وبعد هذا الاستعراض السريع يجيء ذكر استهزائهم برسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وقد سبقه تطاولهم على ربهم ، واعتراضهم على طريقة تنزيل القرآن . وسبقه كذلك مشاهدهم المفجعة في يوم الحشر ، ومصارع المكذبين أمثالهم في هذه الأرض . . كل أولئك تطييبا لقلب الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] قبل ذكر استهزائهم به وتوقحهم عليها . ثم يعقب عليه بتهديدهم وتحقيرهم وتنزيلهم إلى أحط من درك الحيوان .
( وإذا رأوك إن يتخذونك إلا هزوا . أهذا الذي بعث الله رسولا ? إن كاد ليضلنا عن آلهتنا لولا أن صبرنا عليها ، وسوف يعلمون حين يرون العذاب من أضل سبيلا . أرأيت من اتخذ إلهه هواه أفأنت تكون عليه وكيلا ? أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون ? إن هم إلا كالأنعام ، بل هم أضل سبيلا ) .
ولقد كان محمد [ صلى الله عليه وسلم ] ملء السمع والبصر بين قومه قبل بعثته . فقد كان عندهم ذا مكانة من بيته وهو من ذروة بني هاشم وهم ذروة قريش . وكان عندهم ذا مكانة من خلقه وهو الملقب بينهم بالأمين . ولقد ارتضوا حكومته بينهم في وضع الحجر الأسود قبل البعثة بزمن طويل . ويوم دعاهم على الصفا فسألهم أيصدقونه لو أخبرهم أن خيلا بسفح هذا الجبل قالوا : نعم أنت عندنا غير متهم .
ولكنهم بعد البعثة وبعد أن جاءهم بهذا القرآن العظيم راحوا يهزأون به ويقولون : ( أهذا الذي بعث الله رسولا ? )وهي قولة ساخرة مستنكرة . . أكان ذلك عن اقتناع منهم بأن شخصه الكريم يستحق منهم هذه السخرية ، وأن ما جاءهم به يستحق منهم هذا الاستهزاء ? كلا . إنما كانت تلك خطة مدبرة من كبراء قريش للتصغير من أثر شخصيته العظيمة ومن أثر هذا القرآن الذي لا يقاوم . وكانت وسيلة من وسائل مقاومة الدعوة الجديدة التي تهددهم في مراكزهم الاجتماعية وأوضاعهم الاقتصادية ، وتجردهم من الأوهام والخرافات الاعتقادية التي تقوم عليها تلك المراكز وهذه الأوضاع .
ولقد كانوا يعقدون المؤتمرات لتدبير المؤامرات المحبوكة ، ويتفقون فيها على مثل هذه الوسيلة وهم يعلمون كذبهم فيها عن يقين :
روى ابن إسحاق أن الوليد بن المغيرة اجتمع إليه نفر من قريش - وكان ذا سن فيهم - وقد حضر الموسم - موسم الحج - فقال لهم : يا معشر قريش : إنه قد حضر هذا الموسم ، وإن وفود العرب ستقدم عليكم فيه ، وقد سمعوا بأمر صاحبكم هذا ، فأجمعوا فيه رأيا واحدا ، ولا تختلفوا فيكذب بعضكم بعضا ، ويرد قولكم بعضه بعضا . قالوا : فأنت يا أبا عبد شمس ، فقل وأقم لنا رأيا نقول به . قال : بل أنتم فقولوا أسمع . قالوا : نقول كاهن . قال لا والله ما هو بكاهن . لقد رأينا الكهان فما هو بزمزمة الكاهن ولا سجعه قالوا : فنقول : إنه مجنون قال : ما هو بمجنون ، لقد رأينا الجنون وعرفناه ، فما هو بخنقه ولا تخالجه ولا وسوسته . قالوا : فنقول شاعر قال : ما هو بشاعر ، لقد عرفنا الشعر كله رجزه وهزجه وقريضه ومقبوضه ومبسوطه ، فما هو بالشعر . قالوا : فنقول ساحر . قال ما هو بساحر ، لقد رأينا السحار وسحرهم ، فما هو بنفثهم ولا عقدهم . قالوا : فما تقول يا أبا عبد شمس ? قال : والله إن لقوله طلاوة ، وإن أصله لعذق ، وإن فرعه لجناة وما أنتم بقائلين من هذا شيئا إلا عرف أنه باطل ، وإن أقرب القول فيه لأن تقولوا : ساحر جاء يقول هو سحر يفرق بين المرء وأبيه ، وبين المرء وأخيه ، وبين المرء وزوجه ، وبين المرء وعشيرته . . فتفرقوا عنه بذلك . فجعلوا يجلسون بسبل الناس حين قدموا الموسم ، لا يمر بهم أحد إلا حذروه إياه ، وذكروا لهم أمره .
فهذا مثل من الكيد والتدبير يشي بحيرة القوم في المؤامرات ضد رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] ومعرفتهم بحقيقته في الوقت ذاته . فما كان اتخاذهم إياه هزوا ، وقولهم ساخرين : ( أهذا الذي بعث الله رسولا ? )بصورة الاستغراب والاستنكار والزراية إلا طرفا من تلك المؤامرات المدبرة لا ينبعث عن حقيقة شعورية في نفوسهم ، إنما يتخذ وسيلة للحط من قدره في أعين الجماهير ، التي يحرص سادة قريش على استبقائها تحت وصايتهم الدينية ، استبقاء للمراكز الاجتماعية والأوضاع الاقتصادية التي يتمتعون بها في ظل تلك الوصاية ! شأن قريش في هذا شأن أعداء دعوات الحق ودعاتها في كل زمان وفي كل مكان .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَإِذَا رَأَوْكَ إِن يَتّخِذُونَكَ إِلاّ هُزُواً أَهََذَا الّذِي بَعَثَ اللّهُ رَسُولاً } .
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : وإذا رآك هؤلاء المشركون الذين قصصت عليك قصصهم إنْ يَتّخِذُونَكَ إلاّ هُزُوا يقول : ما يتخذونك إلا سخرية يسخرون منك ، يقولون : أهذا الّذِي بَعثَ اللّهُ إلينا رَسُولاً من بين خلقه .
كان ما تقدمت حكايته من صنوف أذاهُم الرسولَ عليه الصلاة والسلام أقوالاً في مغيبه ، فعُطف عليها في هذه الآية أذى خاص وهو الأذى حين يرونه . وهذا صنف من الأذى تبعثهم إليه مشاهدة الرسول في غير زيّ الكبراء والمترَفين لا يجرّ المطارف ولا يركب النجائب ولا يمشي مرحاً ولا ينظر خُيلاء ويجالس الصالحين ويُعرض عن المشركين ، ويرفق بالضعفاء ويواصل الفقراء ، وأولئك يستخفون بالخلُق الحسن ، لما غلب على آرائهم من أفَن ، لذلك لم يخل حاله عندهم من الاستهزاء به إذا رَأوه بأن حاله ليست حال من يختاره الله لرسالته دونَهم ، ولا هو أهل لقيادتهم وسياستهم . وهذا الكلام صدر من أبي جهل وأهل ناديه .
و { إذا } ظرف زمان مضمَّن معنى الشرط فلذلك يجعل متعلَّقه جواباً له . فجملة { إن يتخذونك إلا هزؤاً } جوابُ { إذا } . والهُزُؤ بضمتين : مصدر هزأ به . وتقدم في قوله : ( تعالى ) { قالوا أتَتّخِذُنا هُزوءاً } في سورة البقرة ( 67 ) . والوصف للمبالغة في استهزائهم به حتى كأنه نفس الهُزؤ لأنهم محَّضوه لذلك ، وإسناد { يتخذونك } إلى ضمير الجمع للدلالة على أن جماعاتهم يستهزئون به إذا رأوه وهم في مجالسهم ومنتدياتهم . وصيغة الحصر للتشنيع عليهم بأنهم انحصر اتخاذُهم إياه في الاستهزاء به يلازمونه ويدْأبون عليه ولا يخلطون معه شيئاً من تذكر أقواله ودعوته ، فالاستثناء من عموم الأحوال المنفية ، أي لا يتخذونك في حالة إلا في حالة الاستهزاء .
وجملة { أهذا الذي بعث الله رسولاً } بيان لجملة { إن يتخذونك إلا هزؤاً } لأن الاستهزاء من قبيل القول فكان بيانه بما هو من أقوالهم ومجاذَبتهم الأحاديث بينهم .
والاستفهام إنكار لأن يكون بعثَه الله رسولاً .
واسم الإشارة مستعمل في الاستصغار كما علمت في أول تفسير هذه الآية .
والمعنى : إنكار أن يكون المشار إليه رسولاً لأن في الإشارة إليه ما يكفي للقطع بانتفاء أنه رسول الله في زعمهم ، وقد تقدم قريب من هذه الجملة في قوله تعالى : { وإذا رآك الذين كفروا إن يتخذونك إلا هُزؤاً أهذا الذي يذكر آلهتكم } في سورة الأنبياء ( 36 ) ، سوى أن الاستفهام هنالك تعجبي فانظره .
قولهم إن كاد ليضلنا عن آلهتنا لولا أن صبرنا عليها } فالمقصود منه تفاخرهم بتصلبهم في دينهم وأنهم كادوا أن يتبعوا دعوة الرسول بما يلقيه إليهم من الإقناع والإلحاح فكان تَأثر أسماعِهم بأقواله يُوشك بهم أن يرفضوا عبادة الأصنام لولا أنهم تريَّثوا ، فكان في الريث أن أفاقوا من غِشاوة أقواله وخلابة استدلاله واستبصروا مرآة فانجلى لهم أنه لا يستأهل أن يكون مبعوثاً من عند الله ، فقد جمعوا من كلامهم بين تزييف حجته وتنويه ثباتهم في مقام يَستفز غير الراسخين في الكفر . وهذا الكلام مشوب بفَسادِ الوضع ومؤلف على طرائق الدهماء إذ يتكلمون كما يشتهون ويستبلهون السامعين .
ومن خلابة المغالطة إسنادهم مقاربة الإضلال إلى الرسول دون أنفسهم ترفعاً على أن يكونوا قاربوا الضلال عن آلهتهم مع أن مقاربته إضلالَهم تستلزم اقترابهم من الضلال .