معبوداتهم بانسلابه عنها أوجب الإقبال عليه بثبوته له واختصاصه به، وختم الآية بقوله: {وهو الغفور} أي البليغ الستر للذنوب {الرحيم} أي البالغ في الإكرام إشارة إلى أن إصابته بالخير لا يمكن أن يكون إلا فضلاً منه بعد الستر للذنوب والرحمة للضعف، فهو الحقيق بأن يعبد...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{وإِن يَمْسَسْكَ اللّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُو} هذه الآية مؤكدة لما قبلها، داحضة لشبهة الذين يدعون غير الله بأنهم طالما استفادوا من دعائهم والاستغاثة بهم فشفيت أمراضهم، وكبتت أعداؤكم، وكشف الضر عنهم، وأسدي الخير إليهم، يقول تعالى لكل مخاطب بهذه الدعوة إلى توحيد الإسلام، بكلام الله و تبليغ محمد عليه أفضل الصلاة والسلام: وإن يمسسك الله أيها الإنسان بضر كمرض يصيبك بمخالفة سننه في حفظ الصحة، أو ظلم يقع عليك من الحكام المستبدين، أو غيرهم من الأعداء المعتدين، فلا كاشف له إلا هو، وقد جعل لكل شيء سببا يعرفه خلقه بتجاربهم، ككشف الأمراض بمعرفة أسبابها، وخواص العقاقير التي تداوى بها، وتكل أعمالها إلى أربابها، وتأتي سائر البيوت من أبوابها، مع الإيمان والشكر لمسخرها، فإن جهلت الأسباب أو أعياك أمرها فتوجه إلى الله وحده، وادعه مخلصا له الدين متوكلا عليه وحده، يسخر لك ما شاء أو من شاء من خلقه، أو يشفك من مرضك بمحض فضله، كما ضربت لك الأمثال في هذه السورة وغيرها من كتابة.
{وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْر} يهبه بتسخير أسبابه لك، وبغير سبب ولا سعي منك، {فَلاَ رَآدَّ لِفَضْلِهِ} أي فلا أحد ولا شيء يرد فضله الذي تتعلق به إرادته، فما شاء كان حتما، فلا ترج الخير والنفع إلا من فضله، ولا تخف رد ما يريده لك من أحد غيره.
{يُصِيبُ بِهِ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} يصيب بالخير من يشاء من عباده بكسب وبغير كسب، وبسبب مما قدره في السنن العامة وبغير سبب، ففضله تعالى على عباده عام بعموم رحمته، بخلاف الضر؛ فإنه لا يقع بسبب من الأسباب الخاصة بكسب العبد، أو العامة في نظام الخلق، فالأول معلوم كالأمراض التي تعرض بترك أسباب الصحة والوقاية جهلا أو تقصيرا، وفساد العمران وسقوط الدول الذي يقع بترك العدل، وكثرة الفسق والظلم، والثاني كالضرر الذي يعرض من كثرة الأمطار، وطغيان البحار والأنهار، وزلازل الأرض وصواعق السماء.
{وَهُو الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} ولولا مغفرته الواسعة لأهلك جميع الناس بذنوبهم في الدنيا قبل الآخرة {وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير} [الشورى: 30] {ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة} [فاطر: 45].
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
هذا من أعظم الأدلة على أن الله وحده المستحق للعبادة، فإنه النافع الضار، المعطي المانع، الذي إذا مس بضر، كفقر ومرض، ونحوها {فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ} لأن الخلق، لو اجتمعوا على أن ينفعوا بشيء، لم ينفعوا إلا بما كتبه الله، ولو اجتمعوا على أن يضروا أحدا، لم يقدروا على شيء من ضرره، إذا لم يرده الله وَهُوَ الْغَفُورُ} لجميع الزلات، الذي يوفق عبده لأسباب مغفرته، ثم إذا فعلها العبد، غفر الله ذنوبه، كبارها، وصغارها.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
فالضر نتيجة لازمة لسنة الله الجارية حين يتعرض الإنسان لأسبابه، والخير كذلك..
فإن مسك الله بضر عن طريق جريان سنته فلن يكشفه عنك إنسان، إنما يكشف باتباع سنته، وترك الأسباب المؤدية إلى الضر إن كانت معلومة، أو الالتجاء إلى الله ليهديك إلى تركها إن كانت مجهولة. وإن أراد بك الخير ثمرة لعملك وفق سنته فلن يرد هذا الفضل عنك أحد من خلقه. فهذا الفضل يصيب من عباده من يتصلون بأسبابه وفق مشيئته العامة وسنته الماضية. (وهو الغفور الرحيم) الذي يغفر ما مضى متى وقعت التوبة، ويرحم عباده فيكفر عنهم سيئاتهم بتوبتهم وعملهم الصالح وعودتهم إلى الصراط المستقيم.
هذه خلاصة العقيدة كلها، مما تضمنته السورة، يكلف الرسول [صلى الله عليه وسلم] أن يعلنهما للناس، ويوجه إليه الخطاب بها كأنما على مشهد منهم. وهم هم المقصودون بها. إنما هو أسلوب من التوجيه الموحي المؤثر في النفوس. ويقف رسول الله [صلى الله عليه وسلم] بها في وجه القوة والكثرة؛ ووجه الرواسب الجاهلية، ووجه التاريخ الموغل بالمشركين في الشرك.. يعلنها في قوة وفي صراحة وهو في عدد قليل من المؤمنين في مكة، والقوة الظاهرة كلها للمشركين..
ولكنها الدعوة وتكاليفها، والحق وما ينبغي له من قوة ومن يقين.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
... والإرادة بالخير: تقديرُه والقصدُ إليه. ولما كان الذي لا يعجزه شيء ولا يتردد علمه فإذا أراد شيئاً فعله، فإطلاق الإرادة هنا كناية عن الإصابة كما يدل عليه قوله بعده: {يصيب به من يشاء من عباده}. وقد عبر بالمس في موضع الإرادة في نظيرها في سورة [الأنعام: 17] {وإن يمسسك بخير فهو على كل شيء قدير} ولكن عبر هنا بالإرادة مبالغة في سلب المقدرة عمن يريد معارضة مراده تعالى كائناً من كان بحيث لا يستطيع التعرض لله في خيره ولو كان بمجرد إرادته قبل حصول فعله، فإن التعرض حينئذٍ أهون لأن الدفع أسهل من الرفع، وأما آية سورة الأنعام فسياقها في بيان قدرة الله تعالى لا في تنزيهه عن المعارض والمعاند.
والفضل: هو الخير، ولذلك فإيقاعه موقع الضمير للدلالة على أن الخير الواصل إلى الناس فضل من الله لا استحقاق لهم به لأنهم عبيد إليه يصيبهم بما يشاء.
وتنكير (ضُر) و (خير) للنوعية الصالحة للقلة والكثرة.
وكل من جملة؛ فلا كاشف له إلا هو} وجملة: {فلا رادَّ لفضله} جواب للشرط المذكور معها، وليس الجواب بمحذوف.
...وقد أجملت المشيئة هنا ولم تبين أسبابها ليسلك لها الناس كل مسلك يأملون منه تحصيلها في العطاء وكل مسلك يتقون بوقعهم فيها في الحرمان.
والإصابة: اتصال شيء بآخر ووروده عليه، وهي في معنى المس المتقدم، فقوله: {يصيب به من يشاء} هو في معنى قوله في سورة [الأنعام: 17] {وإن يمسسك بخير فهو على كل شيء قدير}.
والتذييل بجملة: {وهو الغفور الرحيم} يشير إلى أن إعطاء الخير فضل من الله ورحمة وتجاوز منه تعالى عن سيئات عباده الصالحين، وتقصيرهم وغفلاتهم، فلو شاء لما تجاوز لهم عن شيء من ذلك فتورطوا كلهم.
ولولا غفرانه لَما كانوا أهلاً لإصابة الخير، لأنهم مع تفاوتهم في الكمال لا يخلون من قصور عن الفضل الخالد الذي هو الكمال عند الله، كما أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: « إني ليُغان على قلبي فأستغفر الله في اليوم سبعين مرة».
ويشير أيضاً إلى أن الله قد تجاوز عن كثير من سيئات عباده المسْرفين ولم يؤاخذهم إلا بما لا يرضى عنه بحال كما قال: {ولا يرضَى لعباده الكفر} [الزمر: 7]، وأنه لولا تجاوزه عن كثير لمسهم الله بضر شديد في الدنيا والآخرة.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
بين الله تعالى أن من الإثم البالغ والضلال البعيد عبادة ما لا يضر ولا ينفع من جماد وغيره، ثم يبين سبحانه في هذه الآية أنه هو الذي ينفع ويضر والنفع يشاؤه لعباده والضرر يكتبه عليهم.
{وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو}. المس إصابة الإحساس بالألم والانزعاج، وأنه لا كاشف له إلا الله، أي رافعه ومزيله، وقد عبر سبحانه عن إزالته بالكشف؛ لأنه يكون كالغمة تصيب النفس وتستولي عليها ولا تنحسر إلا بأمر من الله تعالى. والضمير {هو} يعود على الله سبحانه وتعالى ذى الجلال والإكرام وهو يجب أن يكون مذكورا في النفس حاضرا في القلب دائما، فالضمير يعود إلى معلوم في النفوس والقلوب.
ويقول سبحانه: {وإن يردك بخير فلا راد لفضله}، وهنا نجد إشارتين بيانيتين:
الإشارة الأولى – التعبير باسم الفاعل في قوله تعالى: {فلا راد لفضله} وهذا يفيد أنه لا يوجد من يستطيع رده فليس الكلام لمجرد الرد، بل هو نفى لوجود من يستطيع الرد ويقدر عليه.
والإشارة الثانية – قوله تعالى: {لفضله}، فيها إظهار في موضع الإضمار، ذلك لبيان أنه لفضل من الله ورحمة منه سبحانه وأنه واجب الشكر على هذه النعمة، وجاء التعبير هنا بقوله تعالى: {وإن يردك بخير} للإشارة إلى أن الخير مراد لله تعالى مقصود إنزاله بالشخص، وفي التعبير إبهام ثم بيان للتوكيد قال تعالى: {وإن يدرك} ثم قال سبحانه: {بخير} فكان الأخير بيانا لإرادة الله تعالى بالعبد، ثم قال تعالى: {يصيب به من يشاء من عباده} أي يصيب بهذا الفضل من تتعلق به مشيئته الله من عباده.
وتتعلق مشيئة الله بمن يسير في طريق الخير كما كتبه الله تعالى فيوصله إلى غايته، والخير المذكور في الآية هو النفع والهداية والاتجاه إلى الله ورجاء رحمته، ثم يختم الله تعالى هذه الآية بقوله: {وهو الغفور الرحيم} أي أن مغفرته تعالى وقبوله التوبة هو الخير الذي يشاؤه لعباده، ومغفرته من رحمته؛ لأنه سبحانه يريد لهم الخير برحمته وفضله، والشيطان يسول لهم الشر، فالذين مكنوا الشيطان من نفوسهم حرموا من الخير، ومن أبعدوا وساوسه فقد اتجهوا إلى الله، وكل شيء بعلمه وتقديره سبحانه، كل شيء عنده بمقدار عالم الغيب والشهادة الكبير المتعال.
هذا كلام الربوبية المستغنية عن الخلق، فالله سبحانه وتعالى خلق الناس، ودعاهم إلى الإيمان به، وأن يحبوه؛ لأنه يحبهم، ويعطيهم، ولا يأخذ منهم؛ لأنه في غنى عن كل خلقه.
ويأتي الكلام عن الضرّ هنا بالمسّ، {وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو}: ونحن نعلم أن هناك "مسا "و "ولمسا" و "إصابة".
وقوله سبحانه هنا عن الضر يشير إلى مجرد المسّ، أي: الضر البسيط، ولا تقل: إن الضر ما دام صغيرا فالخلق يقدرون عليه، فلا أحد يقدر على الضر أو النفع، قلّ الضر أم كبر، وكثر النفع أو قلّ، إلا بإذن من الله تعالى.
والحق سبحانه وتعالى يذكر الضر هنا بالمسّ، أي: أهون الالتصاقات، ولا يكشفه إلا الله سبحانه وتعالى.
ومن عظمته-جلّ وعلا-أنه ذكر مع المس بالضر، والكشف عنه، وهذه هي الرحمة.
ثم يأتي سبحانه بالمقابل، وهو" الخير"، وحين يتحدث عنه الحق سبحانه، يؤكد أنه لا يرده.
ونحن نجد كلمة {يصيب} في وصف مجيء الخير للإنسان، فالحق سبحانه يصيب به من يشاء من عباده.
وينهي الحق سبحانه وتعالى الآية بهذه النهاية الجميلة في قوله تعالى: {.. وهو الغفور الرحيم}: وهكذا تتضح لنا صورة جلال الخير المتجلي على العباد، ففي الشر جاء به مسا، ويكشفه، وفي الخير يصيب به العباد، ولا يمنعه.
والله تعالى هو الغفور الرحيم؛ لأنه سبحانه لو عامل الناس-حتى المؤمنين منهم-بما يفعلون لعاقبهم، ولكنه سبحانه غفور ورحيم؛ لأن رحمته سبقت غضبه؛ ولذلك نجده سبحانه في آيات النعمة يقول: {وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها} [النحل 18]...